هل حقاً أن من يحرر يقرر؟

فادي حسين محمود

مع بدء عملية “ردع العدوان” ودخول هيئة العمليات العسكرية إلى دمشق، شاع مؤخراً على ألسنة كثير من السوريين وعلى صفحات التواصل الاجتماعي مصطلح “من يحرر يقرر”. مصطلح بدأ يكثر تداولهُ ويعم لغة أغلب الحوارات السورية السورية منذ أن أُسقِط النظام وهروب بشار الأسد حتى الآن، ويبدو أنه مستمر كمصطلح بل كمفهوم يحمل معه الإلغاء والفردية ضد أي مقترح وطني سياسي أو اجتماعي عام ضد أفراد وكيانات تُعنى بالشأن العام أو في إطار أي نقاش أُريد من خلاله النصح أو المشاركة أو التشاور أو الابتعاد عن تقديس الأشخاص أو حتى الاستفسار أمام قضايا مبهمة تحمل عناوين فضفاضة لما يبدو أنه معضلات أحياناً في واقعنا السوري. فالسؤال عن الكيفية مرفوض حول أيٍ مما يصدر عن الإدارة السياسية ومدى القدرة على تطبيقها، ومن خول الجهة العليا الآمرة الناهية في أي أمر، ناهيك عن الانتقاد الذي يعد صاحبه عرضة للاتهامات التي تبدأ بالتقليل من المنتقد نفسهِ وبما يتبناه من أفكار، وقد تنتهي بتخوينه صراحةً أو تلميحاً.

هذا التداول والاستباقية بمعرفة أكيدة بأن هناك حلولاً مصيبة والتي تكاد أن تكون (حصرية) للمشكلات وبأن “القائد لديه الحل”، لا أعتقد أنها ستتعدى كونها مفاعيل “سكرة النصر والتحرير”. والتحرير هنا نصف مناط الحديث الذي أعرضه، فمن “يحرر” هو حرر كفعل ماضٍ مبني على أحداث تمت بإرادة سورية على الأرض قدمت تضحيات عظيمة وتمكنت من إسقاط النظام عسكرياً بعد أن أسقط سياسياً بتخلي داعميه عنه بوضوح، مما سهّل مهمة التحرير في المدن والبلدات زحفاً سريعاً إلى أن سقط بفراره، وتحققت بذلك أولى أهداف الثورة.

فيحرر، والتي تعني مضارعاً، يحدث لواقع فيه “قسد” تسيطر على الحسكة والرقة وأطراف واسعة من دير الزور و “إسرائيل” تمتد بخطى ثابتة في القنيطرة لا يتضح معها نيتها، والفلول الطائفية التي تتحرك عن بعد تنشد مجداً ولّى أعادها إلى عصور ما قبل السلطة عبر تحريك مباشر على لسان الوالي الفقيه “علي خامنئي”، القائد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية لزعزعة استقرار سوريا وإثارة أنصاره بالتخريب وتعطيل أي عملية إصلاحية أو تصالحية.

فيكون التحرير مستمراً؟ أم أن ما تخوضه تركيا والأكراد والأمريكيون من مفاوضات مع “قسد” ومن أجلها سيضاف إلى سجل التحرير ورصيد الهيئة السياسية وتعلن بذلك “قسد” ذوبانها في سوريا الواحدة وجيشها الواحد؟ وهل التوسع “الإسرائيلي” في سوريا هو تركة إضافية لأي نظام سياسي قادم في سوريا مؤقتاً كان أم نهائياً؟

كيف نفهم وبحسن نية ما يجري في السويداء من قيام فصائل محلية  بمنع رتلٍ عسكريِ تابعٍ لإدارة العمليات العسكرية – بحجة عدم وجود تنسيق مسبق – دخول المحافظة، والذي كان بهدف معلن وهو نشر الأمن والشرطة؟

وهنا يفرض الحديث عن نصف المناط الآخر بالتقرير “يقرر”؟

فتسارعت الوعود المطلقة العامة والتي تصدر بمعظمها، إن لم تكن جميعها، من أحمد الشرع قائد العمليات العسكرية والإصلاح في قضايا تهم المواطنين، قضايا يومية مُلّحة مثل سعر الخبز وتوفره، والتداول والصرف بالعملة الصعبة علناً – بعد أن كان هذا من المحرمات في ظل النظام الساقط – وتشكيل جهاز أمن شرطة لحفظ الأمن والحد من المخالفات القانونية والسرقات وما هنالك من إجراءات عاجلة مطلبية ويسيرة التحقق.

وهل قرارات الهيئة السياسية بوصفها “حكومة تصريف أعمال” تمهيدية لقرارات ستأخذ شكل الديمومة؟ أم أنها ستنتهي على عتبة الحكومة الانتقالية المقبلة؟

ليس من المبالغة القول إن هناك عشرات الأسئلة المطروحة التي تحتاج إلى إجابة يفترض أن تتمخض عن عمل تشاركي اختصاصي سياسي وإداري لا يستطيع شخص واحد أو أي هيئة من لون واحد أو أي قدرات خاصة أن تجيب عنها طالما هم بشر لم يعطوا العلم المطلق في الشؤون كلها اجتماعية وسياسية وقانونية واقتصادية. وعدا عن صوابيتها من عدمها، فهي لم تأتِ من جهد جمعي سوري شامل، كلٌ في اختصاصه، بل تأتي من القرار الفردي والفئوي عبر سلطة أمر واقع في أحسن الأحوال، المستمر بقاعدة “من يحرر يقرر”، والذي حرر هو الشعب الثائر منذ ربيع 2011. وما حدث هو استكمال لمحاولات سابقة وجهد مستمر للسوريين الأحرار، مدنيين وعسكريين بالتحرير؛ الذين لم تكن الظروف الدولية متاحة لانتصار جهودهم منذ الأعوام الأولى في الثورة، فالذي يقرر هو الشعب، الشعب الحر الذي أسقط النظام.

في الدستور: كما صرح الشرع لقناة “العربية” بأنه “قد” يستمر لثلاث سنوات معللاً ذلك بعدم تفويت الفرصة التاريخية التي انتظرناها لخمسين سنة، والغاية أن يكون مستداماً لأطول فترة ممكنة؛ فالحديث بقدر ما هو مُحق حول مواد الدستور والمدة المتوقعة لصياغته، والتصديقات حوله من مناقشة أو استفتاء، فالتساؤل أيضاً حول اللجنة التي ستضع الدستور ومن سيكلفها؟ وكيف توصل الشرع لمدة تقريبية عبر عنها بثلاث سنوات؟ أما يطرأ على ذهن المتابع أن هذه المدة:

أولاً: قد تحمل أهدافاً غير معلنة من شأنها استحداث دستور جديد قد يحمل تشريعات إسلامية في قضايا كانت مدنية “وضعية” في دساتير سابقة، وتستوجب استنباطات شرعية وفقهية وقانونية معقدة قد تكلف سنوات لفرض رؤية نهائية لدستور “هجين إسلامي مدني”، وجدوى تحققها وكفالتها للصالح العام من عدمه.

ثانياً: مماطلة مقصودة لكسب الوقت من خلال المدة المقترحة، غايتها التشبث بالسلطة والاستثمار في الوعود الإصلاحية، ومغازلة مفرطة للمملكة العربية السعودية وإعطاء ضمانات وتطمينات بعد إزاحة إيران من الأرض السورية، وكي يكون السوريون قد لامسوا ثمار الإدارة الحالية أو المؤقتة أو أي إدارة على نمطها لتغدو مطلباً شعبياً عند السواد الأعظم ممن يسوغون فكرة “كل شيء يهون إذا ما قورن بواقع النظام البائد”، فكيف والبديل يدغدغ كل المشاعر والآمال التي هي موضوعية حيناً، وفي حينٍ آخر، نجمت عن ردة فعل مجتمعية على طائفية النظام ووحشيته؟

وفي الجيش: فقد أسفرت التعيينات الأخيرة عن قلق شديد وشكوك منطقية مبررة حول أسلوب قد ينم عن توزيع حصص وتقاسم النفوذ وثقافة الغنائم الفصائلية المستمرة. ولكن هذه المرة ليس في إدلب وما حولها وحدها، بل في عموم سوريا؛ شكوك على مستويين:

الأول: عبر تجنيس أو نية تجنيس مجاهدين غير سوريين عرباً وغيرهم من جنسيات مختلفة، كونهم مُنحوا رُتباً عسكرية وصاروا عقداءً وعمداءً في تشكيلات عسكرية جديدة منضوية تحت يافطة الجيش السوري. يحتمل الرفض مسبقاً لسببين:

1- من أعطى الصلاحية للهيئة السياسية الحالية في حكومة تصريف الأعمال أو لأحمد الشرع نفسهِ في وضع تعيينات عسكرية؟ وهل هي ترفيعات وأُعطيات دائمة أم مؤقتة؟ أم مرتبطة ارتباطًا مباشراً باستمرار هيئة تحرير الشام وقائدها في السلطة؟

2- وحول مصداقية تلك الشخصيات التي لا يخفى على أحد أنها جهادية تُقدَّم على أنها في صلب جيش وطني واحد مُفترض، مهمته الدفاع عن سوريا والسوريين كلهم، في الوقت الذي توضع فيه سوريا تحت المجهر الدولي والإقليمي، ومتربصون على مستوى دول يتصيدون أخطاء القيادة الجديدة لتكون باباً لهم في التدخل والعرقلة لأي عملية انتقال سياسي نجم عن ثورة انتصرت بإسقاط النظام.

الثاني: كيف يتم منح رُتب عسكرية عُليا لشخصيات شاركت في معارك التحرير، لمن هم ليسوا عسكريين أساساً؟ 80‎%‎ منهم مدنيون! في الوقت الذي يُرفض فيه لقاء والاستماع لضباط سوريين منشقين أتوا إلى دمشق – لمقابلة الهيئة السياسية كما عبر العميد ركن أحمد رحال. ولدينا ما يتجاوز ستة آلاف عسكري منشق، أكاديمي وبري وبحري وفي سلاح الجو بين ضباط وصف ضباط، دفعوا ثمن موقفهم في المخيمات والنزوح واللجوء، رفضاً لانخراطهم في مقتلة الشعب السوري، وتحملوا هم وعائلاتهم عبئاً ثقيلاً، هم الأجدر بالتكريم ومنحهم الترفيعات بعد تجميد النظام الساقط لرتبهم إثر انشقاقهم.

في الحوار الوطني: يجدر البدء حول آخر ما ذُكر في “تطبيق تلغرام” كونه كثرت الأقاويل التي تبدو مسربةً بقصد جس النبض كغيره من الأخبار، وسرعان ما يتم تثبيتها أو تعديلها رسمياً. فقد عبر الشرع في لقائه مع قناة “العربية” عن نيتهم طرح موعد لمؤتمر حوار وطني شامل لكل مكونات الشعب السوري، واستثنى بقوله على ألا يحضر الائتلاف الوطني بصفته كتلة، بل أفراد؛ وهذا ما يجر معه خوفاً آخر حول نوايا الهيئة السياسية بفرض اشتراطات معينة وظروف مسبقة. تخوفات عديدة مثل:

  • من هي الهيئة المكلفة بالإعداد لمؤتمر الحوار الوطني وما توجهاتها؟
  • ما هي الآليات التي ستتبع لدعوة المجتمع بقواه السياسية والشخصيات التي من شأنها تأسيس عقد اجتماعي وطني شامل من نقاط يتمخض عنها البيان الختامي للمؤتمر، الذي لم يُعلن حتى – وقت إعداد هذه المادة – عن موعد انطلاقهِ؟
  • في حال استمر التأكيد أن الدعوات ستكون حسب المحافظات كشخصيات عامة لا بوصفهم قوى سياسية وكتل وتيارات ومنظمات مجتمع مدني؟ من سيحدد أحقية شخص في حضور المؤتمر دون آخر؟ وما هو المعيار الذي يجب مراعاته في هذا الانتقاء؟

وهل سيقرر مثلاً من سُمي وزيراً للدفاع أن يتنازل عن منصبه الجديد، على اعتبار أنه مؤقت، لمن هو أحق “ديموقراطياً”؟ الديمقراطية التي لم يأتِ على ذكرها أحمد الشرع ولا من هم في سدة الإدارة حوله – إلا في تسجيلات مرئية سابقة له – باعتبارها “كفراً”. هل يضمن أحمد الشرع ومن في صفهِ أن – من يعتبر ما هو أقل من الديمقراطية بمراحل كفراً – أنهم إذا ما حوصروا في مناصب نفوذهم العسكرية والسياسية من أجل السير في مرحلة انتقالية، سيتنازلون عن ما يعتبرونه مكتسبات؟

وخلاصة القول: كثيرة هي الشكوك والتحفظات ومقدماتها التي لا تبشر بنتائج إيجابية في مجتمع يسعى لاستكمال أهداف ثورته. والأحرى بالهيئة السياسية الحالية تحصين جبهة سوريا الداخلية التي لا تبشر بأن هناك مناخًا ديمقراطيًا قادماً إلا انتزاعاً عبر المضي للحيلولة دونما العودة للديكتاتورية، التي يُخشى أن يعاد صياغتها، ولكن هذه المرة بلغة الأغلبية وبمفرداتها، بعد تفريغها من محتواها الثوري لفرض أمر واقع: أن من يحرر يقرر.

‫2 تعليقات

  1. من يحرر يقرر جملة اطلقها الطابور الخامس المطبلين بعد ان انتصرت الثورة واذا نريد اخذها بنية حسنة نقول ان الشعب السوري بأحراره وهو الذي حرر وهو الذي سيقرر .
    طرحت المقالة رؤية مقبولة ومعقولة حول تصرفات الادارة الطديدة

  2. مصطلح “من يحرر يقرر”. مصطلح يكثر تداولهُ بأغلب الحوارات السورية السورية منذ سقِوط طاغية الشام وهروبه لروسيا ، التحرير عملية تراكمية من آذار 2011 ولغاية 08-12-2024 وليس الإحدى عشر يوم الأخيرة. إن إستمرار المصطلح يحمل بطياته إلغاء الآخر والفردية وضد أي مقترح وطني سياسي أو اجتماعي عام، ليكون أمام شعبنا إنتزاع حقهم الديمقراطي وعدم عودة الديكتاتورية ولو بصياغات جديدة،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى