مصر المتأخّرة عن المشهد السوري

عمر سمير

بعيد سقوط نظام عائلة الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، سقوطاً سريعاً ومفاجئاً في 11 يوماً، توَّج صراعاً امتدّ أكثر من 14 عاماً، ويمدّه بعضهم ليشمل خمسة عقود من حكم آل الأسد، ارتبكت دول عربية عديدة، وبالذات في ذلك المحور العربي الذي حاول تعويم نظام الأسد بكلّ ما أوتي من وسائل، سواء باستقباله في جامعة الدول العربية، أو بدعمه سياسياً بالمكايدة في أنظمة إقليمية وفي معارضته وفصائلها في الداخل. لكن سرعان ما رتّبت عديد من هذه البلدان مواقفها وغيّرتها من النقيض إلى النقيض، فسارعت إلى التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، بينما ترقّبت مجموعة أخرى، وإن دعت إلى اجتماع بشأن سورية خارجها (مع الأسف!)، وكان من هؤلاء المتردّدين المترقّبين مصر. وبطبيعة الحالة، انتشرت “مكلمة” مصرية بشأن الموقف المصري، بعضها يبرّر الصمت والتأخّر المصري عن التواصل مع الإدارة الجديدة بتبريرات فاشلة، قائلين: لماذا نتواصل مع تنظيمات إرهابية، ومن يحتاج لمن؟ فيما حرّض إعلام السامسونغ على لسان من يفترض أنه ليبرالي، مثل إبراهيم عيسى، على عدم الاعتراف بالسلطات الجديدة، بل واستغلال وجود بعض أفراد عائلة قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع بمصر وابتزازه بهم.

النتيجة الفعلية لسياسة شيطنة الإسلام السياسي هي صعود تيارات أكثر تشدّداً، سواء “داعش” أو غيرها

وبينما يفترض لمصر في وضع طبيعي أن تكون أوّل المنخرطين في الشأن السوري، فإنها على مدار العشرة أعوام الماضية أبدت انعزالاً واضحاً عن الشأن السوري، واختزلته في مقولة رئاسية للتحذير من المصير السوري الذي ينتظر مصر الدولة والجيش والمجتمع، حال الانخراط في أيّ احتجاجات شعبية تهدف إلى إسقاط النظام أو رأسه في مصر، انخرط بعضهم في تضخيم مصر ودورها، وانطلق آخرون في حملة شرسة على التيارات الإسلامية برمّتها، وعلى هيئة تحرير الشام، والفصائل السورية، والإدارة السورية الجديدة، وتركيا، مُحمَّلين بشحنات عاطفية شعبوية تاريخية ومعاصرة. ويحمل النظام في مصر، كما تحمل بعض النخب المدنية المصرية والعوام، تصوّراً شديد الاختزالية، مفاده التعميم الكبير والخطير باعتبار كلّ حراك في المنطقة العربية، سلمي أو عسكري، هو امتداد للحركات الإسلامية، مع افتراض مركزية واسعة للحركة الإسلامية المصرية، وفي مقدمتها التيّار الذي تمثّله جماعة الإخوان المسلمين، التي يصفها النظام في مصر بالإرهابية، وصفاً أعاق أيّ مسارات سياسية قد تقود إلى الإصلاح في مصر طوال العقد الماضي، مع ممارسات قمعية مقصودة لتحويل بعض أفراد الجماعة ومجموعات محدودة منشقّة منها إلى العنف، الذي هو استثناء في فكر الجماعة وأدبياتها، كما تشير إليه أغلب الدراسات الغربية والعربية الموضوعية وشبه الموضوعية حتى. المشكلة أن هذه الرؤية لا ترى (ولا تريد أن ترى) التنوّع الكبير إلى حدّ التناقض بين الحركات الإسلامية، فترى “ولاية سيناء” أو “القاعدة” أو “داعش” امتداداً للإخوان المسلمين في تسطيح شديد، يُستخدَم إعلامياً وصحافياً وسياسياً على نطاق واسع وشعبوي ضارّ بالسياسة وبالدولة وبالنظام نفسه، رغم جهود عشرات الباحثين والخبراء، حتى الأمنيين منهم، لدراسة وتحليل الأفكار السياسية المختلفة لهذه الحركات الإسلامية، التي كفّر بعضها الرئيس محمد مرسي، وهو في الحكم، وعانى نظامه منها ربّما أكثر من النظام الحالي.
عندما تُجرّ السياسة الداخلية القائمة على شيطنة تيار الإسلام السياسي في نسخته الأكثر تسامحاً مع السياسة والمجتمع، إلى ساحة السياسة الخارجية، نرى مصر تابعاً لمحور إقليمي للثورات المضادّة تشكل منذ 2011، موجه باتجاه محاولات لاجتثاث هذا التيار، والنتيجة الفعلية لهذه السياسة تجلّت في صعود تيارات أكثر تشدّداً، سواء “داعش” أو غيرها، في العراق وسورية ومصر وليبيا، والتعامل معها جميعاً أفرعاً لجماعة الإخوان المسلمين أو بناتها الأيديولوجيين، قاد إلى خلل شديد في السياسة الخارجية المصرية.
رأينا فداحة الخسائر الإقليمية لمصر في أقرب الملفّات الواقعة في أفنيتها الخلفية، فقد أدّى هذا التعنّت والعناد الأيديولوجي إلى تعقيد الموقف في ليبيا، وفقدان أيّ دور حقيقي في إرساء أيّ حلول، وصعود اتجاه عام ضدّ مصر والمصريين في غالبية مدن الغرب الليبي، نتيجة الدعم السياسي والعسكري لخليفة حفتر، قائد الانقلاب، والمحاولات الفاشلة للاستيلاء على السلطة، التي انتهت بتدمير جزء مهمّ من المباني، ومئات الآلاف من الوحدات السكنية والبنية التحتية، في العاصمة الليبية، وتركت غصّةً لا تُنسى في قلوب أصحاب هذه البيوت المهدّمة تجاه حفتر وداعميه، وخسرت مصر من ذلك، ليس هيبتها دولةً فقط، بل عشرات المليارات من الدولارات، التي كان يفترض أن تحوّل في عشر سنوات بتكلفة الفرصة البديلة حال استقرار ليبيا، وذلك بعودة مئات الآلاف من المصريين هناك، وإذلال عشرات الآلاف منهم في مشاهد مصوّرة مؤلمة. ورأينا أيضاً كيف أذلّت قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) المليشياوية، جنود قاعدة مروي المصرية، ومحدودية الدور المصري هناك، مقارنةً بأدوار أخرى.
بينما يبرّر بعضهم الموقف المتأخّر من الأحداث في سورية، قبل اتصال هاتفي بين وزيري الخارجية مساء الثلاثاء، حدّ الذهاب إلى عدم الحاجة إلى سورية، التي يصفونها بالساقطة تحت حكم المجموعات الإرهابية، وكثيرون من هؤلاء قادمون من خلفية ناصرية، ويتناسون أن مصر ليس لديها جيش أوّل، لأن المفترض أن جيشها الأول في الشام، هكذا كانت الرؤية حتى وصلت إلى حدّ الوحدة الناصرية القصيرة، التي لم تكن إلا تتويجاً لمسارات ومحاولات تاريخية مختلفة للوحدة، وإثبات إمكانيتها، لكنّها باءت بالفشل نتيجة التعصّب والصراع الأيديولوجي الحادّ والمقيت، بين الفكر البعثي والناصري، مع الفساد والاستبداد وحكم الفرد. من حقّ النظام المصري أن يخاف ويرتبك من مصير الأسد، ومن حقّ مؤيديه أن يبالغوا في وصف مصر باعتبارها ليست سورية، لكن من حقّ مصر الدولة أن تكون موجودة وفاعلة في السياسة الإقليمية، وأن تكون حاضرة بقوة في أيّ ملفّات في حدودها الشمالية الشرقية، في الشام بمفهومه الواسع. وهذه حقيقة جيوسياسية تتجاوز الأنظمة، وتجاوزتها سابقاً، ويعتبرها بعضهم حتميةً تاريخيةً.

