على الرغم مما شكله التسريب الصوتي لشهادة وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف من صدمة قاسية لكل الاوساط السياسية الايرانية، الاصلاحية والمحافظة. وعلى الرغم من انه افقد الاصلاحيين ورقة رابحة للمساومة على الانتخابات الرئاسية وحصتهم في السلطة، وقدم في المقابل خدمة مجانية للمحافظين بالتخلص من التحدي الحقيقي الذي قد يشكله في حال دخوله السباق الرئاسي، الا ان ما حدث تحول الى تصفية لهذه الشخصية التي ساهمت في رسم علاقات ايران الخارجية على مدى عقود اربعة، واعداماً لماضيه ومستقبله السياسي، لا شك انه قدم بنفسه حيثيات الادانة للجلاد الذي لم يجد صعوبة في اصدار حكمه، بعد محاولات طويلة امتدت لسنوات ثمانٍ لم يترك فيها وسيلة بحثاً عن دليل يساعد على ادانته وسوقه الى مقصلة الاعدام او على الاقل النفي من الحياة السياسية.
ما كشفه ظريف في كلامه عن ازمة بنيوية في النظرة “الثورية” لدور الدبلوماسية الايرانية، وضرورة ان تكون بكامل جهازها في خدمة وطوع المؤسسة العسكرية، لا يختلف كثيرا عما سبق ان كشف عنه واكده بان وزير الخارجية في اي دولة ليس سوى منفذ لسياسات الدولة والحكومة التي يمثلها وان دوره في رسم السياسات الخارجية يكاد يكون صفرا او هو في دائرة الصفر في غالبية السياسات.
لكن الاخطر في هذا الكلام الجديد، لا يتعلق بدور وزارة الخارجية او دوره على رأس هذه الوزارة، بل في ما لم يقله صراحة من ان ازمة العلاقة مع المؤسسة العسكرية وتحديدا حرس الثورة وبشكل خاصة مع قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني تتجاوز العلاقة مع هذه الوزارة ووزيرها لتطال دائرة اكثر خطورة تمس دور وموقع رئاسة الجمهورية بما تمثله من سلطة تنفيذية مسؤولة عن رسم سياسات الدولة بالتنسيق مع المؤسسات الرسمية المعنية وبالتفاهم مع المرشد الاعلى للنظام واشرافه ورؤيته الاستراتيجية وموقعه الدستوري.
فأزمة ظريف لا تقتصر او تنحصر في استبعاده عن آليات اتخاذ القرارات والسياسات الايرانية الاقليمية لصالح سليماني اولا والمؤسسة التي يمثلها ثانيا، انسجاما مع التفويض الذي اعطي له من المرشد الاعلى الذي شكل مرجعية سليماني الوحيدة والاولى بعيدا عن الدولة ومؤسساتها المعنية. بل الازمة من التراكم الذي مارسته المؤسسة العسكرية في التعامل مع الادارة الدبلوماسية في العقود الماضية، بحيث سمح لها بتحويل هذه الادارة لمجرد اداة لتأمين الغطاء السياسي لعناصر تابعين لجهاز قوة القدس كدبلوماسيين وسفراء في اكثر عواصم منطقة غرب آسيا ينفذون سياسة ورؤية قائد هذه القوة الجنرال سليماني.
واذا ما كانت المؤسسة العسكرية او “الميدان” حسب المصطلح الذي استخدمه ظريف في كلامه، قد نجحت في تعزيز موقف المفاوض الايراني ان كان في الملف النووي او في تثبيت الدور والموقع الايراني مقابل الدول الاخرى خصوصا الدول الاقليمية، الا انها لم تستطع ترجمة هذه الانجازات الميدانية عندما ذهبت الى خيار الاستئثار بالعمل الدبلوماسي او فرض رؤيتها على آليات عمل وزارة الخارجية من خلال حصر علاقات ايران الاقليمية في مجموعة الدبلوماسيين والسفراء الذين فرضتهم على هذه الوزارة بحيث ان البعض منهم لم تستغرقه عملية الانتقال من العمل العسكري الى العمل الدبلوماسي سوى استبداله البدلة العسكرية باخرى مدنية.
قد تلعب الصدمة التي احدثها كلام ظريف، دورا في تحريك الجهود لدى قيادة النظام للعمل لاعادة التوازن بين العمل والدور الدبلوماسي وبين الميدان او العمل العسكري في ادارة النفوذ الايراني في الاقليم، وتفعيل عملية التخادم بين هذين العنصرين، خصوصا بعد ان لمست هذه القيادة قدرة الادارة الدبلوماسية في توظيف الميدان الذي اشار له ظريف في جزء من كلامه، في تصليب موقف المفاوض الايراني امام السداسية الدولية. ولعل المحرك الذي يعزز هذا التوجه ما انتهت اليه التجربة الايرانية على الساحة العراقية، والاسلوب الامني والعسكري الذي انتهجته في التعامل مع هذه الساحة الذي فرض عليها الكثير من التنازلات في السنتين الاخيرتين واجبرها على قبول التخلي عن سياسة فرض وتحميل حلفائها على رأس السلطة التنفيذية ورئاسة الحكومة، ساهم في تعميق هذا الابتزاز الذي مارسته القوى والفصائل والاحزاب المحسوبة عليها وانتهت بتضخيم فاتورة خسائرها السياسية. فضلا ان المرحلة المقبلة وفي ظل ما يلوح في الافق من امكانية حصول تفاهمات دولية واقليمية بين طهران والعواصم العالمية والمجاورة قد تفرض عليها الانتقال الجدي لتغليب دور المؤسسات الرسمية في التعامل مع نظيراتها في المحيط والجوار، بحيث يعود الدور العسكري ليلعب دور الرافد للعمل الدبلوماسي وليس على حسابه. خصوصا اذا ما كان النظام الايراني يسعى للتعامل الايجابي مع الليونة السعودية التي تستدعي منه العمل على تهدئة المخاوف والتقليل من الهواجس التي تعانيها هذه الدول جراء ما تصفه من تدخل ايراني في شؤونها الداخلية وتهديد لمصالح القومية والاستراتيجية.
المصدر: المدن