فيما يخصّ تعديل المناهج: نعم للحرية لا للجهل

مصعب الحمادي

اليوم وقد أشرقت شمس الحرية على بلدنا سوريا، علينا أن نمضي في طريق التنوير والحداثة لا أن نستخدم حريتنا كي ننكص ونرتدّ إلى الجهل والتخلف.

ما تسرّب عن خطط وزارة التربية في الحكومة الانتقالية لتعديل المناهج وحذف ما له علاقة بنشأة الحياة وتطور الدماغ لا يسيء لموقفنا من العلم والمعرفة فحسب، بل يستهين بالمثل الدينية التي يبدو أن السيد وزير التربية يرمي إلى حمايتها.

الدين ببساطة ليس ضد العلم ولا يتناقض مع النظريات والكشوفات العلمية الحديثة، وأي توهّم بالتعارض هو عجزٌ في تأويل الدين على النحو الذي يتيح لنا تحقيق التقدم والسعادة في الحياة، وهذا العجز لو حصل سيكون مبعثاً للركود والتخلف وبوابةً للدخول تحت سيطرة الدول الأخرى المتقدمة.

قديماً قال الأديب المصري الراحل سلامة موسى، إن “الأمم التي تمارس العلم سوف تسخّر الأمم التي لا تمارس العلم كما نسخّر نحن البغال والحمير”، وهذا لعمري قولٌ يصحّ اليوم أكثر بكثيرٍ مما كان يصحّ عندما قاله صاحبه قبل حوالي مئة سنة.

ثم قبل سبعة ملايين سنة انفصل أشباه الإنسان عن القردة العليا، أعقب ذلك تطور جنس الإنسان (Homo) قبل حوالي ثلاثة ملايين سنة، روّض جنس الإنسان النار وبدأ أكل اللحم المشوي ما أدّى إلى نمو دماغه وضمور أنيابه..

بدأت الحياة في كوكبنا على شكل جزيئاتٍ عضوية معقدة قبل حوالي أربعة مليارات سنة وهي منذ ذلك الوقت في حالةٍ مستمرة من التنوع والتطور بفعل آلياتٍ من قبيل الطفرات الجينية، والانتقاء الطبيعي، والتكيف.

ثم قبل سبعة ملايين سنة انفصل أشباه الإنسان عن القردة العليا، أعقب ذلك تطور جنس الإنسان (Homo) قبل حوالي ثلاثة ملايين سنة، روّض جنس الإنسان النار وبدأ أكل اللحم المشوي ما أدّى إلى نمو دماغه وضمور أنيابه إلى أن انبثق عنه قبل ثلاثمئة ألف سنة الإنسان العاقل (Homo Sapiens) الذي صار لديه بفضل الدماغ الكبير مقدرة على التفكير، وبفضل الحنجرة الصالحة والأسنان الناعمة القدرة على النطق والكلام.

هذا الإنسان العاقل انحدرنا منه نحن البشر المعاصرين، ولعلم السيد وزير التربية فإن الدماغ -نعم- تطور عبر مراحل، والأمر كما يرى أن الجنس البشري ذاته هو حصيلة عملية تطورية مديدة وهذا لا يتناقض مع القرآن ولا مع الدين، بل هو برأي مفتي طرابلس الشيخ نديم الجسر -في كتابه “قصة الإنسان” الصادر عام 1956- جزءٌ من خطة إلهية تقتضي أن يكون الخلق عملية مستمرة تتطور على مرّ العصور على أن يكون حركةً واحدة حدثت لمرةٍ في نقطة من التاريخ وانتهت، وفي هذا تجلي أكبر لعظمة الخالق.

نشأة الكون وتمدّده، مبدأ الإنتروبيا وقوانين الديناميكية الحرارية، تطور الحياة ونشأة الوعي، نسيج الواقع وطبيعة المادة كل هذه الأمور هي حقول علمية عظيمة تتطور قدماً يوماً بعد يوم وتمدنا بالإجابات الرائعة على أسئلة الأصول التي تشغلنا جميعاً ولا أرى أن من صالح وزارة التربية في أي دولةٍ من دول الجنوب التي لا تنتج العلم أن تورّط نفسها بالصدام مع نتائج هذه الحقول العلمية البحتة.

فما دمنا لا ننتج العلم -وهذه طامّة كبرى- فلا نزيدنّ الأمر على أنفسنا فنتنكر للعلم ونرتد للجهل متوهمين أننا نمارس الحرية ونحافظ على الدين، في حين نحن في الحقيقة نرفس الحرية ونقود الدين إلى الهدم فنضعه في خصومةٍ مع العقل ومع العلم الحديث.

سوريا فيها مذاهب إسلامية كثيرة وسيكون من الإرهاق إيجاد كتابٍ واحد لتدريسه لكل الأطفال المسلمين على اختلاف مذاهب أهلهم وأشكال تدينهم..

ولن أدخل هنا في معارضة التعديلات الكارثية المقترحة على مادة التربية الإسلامية في المدارس فهذا جدل بيزنطي لا نهاية له ولا طائل منه، ولكني أتساءل (وأنا جادّ تماماً في هذا التساؤل) لماذا لا نعمد إلى إلغاء مادة التربية الدينية في مدارسنا كما ألغينا مادة التربية القومية؟

الدين أمر شخصي وعائلي ومللي -يخصّ الملّة الواحدة ضمن الدين أو الطائفة- وليس من شأن الدولة تعليمه للأولاد في المدارس، سوريا فيها مذاهب إسلامية كثيرة وسيكون من الإرهاق إيجاد كتابٍ واحد لتدريسه لكل الأطفال المسلمين على اختلاف مذاهب أهلهم وأشكال تدينهم.

ولا نغفل فوق ذلك وجود شريحةٍ كبيرة من السوريين غير المتدينين أصلاً ممن لا يحبّذون الإيغال مع أطفالهم في تفاصيل الدين وطقوس العبادة ومفاوز النصوص المقدسة في عالمٍ يميل للتماثل يوماً بعد يوم، وينجح فيه البشر على امتداد المعمورة بإيجاد طرقٍ للتواصل العابر للحدود والأديان والثقافات.

هذه ليست دعوة لإقصاء الدين، بل لإقصاء الدولة عن الدين وتركه لمعتنقيه وحريتهم الشخصية بدل فرضه على الأولاد في المدارس بطريقةٍ لن ترضي جميع الأطراف مهما حاولنا.

ختاماً بودّي لو تنأى الحكومة الانتقالية المؤقتة بنفسها عن كل هذا التشتت بالطاقات وتركّز جهودها على الوضع الأمني والمعيشي، وتيسير أمور الناس، ومسح جراحهم، والبحث عن مفقوديهم، ولملمة عظام ذويهم من المقابر الجماعية.

من غير المقبول أن يتورّط المسؤولون والوزراء المؤقتون بإثارة الجدل والانقسام في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتضامن.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى