كانت حملة الرئيس المترشّح قيس سعيّد في أثناء الانتخابات الرئاسية الماضية (أكتوبر/ تشرين الأول 2024) تحت عنوان البناء والتشييد، واختار سعيّد حينها أن يؤكّد هذا الشعار مع بداية صدور نتائج الاقتراع من مقرّ حملته، واعداً بأن تكون سنوات حكمه مليئةً بالمكاسب للتونسيين. في مقابل ذلك، لم يطرح برنامجاً انتخابياً يمنحه الأصوات، أو يقيّم فيه حصيلة سنوات حكمه السابقة، مفضّلاً الصمت ومقاطعة الحضور في وسائل الإعلام العمومية والخاصّة، ما عدا بعض الإطلالات عبر صفحة الرئاسة الرسمية في بعض المناسبات، الذي يُعدّ خرقاً انتخابياً، بسبب استعماله وسائل الدولة في الدعاية لنفسه في الفترة الانتخابية. يعد سعيّد بالبناء والتشييد والوصول إلى العلو الشاهق، أو كما قال أخيراً، في أحد تصريحاته، إن تونس “ربحت ورقة المستقبل”، من دون أن يبرهن على ذلك كيفاً، أو كمّاً عبر الإحصاءات والأرقام في الملفّات الاقتصادية والتنموية مثلاً، ومن دون انسجام مع سياسات حكوماته المتعاقبة، التي تحقّق في أرض الواقع تراجعاً ملحوظاً على مستوى الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في كلّ مرّة تبرهن السلطة في تونس سعيها إلى إلغاء الماضي بإيجابياته وسلبياته كلّها، وكأنّ تاريخ تونس ينطلق مع قيس سعيّد
لطالما كان خطاب قيس سعيّد متناقضاً مع الحقائق الصلبة، ومشحوناً بالدعاية لنفسه منقذاً للشعب وللبلاد، على عكس قراراته، إذ اتسمت سياسات قصر قرطاج بالهدم وليس بالبناء، والتدمير الممنهج لمكاسب وطنية عديدة في جوانب عدة، الرمزية منها والمادية، بدايةً من الانقضاض على التجربة الديمقراطية وتغيير تاريخ عيد إحياء الثورة التونسية (من 14 يناير/ كانون الثاني إلى 17 ديسمبر/ كانون الأول)، وإلغاء دستور الثورة 2014، الذي صدّق عليه المجلس التأسيسي بشبه إجماع، بآخر كان نتاج خيارات فردية، ومحاولات تحريف محطّات في التاريخ الوطني عبر إسقاط سردياته الخاصّة عليها في كلّ فرصة ومناسبة، ومن ثمّ نشرها في مقاطع رسمية للتونسيين، بما يشير إلى تعسّف قصدي على المشتركات الوطنية الجامعة، وتحويل الدولة بما هي كيان فوقي مستقلّ عن الأفراد، حكّاماً وشعباً، تقوم على تعاقدات اجتماعية، أداةً خاضعةً للمزاج الفردي، هذا إلى جانب تقويض الحياة السياسية بأحزابها ومنظّماتها.
شملت سياسات الهدم جميع المجالات، فعوض أن تراكم السلطة على مكتسبات الأنظمة السابقة، وتصحّح الهَنات، إلّا أنها في كلّ مرّة تبرهن سعيها لإلغاء الماضي بإيجابياته وسلبياته كلّها، وكأنّ تاريخ تونس ينطلق مع قيس سعيّد، من دون توفير بدائل وحلول وخطط. يؤكد ذلك تفضيل السلطة خيار المعالجة الأمنية في جميع الملفّات، ومنها التنموية والاقتصادية، وبدل أن تجد الدولة بوزاراتها ومسؤوليها وبلدياتها إجاباتٍ عن المشكلات العالقة، في مثل ملفّات تزويد السوق بالمواد الأساسية والخضار وأزمة الفلاح مع الوسطاء، وارتفاع أسعار الحديد وتكاليف البناء، وأزمة تصدير التمور وزيت الزيتون وغيرها، تتجه السلطة للردع والسياسات العقابية قبل تحرّي مسبّبات كلّ إشكالية وتفكيك تعقيداتها، ما يسبّب تعطيل الإنتاج أو العجز عن طرح المنتجات في السوق بشكل طبيعي ومتوازن من حيث الكمّ والكلفة والربح، ومزيداً من تأزيم أوضاع عدّة قطاعات، كان جديدها أخيراً قطاع زيت الزيتون، الذي رغم ارتفاع محصوله هذا العام، فإن تدخّل السلطة فيه بشكل أرعن وسجن بعض المصدّرين، وضع الفلاح التونسي في وضع صعب بعد انخفاض أسعار البيع وعجز ميزانهم المالي، مع عجز الدولة عن تخزين الكمّيات المتوافرة لغياب البنية التحتية المطلوبة أو عدم صيانتها مسبقاً.
غياب الرؤية في إدارة السلطة والحوكمة في القرارات أدّيا إلى توزيع عادل للفقر في تونس
غياب الرؤية في إدارة السلطة والحوكمة في القرارات أدّيا إلى أزمات متراكمة وتوزيع عادل للفقر بين المستثمرين والمنتجين والفلاحين والعاملين، مع استفادة مؤقّتة للمواطن المستهلك من انخفاض أسعار بعض المنتجات أحياناً بحكم استتباعات كلّ أزمة قطاعية، التي يليها شحّ ونقص في المواد فترات طويلة، ثمّ ارتفاع بالغ في الأسعار. تجاوزات سياسات التدمير والهدم في الحياة السياسية والاقتصادية في تونس فاجأت أخيراً آلاف التونسيين في مواقع التواصل الاجتماعي، شاهدوا صور هدم أحد أقدم المقاهي وأجملها في ضواحي محافظة تونس العاصمة (مقهى بروكلين)، مكان لطيف مرّت منه أجيال وحمل بين زواياه ذكريات كثيرة. وكالعادة، اختارت سلطة قيس سعيّد معادلة القوة والتعسف في تناول مشكل مفترض مع صاحب المقهى، كان بالإمكان معالجته بطرق أخرى.
لم يكفِ الرئيس التونسي زلزلته الساحة السياسية، واعتقال المعارضين والتنكيل ببعضهم داخل السجون، والتمديد في التحقيقات بصيغ غير قانونية لمزيد من الاحتفاظ بالمعتقلين، أو تلفيق قضايا جديدة في كلّ مرّة مع اقتراب نهاية آجال الاحتفاظ، ولم يشبعه الاستئثار بالسلطات كلّها، وترؤسه جميع الوظائف في الدولة، حتى يعمل أقلّه على تحسين حياة التونسيين والخدمات المسداة إليهم وتطوير البنية التحتية للاستثمار وتشجيع الرأسمال الوطني والكفاءات على المشاركة في إنقاذ البلاد من أزماتها الاقتصادية، ولكنّه اختار تسليط العقاب الجماعي على جميع فئات الشعب، ولا يستثنى منه إلا من يطلقون على أنفسهم أنصار المسار/ الانقلاب، المنتفعين حالياً بالشركات الأهلية ومزاياها المالية والبنكية وإعفاءاتها الجبائية ومشاريع القوانين المتعلّقة بالتفويت في الأراضي الدولية، وهي شركات تحدثها مجموعة من أهالي جهة ما لممارسة نشاط اقتصادي انطلاقاً من المنطقة الترابية المستقرّين بها. وفي الحقيقة، لا تحدثها إلا المجموعات المحسوبة على النظام، وكان قد شجّع عليها الرئيس، ولطالما حلم بها ضمن مشروعه للبناء القاعدي، الذي يبدو أنه سيكون على حساب مصالح الشعب التونسي ومستقبله.
المصدر: العربي الجديد