للرئيس الأميركي الأسبق الراحل جيمي كارتر (1924-2024) ديوان شعر. وأن يكون رئيس الولايات المتحدة شاعراً هذا أمر استثنائي وخارج المتوقّع والمألوف، لا سيّما أن الديوان تضمّن قصائدَ فيها نقد لسياسة الولايات المتحدة في تعاملها مع الشعوب، وحروبها، من دون أن يغفل العودة إلى جذوره الفلاحية. من النادر اكتشاف شاعر بين الرؤساء الأميركيين. مع ذلك، كان كارتر يُعتبَر رئيساً متوسّط الأداء، تُذكر فترة ولايته الوحيدة (1977-1981) مقرونة باحتجاز 52 رهينةً أميركية في إيران، والمحاولة الفاشلة لإنقاذهم، وغزو الاتحاد السوفييتي أفغانستان.
جهوده لجعل البلاد تواجه الحقائق كما كان يراها تركت الجمهور مُحبطاً. إحدى أكبر مشكلاته الداخلية كانت أزمة الطاقة المتفاقمة، التي نشأت من حظر النفط العربي، الذي بدأ خلال حرب الشرق الأوسط عام 1973. ومع ذلك، يُعتبر أيضاً أبرز رؤساء أميركا السابقين، لاستخدامه القوة الرمزية المتبقّية من منصبه لخدمة خلفائه وبلاده صانع سلام، ودبلوماسياً خلف الكواليس، ومدافعاً عن حقوق الإنسان وعن المشرّدين، ومحافظاً على الطبيعة والمحميات البرّية في أراضي ألاسكا، مقدّماً أفضل مثال للقيم الدينية التقليدية. وصل كارتر إلى الرئاسة من دون أن يكون مديناً لأحد، بما في ذلك حزبه. لقد أصبح رئيساً بطريقةٍ غير متوقّعة إلى حدّ كبير، لأن الشعب الأميركي كان يرى فيه رجلاً طيّباً ونبيلاً، وعبر إنشاء ائتلاف قوي من الناخبين في المدن الصغيرة والمناطق الريفية والعمّال البيض والأميركيين من أصل أفريقي. فاجأ الجميع في أميركا (باستثناء ربّما نفسه وزوجته روزالين) عندما هزم جيرالد فورد في انتخابات 1976. بشكل عام، أحبّ الأميركيون كارتر، على الرغم من أن بعض الأمور كانت مسرحيةً، أحبّوا أنه أدّى اليمين على ٳنجيل استخدمه جورج واشنطن، وأنه قفز من سيارة الموكب الاحتفالي وسار بقية الطريق إلى البيت الأبيض. لكن الجميع كانوا يعلمون، بعد 90 يوماً، أنه لم يكن مناسباً للسياسة الملتوية في الكابيتول هيل.
لم يرغب كارتر في الفوز بولاية ثانية، وأصبح أقرب ما يكون إلى رجل السلام خلال العقود التي تلت مغادرته البيت الأبيض
كان كارتر (كما ترومان) ليبرالياً حقيقياً في السياسة الخارجية التي ترتكز على هواجس أخلاقية بشأن الصهيونية (ربما كان باراك أوباما آخر رئيس يعبّر عنها). حاول كلّ رئيس أميركي تقريباً ٳيجاد طريقة لتحسين أوضاع الفلسطينيين والسماح بإنشاء دولة لهم. أقام كارتر في البيت الأبيض رئيساً أربع سنوات فقط، لم تمنحه الشعبية الجارفة التي اكتسبها بوصفه رئيساً سابقاً ليمهّد الطريق للرئيس الجمهوري رونالد ريغان. حاول الأخير، كما ريتشارد نيكسون، تقديم خطط سلام، ثُمّ سحباها. كانت المحاولات تخفي الفشل وراءها منذ أيام ترومان 1948، الذي رفض الدولة الدينية، وعلى النقيض من أنه صهيوني مسيحي، كانت لديه تحفّظات جدّية بشأن المشروع الصهيوني لتأسيس دولة يهودية، وقد أشرف بنفسه على تطوير التوصيات بشأن فلسطين فيدرالية.
أشرف كارتر على اتفاقيات كامب ديفيد بين ٳسرائيل ومصر عام 1978، ٳلا أنه فشل في كسب موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، على التفاوض مع الفلسطينين، وترك الرئاسة مع استياء الأميركيين المؤيّدين لٳسرائيل. تقدّم جورج بوش (الأب) أكثر من كلّ من سبقه في الضغط على تلّ أبيب، ففي 1991، حجز ضمانات قروض للضغط على إسحاق شامير لحضور مؤتمر مدريد للسلام بوجود ممثّلين عن الفلسطينيين. ساهمت خطوة بوش الجريئة في قيام محادثات أوسلو (1993)، ٳلّا أن بوش أصبح مكروهاً مثل كارتر، الذي لم تُستقبل جهوده دائماً بشكل جيّد (اعتُبر كتابه “فلسطين… السلام وليس الفصل العنصري” في عام 2006 معادياً للسامية، ومنحازاً ضدّ إسرائيل). في عام 2002، وبعد أن رُشّح مرّات عدة لجائزة نوبل للسلام، فاز كارتر أخيراً بها بسبب “مساهمته الحيوية” في اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات وبيغن، وكذلك بسبب التزامه حقوق الإنسان، وعمله في مكافحة الأمراض ودعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
للعالم رؤىً مختلفةٌ حول نهج الرئيس الأسبق، بعضهم يقول إنه كان رئيساً منضبطاً، يتمتّع بالنزاهة والقيم الصلبة، وحقّق بعض الإنجازات حين واجه المنتقدين بشأن قناة بنما ومنحها السيادة، وفرض ضوابطَ على الأسلحة الاستراتيجية، ولم يأبه للضغوط، ولم يرغب في الفوز بولاية ثانية، ولم يأبه لٳعادة تأهيل سمعته فحسب، بل أصبح أقرب ما يكون إلى رجل السلام خلال العقود التي تلت مغادرته البيت الأبيض. ظلّ كارتر نشطًا بعد أن غادر واشنطن في سن 56 عاماً. تطوّع هو وروزالين في منظّمة هابيتات فور هيومانيتي لبناء مساكن ميسورة التكلفة للمحتاجين، وأسّس مكتبة جيمي كارتر الرئاسية، ومركز كارتر في أتلانتا. ومنذ تأسيسه عام 1982، أرسل المركز مراقبين لمراقبة الانتخابات في أكثر من 30 دولة. كما قاد المركز جهوداً صحيّة، بما في ذلك السعي إلى القضاء على مرض دودة غينيا الطفيلية. كما درّس كارتر في جامعة إيموري، وسافر على نطاق واسع لتعزيز السلام والتقدّم الاقتصادي. وفي إحدى المهام، أرسله الرئيس بيل كلينتون سرّاً إلى كوريا الشمالية في عام 1994، للمساعدة في التوسّط في نزاع نووي مع كيم إيل سونغ، جدّ كيم جونغ أون.
كان كارتر رجلاً صاحب قناعات، لم يتوقّف عن السعي إلى أن يطهّر السياسة الأميركية من الشوائب
كان رجلاً صاحب قناعات، لم يتوقّف عن السعي إلى أن يطهّر السياسة الأميركية من الشوائب، ومن جذور تكوين ٳسرائيل، ومن فشل النقاش في أن الأميركيين تنقصهم الرؤية التاريخية. كان يتمتّع بنوع من السلوك المتشائم (أزمة ثقة) عندما يتعلّق الأمر بالسلام في الشرق الأوسط، يُغذّي المنطق المخالف للتاريخ، ويصيب الولايات المتحدة من دون أن تكون لديه فكرة عمّا ينبغي فعله حيالها. ومن العام 1949 إلى العام 2024، تلقّت إسرائيل مئات المليارات من الدولارات، في غالبيتها مساعدات عسكرية، فشلت في تغيير موقف الٳسرائيليين، وسيلةً لدفع عملية السلام/وقف حرب الٳبادة والتجويع والتهجير بحقّ الفلسطينيين. ومثل كارتر، فعل رؤساء أصرّوا على ٳحياء عملية السلام، واحترام مطالب الفلسطينيين الأخلاقية، وفي كلّ مرّة، كان الرئيس الأميركي يخسر التأييد من اليهود الديمقراطيين، ومن تحوّل الإسرائيليين نحو اليمين، ما يؤدّي بالضرورة إلى الحرب والظلم.
نبدأ عام 2025 في تباين مذهل بين مظاهر الحُبّ غير الأناني التي تعكسها أفعال الرئيس كارتر، ومظاهر الكراهية والأنانية التي يظهرها الرئيس دونالد ترامب في أقواله وتصرفاته، ونحن نشهد ما يحدث في العالم عندما تُستبدَل النزاهة علناً، وبشكل واسع، بالكراهية والشعبوية. فقدان جيمي كارتر قد يعني أن هناك فرصةً مؤلمةً للتفكير في ما يجب أن يكون مثالياً في أميركا بدلاً من رؤية ديمقراطية تُستبدَل بالمال وطغيان الأوليغارشية، على الصعيدين المحلّي والعالمي، وعلى نحو من أشكال العبودية الجديدة. لقد نجح كارتر لأنه جلب العنصر الشخصي الإنساني إلى دبلوماسيته البسيطة، ويبقى على الذين أعجبوا به أن يواصلوا مسيرته في “شنّ حرب من أجل السلام”.
المصدر: العربي الجديد