الموت برداً… إبادة متعددة الأشكال في خيام قطاع غزة

يحيى اليعقوبي

الرضيعتان سيلا وعائشة هما أحدث شهداء البرد القارس داخل خيام النزوح في قطاع غزة، ما يمثل صنفاً جديداً من أشكال الإبادة الجماعية التي يعيشها جميع سكان القطاع في ظل انعدام المأوى، ونقص الغذاء.

لم يتحمل جسد الرضيعة الفلسطينية سيلا الفصيح (ثلاثة أسابيع) قسوة الظروف التي ولدت فيها، إذ تعيش عائلتها في خيمة مهترئة على شاطئ مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، لا تبعد سوى ثلاثين متراً عن مياه البحر، وتتحول في ساعات الليل إلى ثلاجة باردة، بينما يتقاسم الأبوان مع أطفالهم ثلاثة أغطية هي كل ما تملكه العائلة للاحتماء من البرد القارس.
في الساعة الخامسة من فجر الأربعاء الماضي، استيقظت والدة الطفلة لإرضاعها، وفوجئت ببرودة جسد طفلتها، وعدم وجود أي نوع من الحركة، كان جسد سيلا متصلباً وبارداً، وما إن كشفت عنها الغطاء، حتى اكتشفت تغير لون جلدها إلى الأزرق، وكانت تعض لسانها مع وجود قطرات نزيف من أنفها، بلا نبضٍ ولا حركة. ماتت سيلا من البرد.
تجلس المرأة داخل خيمتها على شاطئ البحر، بين نسوة آتين لمواساتها، بينما يجثم الحزنُ على ملامحها. تقول لـ “العربي الجديد”: “استيقظت صباحاً كالمعتاد لإشعال النار، فنحن لا نملك وسيلة أخرى لتسخين الحليب الصناعي الذي تتناوله سيلا بسبب سوء التغذية الذي أعانيه، والذي حرم طفلتي من الرضاعة الطبيعية. كان جسدها كلوح الخشب، بارداً. نقلناها إلى مجمع ناصر الطبي، وهناك أخبرونا بأنها توفيت بسبب البرد”.
تضيف الأم: “ولدت سيلا بوضع طبيعي، وكان وزنها كان جيداً، نحو 3 كيلوغرام، ولم تظهر أي علامات مرض عليها، وحاولنا منذ ولادتها تدفئتها بكل ما توفر لدينا من ملابس وأغطية، لكنها لم تكن كافية. ما زلت في حالة صدمة، ولا أستوعب ما جرى. منظرها وهي متجمدة من البرد لا يمكن تحمله. وضعت أذني عند قلبها فلم أسمع أي نبض، ولم يظهر أي تنفس”.
وينهش الفقر عائلة الطفلة سيلا النازحة من مدينة غزة، فوالدها الذي كان يعمل سائقاً متعطل عن العمل، ولا يوجد لديهم أي مصدر دخل، وخيمة النزوح استعارتها العائلة، وحصلت على ملابس الطفلة من جيران لهم، وكانت مخصصة لطفل ذكر، وتخلو الخيمة من أية وسائل حماية من المطر والبرد، كالنايلون والشوادر، وعندما يتساقط المطر يتركون الخيمة إلى خيام الجيران، كما تمتد معاناتهم إلى الجوع والأمراض، فالطفلان نهاد (سنتان) وريان (4 سنوات) يعانيان نزلة برد.

تخشى أم سيلا حدوث مكروه لطفليها بعدما خسرت رضيعتها، وتقول: “خسرت ابنتي من البرد بعد أن تعبت خلال حملها لأنني لم أكن أحصل على الغذاء الكافي، ولولا أن بعض الجيران قدموا لنا علبة حليب صناعي لما استطعتُ إرضاعها، كما لم نستطع توفير سرير لها، ولا ملابس شتوية. اقترحت على زوجي إشعال النار في الخيمة لتدفئتها، لكننا خشينا أن تموت من الاختناق، فماتت من البرد”.

تكرار وفيات الأطفال في غزة بسبب البرد مؤشر على الخطر الداهم

يعيش الفلسطيني عادل القصاص مع أسرته في خيمة بمنطقة المواصي غرب محافظة خانيونس، وقد استيقظ صباحاً ليجد طفلته الرضيعة عائشة (أربعة أسابيع) ميتة من البرد. يقول لـ “العربي الجديد”: “أخذتها إلى النقطة الطبية عندما وجدتها في حالة تجمد، ثم توجهت إلى مستشفى ناصر، وهناك أخبروني أن طفلتي ماتت بسبب البرد. يومها كان قطاع غزة يتأثر بمنخفض جوي، وكانت برودة الخيمة قارسة، ولم نستطع توفير سلة للتدفئة”.
نزحت عائلة القصاص في بداية عام 2024، من منزلها الواقع بمنطقة الشيخ ناصر شرق مدينة خانيونس، ولم يعطهم جيش الاحتلال فرصة لنقل ملابسهم أو مقتنياتهم، وفي إبريل/ نيسان الماضي، قصفت طائرات الاحتلال المنطقة التي نزحوا إليها، فأحرقت نحو ثلاثين خيمة، من بينهم خيمتهم بما فيها من ملابسهم.
لدى القصاص أربعة أطفال أكبرهم عمره ست سنوات، وهو يعيش منذ وفاة عائشة في خوف وقلق دائم، ويحاول توفير النايلون لحماية الخيمة، وجلب الأغطية، ويكرر إيقاظ الأطفال مرتين في الليل للاطمئنان عليهم، والقيام بتمارين رياضية بسيطة قبل النوم لتحريك أجسادهم ومنحهم بعض الدفء.

ويوم الجمعة الماضي، توفي الممرض أحمد الزهارنة، والذي يعمل ضمن الطواقم الطبية بمستشفى غزة الأوروبي، نتيجة البرد القارس، وعُثر على جثمانه داخل خيمته في منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس.
ويمثل تكرار حدوث الوفيات بسبب البرد جرس إنذار للخطر الداهم، ورسالة للعالم بضرورة توقف حرب الإبادة التي تقتل أطفالاً رضعاً ولدوا في ظل ظروف خالية من معظم مقومات الحياة، وتنعدم فيها أبسط حقوقهم.
ويفيد مدير مبنى الولادة والأطفال في مجمع ناصر الطبي، الطبيب أحمد الفرا، أن “القسم يستقبل يومياً ما بين حالتين إلى خمس حالات لأطفال يعانون انخفاضاً في درجات الحرارة، وقد وصلت أربعة حالات متوفاة خلال الأسبوع الماضي، ولم تكن أعمارهم تتجاوز الشهر، وأحدهم كان عمره أربعة أيام، وجميعهم ولدوا في وضع طبيعي وبصحة جيدة، لكن انخفاض الحرارة الشديد أدى إلى وفاتهم”.
ويوضح الفرا لـ “العربي الجديد”، أن “انخفاض درجة الحرارة لدى الرضع يسبب الوفاة نظراً لعدم قدرة أجسادهم على الاحتفاظ بالحرارة، بعكس الشخص البالغ. خلال الأسبوع الماضي، تفقدت طفلاً عمره أربعة أشهر ووزنه 4 كغم، والمفروض أن يكون وزنه أكثر من ذلك، وعندما سألت أمه قالت إنها لا تجد منذ ثلاثة أيام سوى المياه، وعلبة معلبات واحدة تقاسمتها العائلة. هذا نموذج لانعدام الأمن الغذائي في غزة، والأمهات منهكات بسبب نقص الغذاء، ولا يمكن لأجسادهن إنتاج الحليب الكافي للإرضاع، كما لا يستطعن شراء الحليب الصناعي، وهو غير متوفر في الأسواق إلا بكميات شحيحة وأسعار باهظة”.
ويتوقع الفرا زيادة أعداد الوفيات بسبب البرودة ما لم يكن هناك حل ينهي الحرب، ويسمح بعودة النازحين إلى بيوتهم، مشدداً على ضرورة تدخل المنظمات الدولية، وألّا تنتظر وقوع مزيد من الكوارث، والضغط على الاحتلال للسماح بدخول الكهرباء والوقود ووسائل التدفئة.

ويشير الطبيب الفلسطيني إلى وجود الكثير من المساعدات المتكدسة قرب معبر رفح، والتي تضم الخيام والأغطية والملابس الشتوية، لكن منذ إغلاقه في مايو/ أيار 2024، تفاقمت الأوضاع الإنسانية في غزة.
داخل خيمته الواقعة على تل بمنطقة المواصي، ينام محمود الزبن (30 سنة) تحت ثلاثة أغطية، ويرتدي ملابس شتوية ثقيلة، وإلى جانبه طفلته مريم التي أتمت أخيراً عامها الأول، ورغم ثقل الأغطية، إلا أن احتضان طفلته هو الحل الوحيد لتوفير الدفء لها في بقعة ذات مناخ صحراوي.
يحكي الزبن لـ “العربي الجديد” عن أوجاع الحياة في منطقة المواصي: “نختبئ أنا وطفلي وزوجتي تحت الأغطية طوال الليل، ونحن مضطرون إلى ذلك، وإلا فسنتجمد من البرد. عند الفجر تكون المياه باردة، وتشعر بأن عظامك تتكسر من شدة برودتها. أضطر لوضع طفلتي بيني وبين والدتها طوال الوقت حتى نشعر بحركتها، فهي تعاني نزلات البرد، ويومياً نزور النقطة الطبية القريبة من مخيمنا، وفي الفترة الأخيرة، أصيبت بالتهابات صدرية، ولا تكاد تتعافى حتى تصاب مجدداً”.
يضيف: “يستيقظ شقيقها خالد (4 سنوات) أحياناً مرتعشاً من شدة البرد، فنحاول تدفئته وتهدئته. الرياح الشديدة تحرك الخيمة، وأشعر أحياناً أنها ستقتلعها، إضافة إلى معاناتنا من دخول القوارض إلى الخيمة، ووجود الكلاب الضالة والقطط بمحيط المخيم. ولا ندري إلى متى يمكننا تحمل كل هذا”.

تؤثر برودة الخيمة بقسوة على الطفلة آلاء أبو العمرين، وعندما تغرب الشمس ويصبح الجو أكثر برودة، تبدأ بالبكاء، وغالباً ما تصحو ليلاً لتبكي من دون سبب واضح سوى البرودة. تقول عمتها إسراء أبو العمرين لـ “العربي الجديد: “أطفال المخيم، بما فيهم آلاء، يعانون البرد، وكثيراً ما يستيقظون من نومهم بسبب البرد القارس في ظل انعدام أية وسائل تدفئة. نحاول قدر الإمكان إلباس آلاء ملابس شتوية ثقيلة، ولفها بطبقات من الأغطية، لكن هذا لا يكفي، فبرد الخيمة لا يمكن أن تقهره الملابس أو البطانيات. حياة الخيام مأساة حقيقية، خاصة في فصل الشتاء، فالبرد في الخيام مختلف، وهو ينخر العظام، والماء المتجمد يبدو دافئاً مقارنةً ببرودة الأجساد”.
تضيف إسراء: “شعور الأطفال بالدفء بات حلماً، وماريا (7 سنوات) شقيقة آلاء ترفض أحياناً غسل يديها لأن الماء بارد، ما يزيد المعاناة النفسية والجسدية، وأيضاً ابن الجيران بلال (3 سنوات)، يشعر دوماً بالبرد رغم أنه يرتدي ملابس ثقيلة. حالهم كحال غالبية أطفال غزة الذين يعانون برد الخيام، ويحلمون بالدفء. مؤخراً، وبعد وفاة أطفال رضع بسبب البرد، انتشر الرعب بين الأهالي، وأصبحوا مهووسين بتفقدهم خشية فقدانهم”.

المصدر: العربي الجديد

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى