إسرائيل وجماعة الحوثي… الردع والمقامرة

بشرى المقطري

أعادت التحوّلات الإقليمية الحالية فرض جماعة الحوثي فاعلاً رئيساً في معادلة الصراع الإسرائيلي الإيراني، وأيضاً الإسرائيلي الفلسطيني، ففي حين حسمت الانتكاسات المتعاقبة التي مُني بها محور المقاومة الإسلامية من تفوّق إسرائيل، وهيمنتها على الإقليم، فإنه صعّد من دور جماعة الحوثي قوةً عسكريةً تقود معارك إسناد المقاومة في قطاع غزّة، الأمر الذي ترتّبت عليه إدارة الصراع بين الطرفَين وفق معادلة تثبيت استراتيجية الردع بالنسبة لإسرائيل، والاستمرار في مغامرة معارك إسناد المقاومة بالنسبة إلى الجماعة.
في مدى عام من حربها على قطاع غزّة، شكّل اليمن، جغرافيا تنطلق منها التهديدات التي تطاول عمق إسرائيل، مأزقاً عسكرياً وأمنياً بالنسبة إلى إسرائيل، فوضعت عقيدة الردع الإسرائيلية على المحكّ. فمع تفتيتها محور المقاومة، وفكّ ارتباط وحدة ساحات المقاومة المساندة غزّة، بعد هزيمتها حزب الله، فشلت إسرائيل في فكّ ارتباط استهداف عُمقها من جماعة الحوثي، بما في ذلك تصعيد عملياتها في الجبهة البحرية، التي تتزعّمها، عن استمرار حرب إسرائيل في قطاع غزّة، إذ تنفيذ هجومين استهدفا اليمن، في يوليو/ تمّوز وسبتمبر/ أيلول (2024)، أكّد فشل إسرائيل في تثبيت أيّ مستوىً من الردع ضدّ الجماعة، إذ واصلت هجماتها ضدّ إسرائيل بوتيرة منضبطة، كما أن سقوط الجبهة السورية أخيراً، ساحةَ مقاومةٍ، وإن مكّن إسرائيل من تأمين حدودها، فإنه لم يعطّل قدرة الجماعة على إسناد المقاومة، بل صعّد عملياتها ضدّ إسرائيل بشكل لافت، ومع قيام إسرائيل بهجوم ثالث استهدف اليمن، إلّا أن القوة العمياء في أحيان كثيرة تكشف عوارها، فبعد الهجوم الإسرائيلي، نفّذت الجماعة خمس عمليات عسكرية ضدّ إسرائيل، استخدمت صواريخ باليستية وطائرات مُسيَّرة استهدفت عدداً من المدن الإسرائيلية، وألحقت إصابات في صفوف المواطنين، كما أن تنفيذ هجومٍ رابعٍ على اليمن، في 26 من الشهر الحالي (ديسمبر/ كانون الأوّل)، وإن كان الأعنف، واستهدف مطار صنعاء الدولي، إلى جانب منشآت الطاقة، وأيضاً استهدف مدينة الحديدة، فإنه لم يعطّل حتى الآن قدرة الجماعة على استهداف العمق الإسرائيلي، واستئناف هجماتها.

اختراق إسرائيل الحوثيين أمنياً وعسكرياً على غرار حزب الله يعوقه افتقارها إلى تجربة استخباراتيةٍ طويلةٍ وعميقة الأثر 

في المقابل، تصعيد الجماعة ضدّ إسرائيل، فرضها تهديداً أمنياً يوجب القضاء عليه، سواء باستمرار استهداف الجماعة مستقبلاً أو توجيه معركتها ضدّ إيران، إلّا أنه في حالة حرب إسرائيل ضدّ الجماعة يظلّ توجيه ضربة قاصمة ضدّها تحدّياً حقيقياً لها، فبالإضافة إلى بُعد اليمن جغرافياً عن الأراضي المحتلّة، وما يترتّب عليه من تحدّيات عسكرية ولوجستية واقتصادية لإسرائيل، ممّا يجعلها حرباً مكلفةً، وأيضاً غير حاسمة النتائج، فإن شنّ هجمات عسكرية على اليمن يستوجب تنسيقاً عملياتياً مع الدول التي ستمرّ مقاتلاتها بأجوائها، وقد يجعلها في المستقبل هدفاً للجماعة، كما أن الغارات الجوّية، مع خسائرها الاقتصادية والبشرية على اليمنيين، فإنها لا تشكّل عاملاً حاسماً وسريعاً لكسب حربها ضدّ الجماعة، إلى جانب أن محاولة استنساخ إسرائيل تجربتها في لبنان، عبر تنفيذ اختراق أمني وعسكري لمنظومة الجماعة، قد تعوقه لا تعقيدات الوضع اليمني فقط، بل افتقارها إلى تجربة استخباراتيةٍ طويلةٍ وعميقة الأثر في ما يخصّ اليمن، تمكّنها من استهداف البنى العسكرية التابعة للجماعة، بما في ذلك القدرة على التأثير في المعادلة اليمنية، ومن ثمّ فإن أيّ استراتيجية ستتبناها إسرائيل يجعلها لا في موقع القيادة، بل مُجرَّد شريك في ردع الجماعة.
تبني إسرائيل خطابها العدواني الذي يشرعن انتهاكاتها العابرة للجغرافيا، لا من منطلق نتائج حربها على الفلسطينيين، بل من استثمار مظلوميتها التاريخية بأنها هدف دائم لعدو يتربّص بها، بما يمكّنها من تثبيت استراتيجية الردع ضدّ خصومها، وتأكيد هيمنتها الإقليمية، فبات استهداف جماعة الحوثي هدفاً استراتيجياً بالنسبة لإسرائيل يقتضي ضرورة التخطيط لاستراتيجية شاملة تستهدف بنتيها العسكرية، ومواردها الاقتصادية، والبشرية، بما في ذلك وضع قادة الجماعة أهدافاً محتملةً. إلّا أن تحقيق ذلك يقتضي إعداداً لمعركتها الطويلة، بدءاً بالبحث عن غطاء سياسي يمنحها مشروعية استهداف الجماعة، ومن ثمّ ضرب اليمن (ليس الآن فقط، وإنما بشكل دائم)، إلى توسيع شراكتها مع حلفائها لتنويع وسائل استهداف الجماعة، الذي يتأتّى من تثبيت سردية فصل حربها على قطاع غزّة عن عمليات الجماعة التي تستهدف عمقها، بتصعيد التبعات الاقتصادية على هجماتها في الممرات المائية خطراً يتجاوز أمن إسرائيل إلى تهديد مصالح العالم، وهو ما يقتضي تجريم الجماعة، بتصنيفها منظّمةً إرهابيةً من حلفائها الغربيين، إلى جانب بلورة تدخّل عسكري متعدّد الأقطاب لردع الجماعة، بعدّ إسرائيل تتحرّك لوقف تهديداتها نيابةً عن المجتمع الدولي.
وفي المستويين العسكري والاستخباراتي، تراهن إسرائيل على حلفائها الغربيين، وفي مقدّمتهم حليفها الأميركي، فمع تخطيط إسرائيل هجمات قادمة على اليمن، بما في ذلك توسيع قائمة أهدافها العسكرية والاقتصادية، فإنها تعوّل على القوة العسكرية الأميركية (وبالطبع البريطانية) المرابطة في الممرّات المائية لاستهداف مواقع الجماعة، ومضاعفة هجماتها مع مستويات التهديد التي تطاول إسرائيل، وهو ما يتكشّف بحجم الضربات الأميركية التي شهدها اليمن، التي سبقت وتزامنت، وأعقبت أيضاً، الهجوم الإسرائيلي على اليمن، إلى جانب التهديد الأميركي بعد استهداف الجماعة للمدمّرة الأميركية في البحر الأحمر، وإسقاط مقاتلة حربية، التي قد تدفعها إلى تصعيد هجماتها على اليمن. إضافة إلى ذلك، تراهن إسرائيل على حليفتها في تشديد الحصار الاقتصادي على الجماعة، وعزلها سياسياً، فضلاً عن التعويل على إنضاج نتائج الارتدادات التي أطاحت نظام بشّار الأسد في الدفع لتأهيل (وتمكين) قوىً محلّيةٍ لقيادة معركةٍ مقبلةٍ ضدّ الجماعة، وربّما إسقاطها، الذي لن يتمّ إلّا بضوء أخضر أميركي.
في المقابل، فإن عاماً من تبنّي خيار المواجهة العسكرية مع إسرائيل، بما في ذلك هجماتها على خطوط الملاحة البحرية، نقل جماعة الحوثي من قوة محلّية هامشية، إلى قوة إقليمية تهدّد أمن إسرائيل وحلفائها الغربيين في المنطقة، وهو ما يعني منحها مكاسبَ سياسية وعسكرية لتثبيت موقعها في معادلة الصراع مع إسرائيل، ومع أن التحوّلات الإقليمية الحالية قد ساهمت في إضعاف محور المقاومة، الأمر الذي صدّرها مصدرَ تهديد وحيد لإسرائيل من الجبهة الجغرافية الأبعد، فإن الجماعة تراهن على استثمار مكاسب دورها الوظيفي قوةً محوريةً في معسكر المقاومة، وذلك بفصل دورها لإسناد المقاومة في قطاع غزّة عن أنها وكيل إيران، لا يتأثّر بالتداعيات التي يتعرّض لها حليفها الايراني، وشبكة الوكلاء الآخرين، وذلك عبر التمسّك بخيار ربط الجبهة التي تقودها لاستهداف إسرائيل بالجبهة الفلسطينية، وبمساراتها العسكرية والسياسية، التي تعني ضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزّة شرطاً معلناً لوقف هجماتها على إسرائيل. إلّا أن إسناد جبهة المقاومة، وأيضاً سدّ الفراغ العسكري الذي خلقته انتكاسة محور المقاومة، باستهداف العمق الإسرائيلي، وتصعيد هجماتها البحرية، قد تترتّب عليه مخاطر وكلفة باهظة.
سلسلة الحروب الإسرائيلية على قوى محاور المقاومة الإسلامية، وإن عطّلت، إلى حدّ كبير، من قنوات الدعم العسكري المتبادل، التي كانت مصدراً حيوياً بالنسبة لجماعة الحوثي، فإن إسقاط نظام بشّار الأسد ضاعف من التحدّيات العسكرية التي تواجهها، وذلك بضرب خطّ الإمداد العسكري الرئيس، الذي كان يمرّ من حليفها الإيراني عبر سورية، ومن ثمّ أفقدت هذه المعطيات الجماعة مواردَ عسكريةً ولوجستيةً مهمّةً لتكثيف عملياتها ضدّ إسرائيل وحلفائها، ومع أنها توازن إدارة عملياتها بين تنفيذ هجمات منفردة ضدّ إسرائيل، وإشراك فصائل المقاومة العراقية الموالية لإيران، فإن انعكاس الوضع السوري الحالي في المشهد العراقي أنتج قيوداً إضافيةً على نشاط الفصائل المسلّحة، وهو ما يضاعف الضغط على الجماعة، إلى جانب أن تغيير المعادلة السياسية في سورية، لا يعني فقط خسارتها لامتيازات دبلوماسية وسياسية للنظام العربي الوحيد، الذي كان يعترف بسلطتها، بل تصعيد قوة إسلامية حاكمة في سورية، ما قد يمنح خصومها المحلّيين الجهوزية لترتيب معركة ضدّها أو استغلال استنزافها جرّاء استمرار استهدافها من إسرائيل وحليفها الأميركي.

إسقاط نظام الأسد ضرب خطّ الإمداد العسكري الرئيس الذي كان يمرّ من إيران إلى الحوثيين عبر سورية

وإذا كانت كلفة أربعة هجمات إسرائيلية على المناطق الخاضعة للجماعة تسبّبت بخسائرَ اقتصادية مكلفة بالنسبة إليها، تتخطى 300 مليون دولار، فإن التبعات الاقتصادية بعد سقوط نظام بشّار الأسد تضاعف أزمتها الاقتصادية، إذ شكّلت سورية الأسد ركيزةً رئيسةً في اقتصاد الجماعة العابر للحدود، وأيضاً المحلّي، فإضافة إلى أن سورية قناة لإدارة تدفّقات المال والنفط والاستثمارات من ايران، وشبكة حلفائها في المنطقة، بما في ذلك النظام السوري، وأيضاً قادة الجماعة، فإن النظام السوري ظلّ حليفاً اقتصادياً مهمّاً بالنسبة إلى الجماعة، منحها تسهيلات لإدارة استثمارات تجارية، وأيضاً الاستيراد، إذ كانت الشركات السورية واحدة من أكبر المهيمنين على الأسواق اليمنية في المناطق الخاضعة للجماعة.
على هامش الحرب في قطاع غزّة، وأحد أهم ارتداداتها في الوقت الحالي، تتكرّس في الجبهة اليمنية معركة الردع والردّ المقابل، التي قد تؤدّي إلى استمرار مغامرة جماعة الحوثي في إسناد المقاومة، ومن ثمّ تصعيد هجماتها في العمق الإسرائيلي، فيما قد تذهب إسرائيل وحليفها الأميركي إلى توسيع هجماتها على اليمن، أو ترتيب تدخّل برّي في المستقبل، وأيّاً كان السيناريو المقبل، فإن الأكيد هنا أن اليمن ربّما بات على مفترق طرق، ما يعني تحولّه جبهةً دوليةً وإقليميةً في صراع متعدّد الأقطاب، أو الدفع نحو استئناف حرب مدمّرة بين الفرقاء المحلّيين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى