إيطاليا والانحراف اليميني الخطير

المهدي مبروك

لم يكن أحد يتوقّع أن تُقدم السلطات الإيطالية على طرد شابَّين تونسيَّين على خلفية رفع العلم الفلسطيني برفقة العلم التونسي ليلة رأس السنة، في إحدى ساحات مدينة ميلانو (بيازا دمو)، حيث يجتمع عادة الشباب القادمون من كلّ أنحاء إيطاليا، وحتى خارجها، لإحياء ليلة رأس السنة. ولا أحد يعرف تفاصيل ما حدث، سوى أن مجموعة من الشباب المغاربة تسلّقت النصب التذكاري الكبير، وهو ما يفعله غيرهم في مناسبات إيطالية وطنية، أو حتى احتفاءً بأحداث كروية مهمّة، وفجأةً رفع العلم الفلسطيني، وأطلق بعضهم شعارات نابية تستهجن موقف إيطاليا من القضية الفلسطينية، وانتهى الاحتفاء، وعاد الشباب من دون وقوع أيّ مصادمات أو مناوشات مع من تحلّقوا هناك. ربما لم تدم تلك المشاهد سوى ربع ساعة.
غير أن شبكات التواصل الاجتماعي، التي أعادت نشر تلك اللقطات، هيّجت مشاعر العداء لدى اليمين القاطن بتلك الشبكات، وتحوّلت محاكماتٍ للشباب التونسي، والعربي عموماً، الذي استغلّ تلك الفرصة، حسب تلك الجهات، لمساندة القضية الفلسطينية، والتنديد بالموقف الرسمي للسلطات الإيطالية. ولكن سرعان ما اتّخذت الأمور منحىً مختلفاً وخطيراً حين صرّح وزير النقل الإيطالي ونائب رئيسة وزراء إيطاليا، ماتيو سالفيني، أياماً قليلةً بعد تلك الحادثة، بأن ما جرى كان جريمةً لا يمكن التسامح معها لأسباب عديدة، أوّلها أنها تخترق الثوابت الإيطالية، حسب زعمه، فإذا كان الشباب التونسي يساندون فلسطين فعليهم أن يعودوا إلى بلدهم، هناك حيث يمكن لهم مساندة الفلسطينيين كيفما شاؤوا، كذلك فإن تنديد الشابّين التونسيين بالموقف الرسمي الإيطالي ورد، حسب اعتقاده، في لغة “وضيعة” لا يمكن التسامح معها، وهي إهانة لبلده. بعد ساعات قليلة، قُبِض على الشابّين بعد التعرّف إليهما وطردا إلى تونس.

منذ صعودها رئيسة للوزراء سارعت جورجيا ميلوني إلى التنسيق مع تونس، مستغلّةً صعود الرئيس سعيّد الذي يقاسمها عدداً من المواقف والآراء بشأن “خطر الهجرة

هذا الموقف الأرعن الذي أبدته السلطات الإيطالية، فيه كثير من التسرّع والعجرفة، فضلاً عن انتهاك حقوق المهاجرين، إذ استُعمِلت السلطات الواسعة التي يتمتّع بها الجهاز التنفيذي في التعامل مع المهاجرين من دون انتظار كلمة القضاء، وما كان للسلطات الإيطالية أن تذهب بعيداً في ذلك لولا تواطؤ السلطات التونسية الضمني معها. ويأتي هذا الاجراء المنافي لأبسط حقوق المهاجرين بعد أسبوع تقريباً من احتفاء العالم بإحياء اتفاقية الأمم المتحدة لحماية حقوق المهاجرين، التي أُصدِرت بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول 1990، وتضمن حقّ المهاجرين في التعبير عن آرائهم في جميع المسائل التي يرونها جديرةً بذلك، باعتبارها حقوقاً إنسانية شاملةً لا يمكن التمييز فيها بين “مواطني البلد” والأجانب. وما كان يمكن في الحالات كلّها أن تتمكّن السلطات الإيطالية من ترحيل الشابَّين التونسيَّين لولا تلك الاتفاقية التي أمضتها السلطات الإيطالية مع نظيرتها التونسية، القاضية بترحيل المهاجرين التونسيين وقبولهم، وهي الاتفاقية التي وقِّعت في عهد الرئيس قيس سعيّد من دون أن نتعرّف إلى تفاصيلها، رغم مطالبة العديد من نشطاء حقوق الإنسان، وحتى النخب السياسية، بالاطلاع على فحواها.
تبدو الأمور غير مفاجئة، سواء في تفاصيل رفع العلم الفلسطيني هناك وردّات الفعل الرسمية التي عقبتها، أو في ترحيل الشابَّين إلى بلدهم، إذا ما وضعنا ذلك كلّه في سياق ما جرى بين البلدَين (ويجري حالياً). فمنذ صعود جورجيا ميلوني ذات التوجّهات الشعبوية اليمينية، آلت على نفسها، واحتراماً لتعهداتها، بمكافحة الهجرة ومطاردة اللاجئين، ولو كان ذلك دوساً لحقوقهم الإنسانية الدنيا، وسارعت إلى التنسيق مع تونس، البلد الوحيد من بلدان المغرب العربي الذي قبل ذلك، مستغلّةً صعود الرئيس سعيّد الذي يقاسم ميلوني عدداً من المواقف والآراء بشأن “خطر الهجرة”، وقد تعزّزت زياراتها، وتكثّفت أيضاً زيارات مسؤولي حكومتها لتونس، وخصوصاً وزيرَي الخارجية والداخلية، كذلك نُسِّق أمنياً بين البلدَين، فضلاً عن مساعدات سخيّة قدّمتها إيطاليا إلى خفر السواحل التونسي رفعاً لجاهزيته ولجودة أدائه كلّما تعلّق الأمر بمنع تسلّل المهاجرين من جنوب حوض المتوسط إلى شماله.
تتزامن هذه المواقف الإيطالية اليمينيّة المتشدّدة مع مواقفَ سياسيةٍ من قضايا خارجية تتناغم مع اليمين الأوروبي الصاعد، وتدعم الاصطفاف وراء المواقف الأميركية عموماً، سواء تجاه ما يجري في أوكرانيا أو تجاه الحرب الصهيونية على غزّة. كانت رئيسة الوزراء الإيطالية من أول من زار الرئيس الأميركي القادم ترامب، للتعبير له مبكّراً عن هذا الولاء السياسي في منطقة تحتاج فيها الولايات المتحدة إلى أكثر من حليف، ترسيخاً لموقع قدم، تزداد أهميته منذ 7 أكتوبر (2023).

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى