سورية درس لأنصار الدولة السلطوية

عصام شعبان

يمثل سقوط نظام بشّار الأسد تأكيداً لمصائر الأنظمة الشمولية من تلاشٍ وزوالٍ، ضمن سيناريو انهيارها داخلياً، قبل أيّ تفاعلات خارجها. وبالمفارقة مع تبرير أفول نظام الأسد بفعل المؤامرة الخارجية، فإن العوامل الذاتية هي الأساس، بداية من وصوله إلى الحكم عبر وراثة الدم والمؤسّسة العسكرية، مروراً بكوارث أفقدته مسوّغات القبول، فكانت النتيجة تفسّخ النظام بعد مرحلة تعفّن، أفضى إليها الانهيار الاقتصادي واستشراء الفساد وأنماط الاستبداد، التي تصاعدت بعد اندلاع الثورة، إلى عنف وحشي ساهم في تقسيم الجيش، واندلاع حرب أهلية، لتشهد البلاد أكبر موجة هجرة ونزوح في التاريخ الحديث؛ 12 مليوناً، ما يفوق نصف السكّان، وعانى البقية بؤس العيش وعسف السلطة، إلى جانب خضوع البلاد إلى تدخّل قوىً دوليةٍ وإقليميةٍ. وبهذه الصورة، أصبح جدار السلطة واهناً يحتاج من يدفعه لينهار، ولتضاف نهايته إلى نماذج أخرى استبدادية، تاجرت باسم العروبة والقومية والحفاظ على الدولة الوطنية غطاءً لإخفاقها، بينما وجدت من يدافع عنها متعلّقاً بالأمل في رطانة المستبدّين لاستدامة حكمهم.
وفي جانب المأساة التي خلّفتها النظم الاستبدادية لشعوبها، في العراق وسورية وليبيا والسودان، أفضت سنوات حكمها إلى إنهاك جهاز الدولة، وأسهمت في تنامي النزاعات الأهلية استناداً إلى العرق والطائفة والدين، وسهّلت التدخّل الخارجي، لإعادة هندسة المشهد السياسي الذي كانت تسيطر عليه، وبقيت مهام إعادة البناء والحفاظ على وحدة أراضي الدولة وسلامة مؤسّساتها وأمن المجتمع ومحاولات ترتيب انتقال السلطة مهامّ صعبة بعد رحيلها.

يضعف القمع فرص المنافسة والمشاركة السياسية وأن تلعب مؤسّسات الدولة دورها بشكل فاعل

ومع الاختلافات بين مساري ثورتي مصر وسورية، وطبيعة مؤسّسات الدولة وبنية المجتمع في البلدَين، إلا أن هناك سمات مشابهة لنماذج الحكم السلطوي، سواء اعتمد على شخص أو حزب مهيمن أو نخب عسكرية أو كان هجيناً يجمع العناصر السابقة. فهناك تشابه في البنية السياسية المغلقة، ونهج الضبط، وإدارة المشهد السياسي بشكل مركزي، وتقييد فرص المشاركة السياسية، وهناك شواهد في مصر، انتخابات البرلمان التي اتخذت بشأنها خطوات تهدف للتحكّم في مخرجاتها عبر بيئة الانتخاب، من آليات التشريع وتقسيم الدوائر، واستبعاد بعضهم، وسعي لتشكيل القوائم الانتخابية التابعة للسلطة واستيعاب بعض مرشّحي الأحزاب فيها، ضمن حصّة متّفق عليها، لتبقى صورة المشهد أن القوى السياسية ومنظّمات المجتمع المدني تحت راية واحدة خلف القيادة السياسية، وإن تنافست فيما بينها، ما يعكس إنكاراً لمسألة الاختلاف والتنوّع، وحجب فرص تكوّن أقطابٍ جاذبةٍ، أو بدائلَ سياسيةٍ. في الوقت نفسه، جرى الاحتفاظ بالهيئات التمثيلية واجهةً ديمقراطيةً من دون مضمون يخصّ مهامها الأساسية، وتحوّلت وظيفياً إطاراً يستوعب نخباً تجدّد بنية مجموعات المصالح المؤيّدة للحكم بشكل دوري، وتحافظ على الولاء واختيار العناصر الأكثر ملاءمة.
وفي سياق ضبط مؤسّسات الدولة، وضمان تبعيّتها وسهولة توجيهها، صدرت قوانين تضمن التحكّم في وصول قيادات المؤسّسات، ومثال ذلك اختيار رؤساء الجامعات وعمداء الكليّات بشكل أقرب إلى التعيين، بعدما كان بالانتخاب المباشر من أعضاء هيئات التدريس، ما ساهم في تراجع مستوى الجامعات في مؤشّر الحرّيات الأكاديمية. وفي نمط ثالثٍ، غيّبت آلية الانتخاب من الأصل، فلم تجر الانتخابات المحلّية منذ 2008، ربّما لصعوبة ضبطها والتحكّم فيها مركزياً، خاصّةً أن عدد أعضائها يتجاوز 52 ألفاً، نصفهم سيكون، بحكم الدستور، من الشباب والنساء، وسيترشّح لها حال إجرائها أضعاف هذا العدد، وربّما يمثّل هذا فرصةَ لبناء عملية اتصال سياسي على مستوىً محلّي يتضمّن المراكز والقرى وحداتٍ سياسيةً، ما يصعّب إمكانية الضبط الكامل.
يتبنّى النسق السياسي المصري، بجانب هندسة الأشكال التمثيلة، السيطرة على مؤسّسات الإعلام، عبر احتكار أغلبها، وضبطها بهيئات تراقب أعمالها وتوجهها نحو الدعاية لإبراز النجاحات، وتضخيمها لتبرير الإخفاقات، واعتبار العنف المادّي والرمزي ضرورةً لمواجهة “المؤامرات وقوى الإرهاب والمتربّصين بالوطن”، ويطالب إعلاميون وأفراد، من مجموعات المصالح المنخرطة في أعمال الدعاية ملمحاً لإثبات الولاء (يبدو أنه يُدار مركزياً)، أجهزة الدولة ببذل جهد مضاعف لمنع الانجرار إلى دعاوى “تحريضية” بشأن الوضع الاقتصادي، أو الحرّيات العامة، ومناشدات أسر السجناء إطلاق سراحهم، وتبيض السجون من الصحافيين كما تقول نقابتهم. ويظن أشخاص من رديف السلطة أن المعالجات الأمنية (أو نهج الدعاية) حلّ للأزمات، وبديل من تقييم الوضع والبحث عن بدائل، في تجاوز لفكرة أن هناك أزمة، ويعتبرون أن المشكلة في المحرّضين الذين “يزعزعون الاستقرار”، ويتجاهلون أن السياسات الحكومية تضيف أعباء وتحدّ من قدرة الناس على تلبية احتياجاتهم، بل يعتبر بعضهم أن تحمّل الأعباء ضريبة “بناء البلد”، لكن عملياً يدفع الفاتورة المُفقَرون، في مقابل أبواق الدعاية الذين يعيشون في ظلّ السلطة، ويسوّقون تقييد الحرّيات حفاظاً على الدولة، وكأنّ الدولة كائن خرافي، منفصل عن الشعب الذي يطالب بالتضحية، وعليه أن يتسلّح بالأمل في مواجهة الشعور بالإحباط، وعليهم تجاوز إحساسهم بالضغوط في سعيهم لتلبية احتياجات أبنائهم، غير شعور بإخفاق توقّعات وآمال بثّتها السلطة وهي تقدّم نفسها بديلاً قادراً على تحسين الأوضاع المعيشية، وخلق تنمية وإنقاذ البلاد، بينما تكرّر حكومات متتالية على مسامعهم أن ضعف مؤشّرات الأداء الاقتصادي، والعجز في تحقيق المستهدفات، يرجعان إلى تحدّيات خارجية وأخرى ذاتية معقّدة، لكن إذا ما صدّقنا أن الإخفاقات المتتالية هي نتائج تحدّيات ضخمة، تخصّ مصر دون غيرها، فما القيمة التي يضيفها الاستمرار في حبس أصحاب الرأي؟ وهل ذلك شرط لتحقيق الإصلاح ودفع مسار التنمية، أم زادت هذه الممارسات المظالم، ومثّلت أداةً لقمع المقهورين اقتصادياً وسياسياً في تجلٍ لصراع طبقي وسيلة إدارته العنف؟

يسيطر النسق السياسي المصري على مؤسّسات الإعلام فيوجّهها نحو دعاية تضخّم النجاحات تبريراً للإخفاقات

إجمالاً، أمامنا نماذج حكم سلطوية، تثبت أن المراهنة على استدامة النظام بتثبيت جذور الاستبداد خاسرة، خاصّة مع وجود خلل في قيام النظام بوظائفه وإخفاقه في تنفيذ وعود دعائية جاء بها، كما أن سيادة الدول ووحدة أراضيها، والحدّ من فرص الضغوط الخارجية، أهدافٌ ليس القمع شرط تحقيقها، بل على العكس، يضعف القمع فرص المنافسة والمشاركة السياسية وأن تلعب مؤسّسات الدولة دورها بشكل فاعل، ويزيد من انخفاض مستوى الشفافية، ومن فرص الفساد وتشكّل خصائص احتكار السلطة والثروة. واستبعاد مكوّنات المجتمع من المشاركة ملامح أزمة لا يمكن التعامل معها بمنطق الاستيعاب والاستقطاب، كما جرى أخيراً من جذب بعض رجال الأعمال ورموز حكم حسني مبارك إلى ساحة السلطة، في إيهام بتوسيع أطر المشاركة، كما في سنوات سابقة حين استقطب النظام بعض نخب الثورة، لكنّ النموذجَين، مع الهيئات الاستشارية والمجالس العليا، ليسا حلّا لجوهر المشكلة على المستويَين، السياسي والاقتصادي، كما لا تخلق الدعاية عن الإنجازات تقدّماً ولم تعد مؤثّرة كما في مراحل سابقة، لأن فاعليتها تتبدّد مع ما يلمسه قطاع واسع من المواطنين في حياتهم اليومية، وهم يحاولون توفير احتياجاتهم بمشقّة، خاصّة مع ارتفاع معدّلات الفقر إلى ما يفوق 32%، ومعاناة فئات أكبر، رغم رفع الأجور وانخفاض التضخّم نسبياً إلى 25%، لكنّه ما زال مرتفعاً، وهذا المشهد بتفاصيله، يحرم كتلةً من المجتمع من التمتّع بالشعور بالكرامة الإنسانية، إلى جانب حضور أدوات الضبط وغياب الحرّية التي تسمح لهم بالتعبير، وسماع أرائهم، وربّما الاستجابة لمطالبهم. وهذا الإحساس هو ما يولّد الشعور بالاغتراب، والإحباط، وليس دعاية المحرضين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى