لو أن الثورة السورية نجحت في إسقاط النظام في سنواتها الأولى، ربّما كانت سورية حالياً في أتون فوضى وحروب أهلية تفوق ما عاناه السوريون من مجازر وتهجير طوال العقد الماضي، فالفرقة بين فصائل الثوّار لم تخلُ من اقتتال عنيف، حتى وهم متّحدون في الهدف، فضلاً عن تماسك قوى النظام وداعميه حينها، حتى وضعت الحرب العنيفة أوزارها قبل سنوات قليلة، كان لا بدّ من تحوّلات على جميع الأصعدة لصناعة ساعة نصرٍ فاجأت الجميع، طمح إليها السوريون من اليوم الأول وعُذِّبوا حتى كادوا ييأسون، واغترّ النظام البائد بهزيمة خصومه، حتى أصبح التفكير في خطرهم من الماضي، فمن حيث لم يحتسب عركت السنون الثوّار رشداً وقوةً، والنظام غروراً وهشاشةً.
كانت سورية عقوداً سجناً كبيراً، معظم أهلها لم يغادروا مدنهم أو قراهم إلا اضطراراً (كالسوْق إلى خدمة العلم) أو لحاجة (كالدراسة أو الحجّ)، وكانت دمشق (على ما فيها من عَسس وجلاوزة الأمن في كلّ مكان) عالماً آخر للقادم إليها من غيرها من شدّة التهميش والإهمال فيه. وفجأة، وفي غضون بضع سنين أصبح نحو نصف سكّان سورية خارجها، كثيرون منهم غادروا بلدانهم وقراهم للمرّة الأولى إلى خارج سورية لاجئين مهجّرين، من بينهم أطفال ويافعون أمضوا خارج سورية جلّ عمرهم، تعلّموا وخَبِروا عالماً آخر ما عرفه آباؤهم، وما حلموا به، من بين هؤلاء الملايين المهجّرين عشرات الآلاف درسوا وتعلّموا في جامعات حديثة غربية وتركية وعربية، كان حلم الشباب السوري المتفوق (قبل الثورة) أن يفوز بمنحة بحثية للهجرة للدراسات إليها، فقد كانت المنح المتاحة للجامعات المرموقة في الخارج تُحتَكر لعِلْية القوم لا يسمع بها المتفوّقون، فيما كانت تخصّص منح أخرى حزبية واجهةً للانتفاع المادي، وتصنيع الأتباع، لا ينالها إلا أبناء المسارعين في التزلف.
فرص النجاح على مستوى الخبرات البشرية واليد العاملة متوفّرة للغاية، إن توفّرت شروط توظيفها في سورية الجديدة
فكان من محاسن الأقدار التي رافقت آلام ملايين السوريين أن كان من تهجير السوريين أكبر حركة ابتعاث علمي خارجي (غير مقصودة) في تاريخ سورية، لأناس ما كان في قائمة أحلامهم في الحياة أن يدرسوا في جامعات خارجية، أو أن يدرسوا لغات مختلفة، واختصاصات متنوّعة، وقد فاز بها المستحقّون من النابغين والمؤهّلين، وتفوّقوا في تلك الجامعات، وأصبحوا متخصّصين ينافسون نظراءهم. وبينما كان مبتعثو جامعات النظام للدراسات في الخارج (سيما إلى الجامعات الغربية) يرجع منهم إلى سورية أقلّ من الخمس (قبل 2011)، فإن أكثرية النُّخَب التي درست في ألمانيا (على سبيل المثال) يفضّلون العودة إلى بلدهم، رغم ما يتمتّعون به من مزايا في بلدان هجرتهم، بل أصبحت عودتهم المتوقّعة موضوع نقاش ألماني لما سيحدثونه من فراغ في المؤسّسات التي يعملون فيها، هذا عن النُّخَب المتخصّصة والأكاديمية. أمّا اليد العاملة الماهرة من بين اللاجئين والمهاجرين، وما اكتسبته من خبرات ومهارات فيمكن الحديث عن مئات الآلاف، وهم يطمحون أن يستأنفوا أعمالهم في بلدانهم من جديد، وعليه فإن الوجه المشرق من ألم التهجير واللجوء أن تلك النُّخَب والمهارات الجديدة يعودون مرفوعي الرأس لعمارة مدنهم وقراهم بخبراتهم. وبهذا، فإن فرص النجاح على مستوى الخبرات البشرية واليد العاملة متوفّرة للغاية، إن توفّرت شروط توظيفها في سورية الجديدة، سيّما لناحية تحقق شروط الحوكمة التي تضمن عودة رجال الأعمال السوريين المهجّرين والمستثمرين ورأس المال العربي.
هرب الأسد، بتخطيط أو من دونه، بطريقة قدّمت خدمةً جليلةً لكلّ السوريين والعالم، فغدر بأتباعه وزبانيته الذين كان يمكن أن يرتكبوا مجازر لو لم يُفاجؤوا بما قُذِف في قلوبهم من رعب، فكان أن فكّك النظام نفسه بنفسه جيشاً وحزباً وعصابات، كلّ فرد منهم يقول “نفسي نفسي” باحثاً عن مهرب، فعبَّد السبيل لفتح دمشق من غير قتال، وهذا كان من أعظم الأقدار التي هيأت لنجاح الثورة، فأثبت الشعب أنه الضامن الأكثر أهمية، فخرج في جمعة النصر ليثبِّته، التي كشفت أن السوريين سلمٌ بعضهم لبعض، خرج الملايين في أنحاء سورية فرحاً، لا يحرسهم من بعضهم سوى الثقة، ووحدتهم في نبذ الكابوس، وفرحهم بزواله، وهذه الوحدة الصادقة، التي افتقدها خائفاً، هي أهم فرصة للنجاح في سورية المستقبل، وأيّ طرف يعبث بها أو يفرّط بتماسكها يقضي على أيّ أمل لأيّ جهة تطمح بغنيمة مشروعة في مسقبل سورية الواعد.
سال حبر كثير في الحديث عن التغيير الديمغرافي والاستيطان الطائفي في سورية، وتغيير هُويَّتها خلال العقد الماضي، وكانت تتواتر الأخبار عن قسمة الجغرافيا السورية بأجمعها بين مليشيات مسلّحة، كلّ منها يمتلك القرار في مساحة سيطرته، ولم يكن من حضور الدولة السورية سوى البيروقراطية التي تضفي الشرعية الدولية للوثائق التي تصدرها، واستمرار العمل الشكلي للمؤسّسات، وكان الهمّ الأكبر الذي يشغل الجميع من مثقّفين وسياسيين وثوّار هو مخاطر تلك المليشيات، الأجنبية منها بشكل خاص، والتغيير المُحدَث في هُويَّة المجتمع الدينية والثقافية، وكان السؤال: كم من سنة سيحتاج المجتمع السوري للتعافي من هذا التغيير القسري بعد التحرير؟ قبل أن يُفاجأ الجميع بتطهّر سورية من هؤلاء الدخلاء تدريجياً بدءاً بـ”طوفان الأقصى” وانتهاءً بفتح دمشق.
هرب الأسد وفكّك النظام السوري نفسه بنفسه جيشاً وحزباً وعصابات، فعبَّد السبيل لفتح دمشق من غير قتال
كان النفوذ الإيراني في سورية عنوان تفاوض دول الإقليم مع النظام السوري، وكان موضوع العصا والجزرة التي يُفاوَض بها، ورغم كثرة الجزر الذي أُلقِمه النظام، لكنه كان أعجز (وأغبى) عن التعامل بجدّية مع هذا التخوّف الإقليمي، وكان سياسيون في إيران لديهم من الوقاحة والثقة ما يكفي لتسمية دمشق وسورية ولايةً إيرانية، وكانت السياسات العربية أعجز من أن تستعيد دمشق بأيّ وسيلة، رغم ما بذلته من جهود سياسياً واقتصادياً، فجاءها ما سعت إليه لأكثر من عقد في طبق من ذهب، ففي أقلّ من أسبوعين، صحّح السوريون تاريخ سورية وجغرافيتها، فكان انتصار الثورة نصراً عربياً لكلّ من كان يشعر أن النفوذ الإيراني يشكّل تهديداً للمنطقة، وإن من أغبى السياسات أن يُفرِّط العرب بهذه الفرصة لتمتين التحرّر السوري من النفوذ الإيراني، الذي يمكن أن يكون مقدّمة لدحر ما تبقّى من تدخّل في أماكن أخرى، وأصبحت الجغرافية، من البحر الأسود إلى عموم الجزيرة العربية، محرّرةً من النفوذ الإيراني ومهيأةً لأن تكون إقليماً منسجماً في سياساته الاستراتيجية، لناحية الاستقرار والنمو الاقتصادي واستقلال قرارها والتكامل فيما بين بلدانها، إذا ما أُحسِن استثمار تلك الفرصة التاريخية، التي جاءت من غير حروب، بعد أن بُذِل من أجلها كثير من قبل، ولم تثمر بعض هذه الفرصة المتاحة لجميع المخلصين.
إن التاريخ استُؤنِف في سورية بعد أن تركها الأسد قاعاً صفصفاً، والجغرافية السياسية تُكتَب من جديد، والأقلام في صفحاتها متكاثرة، كلّ يريد أن يخطّ رؤاه، والصفحة البيضاء رسم حدودها السوريون منذ إعلان قِيم ثورتهم، والقدر هيّأ فرصاً رائعةً لمن يمتلك أجود الأقلام والأحبار وأحسن الخطوط، ويمتلك السوريون نخبةً متميّزة من أصحاب المهارة العالية في الخطّ والرسم، وتمتلك الدول العربية والحليفة أقلاماً وأحباراً عالية الجودة، ومسؤولية من يتصدّر المشهد السوري أن يجمع تلك النخبة في مرسم واحد، ويوفّر لها أدوات النجاح، وسيكون كارثياً أن يعبث بنصاعة اللوحة السورية من لا يجيد الخطّ ويرسم لوحة رديئةً بدماء الشهداء.
المصدر: العربي الجديد