من حقّ النظام المصري أن يخاف ويرتبك من مصير الأسد، لكن من حقّ مصر الدولة أن تكون فاعلة في السياسة الإقليمية

وبطبيعة الحال، هناك عشرات المصالح المشتركة مع سورية، بغضّ النظر عمّن يحكمها، سواء ما يتعلّق بالاستقرار في شرق المتوسط وأمن الطاقة، أو بالعلاقات العربية الإسرائيلية وبالتوترات الحاصلة فيها، أو حتى بالتبادل التجاري الاقتصادي، الذي ينبغي أن يعاد إلى مستويات أفضل كثيراً ممّا كان عليه قبل الثورة السورية، أو البحث عن دور فعّال في عمليات إعادة الإعمار. وفي أقلّ تقدير، فإن مصر، حتى وإن عادت التيارات الإسلامية المسيطرة على الحكم في سورية، فليس من الحكمة أن تعلن موقفاً كهذا في هذه اللحظات الانتقالية، بل عليها أن تثبت حضورها، سواء ضمن حضور إقليمي عربي (هو الأضعف في سورية للأسف!) أو ضمن تنافس مع قوى إقليمية، لطالما تُرِكَت لها الساحة، ثمّ ندب دعاة الانعزالية المصرية حظّهم بصعود أدوارها، مثلما هو الحال مع تركيا وإيران.
ومن غير المعقول أن إيران وروسيا اللتين أنفقتا واستثمرتا عشرات المليارات من الدولارات لتثبيت حكم الأسد كانتا من أوائل البلدان الباحثة عن تواصل مع الإدارة السورية الجديدة، فيما تبقى مصر التي لم تدعم النظام إلّا كلامياً في صفوف المتفرّجين والمتردّدين، ويطلق إعلامها حملةً إعلاميةً شرسةً ضدّ الإدارة الجديدة، تضر بمصالح البلدَين، وتصعّب مهمة التواصل الذي سيحدث لا محالة، الذي نتمنّى ألّا يتأخّر أو يُختزَل في قضايا هامشية، مثل تسليم مصريين، أو كلام عام عن محاربة الإرهاب، وإنّما عن دور مرتقب في إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها والإعمار، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وتثبيت الموقف العربي من الجولان أرضاً محتلّة.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى