في غمرة النقاش الذي لا ينتهي بشأن مآلات انتصار الثورة السورية، لا يعدمنّ أحدٌ سبل العثور على سبب واحد من مائة سبب لفهم الإحساس بالصدمة لدى طهران، وحملها على تجرّع ما تبقّى في الكأس من سمّ زعاف، غداة سقوط حجر أساس مشروعها الإمبراطوري في المشرق العربي. ويمكن للمرء أيضاً تفهّم هذه المكابرة كلّها، والشعور الثقيل بالخسارة الفادحة لدى روسيا التي راهنت على حليف لا سلسلة ظهر له، وقاتلت معه ضدّ شعبه، وها هي تكظم الغيظ وتخسر لعبة الروليت الطائشة.
وحدّث ولا حرج عن أكراد دنت لهم إقامة دولة تحت التأسيس في ظلّ حكم عاجز، فإذا بهم يخسرون مجدّداً، بين بكرة وأصيل، حلم الاستقلال القومي عصيَّ المنال، بعد أن كان قاب قوسين وأكثر قليلاً. أمّا عندما نجيل النظر على المشاهد والمواقف المتواترة من العالم العربي، فإن العين المُدقّقة لا تكاد تجد مثيلاً لذاك الإحساس بالذهول السائد في المحيط الأوسع، إلّا عند قلّة قليلة بين ظهرانينا، سبق لها أن ناهضت ثورة الحرية والكرامة، وسلقتها بألسنة حداد، ورمتها بالتهم الذميمة، قبل أن يغمرها الشعور العارم بالزَّهو، وتُخرج لنا اللسان تشفّياً: “ألم نقل لكم”، عندما تمكّنت “القوى الرديفة” من إعادة إيقاف الأسد على قدميه، واسترداد طابو المزرعة الموروثة ابناً عن أب، فلمّا سقط الصنم راحت السكرةُ بدداً، ومعها النشوة طبعاً، وانقضى إلى الأبد زمن “الأسد أو نحرق البلد”.
عندما سقط بشّار عن كرسيّ أبيه، وفرّ بجلده تحت جنح الظلام، لم يُصدّق بعض المغرمين بنموذج حكم المقاوم الممانع القائد الأعلى للجيش والأمين العام للحزب، والكلّ في الكلّ، السيد الرئيس الدكتور الفريق أوّل بشّار حافظ الأسد، ولم يسمعوا صدى السقوط المدوّي في دمشق، بل أنكروا الواقعة، وقال بعضهم إن الصور مفبركةٌ، إلى أن أعلنت موسكو أن بشّار وصل برعاية قاعدة حميميم وحفظ قواتها الجوّية، فأُسقِط في يد القوم، سيّما من توعّد “الإرهابيين” و”التكفيريين” الزاحفين من حلب إلى حماة وحمص، بالويل والثبور عند أبواب العاصمة، وهو ما فاقم الغصّةَ في الحلق لديهم، وضاعف من شدّة الصدمة.
الحديث هنا ليس عن جماهيرَ غفيرةٍ راعها سقوط الأسد، فهبّت إلى الشوارع ساخطةً، وإنّما عن نُخَبٍ سياسيةٍ ثقافيةٍ إعلاميةٍ محدودةٍ، درجت على مناصرة الأسد، ولم تُبدّل تبديلاً، وأحسب أن وقفةً تضامنيةً ضئيلةً مع الرئيس الفارّ لم تحدث سوى في تونس. أمّا في المشرق العربي، حيث عزوة بشّار الكيماوي ومضارب ربعه في العالم الافتراضي، فقد اشتعلت مظاهر حسرة وصدمة والتياع، ثمّ انطفأت بسرعة مثل عود الكبريت، من دون أن يعني ذلك أن قناعات هنا تبدّلت، أو أن هناك استنتاجات جديدة قد حصلت، إذ كلّ ما في الأمر أن السقوط السريع والفرار المهين، وانكشاف بعض أهوال مسلخ صيدنايا البشري، وأقبية التعذيب، كانت مُحرِجةً للغاية، وثقيلةً على الضمير السويّ.
ولعلّ انكفاء عرب صدّهم سقوط الأسد عن خوض المعارك الكلامية الضارية دفاعاً عن جمهورية المقابر الجماعية، يشي بأن وخزةً في الضمير ربّما حدثت أخيراً، أو أن النموذج المتخيّل عن قلعة الصمود والتصدّي صار قولاً نافلاً، سيّما أن أشدّهم طلباً للسجالات العدمية (فلسطينيون وأردنيون ولبنانيون) هم في أكثريتهم بقايا أحزاب قومية ويسارية جفّت ينابيعها، وأصحاب عقائد خشبية، منهم أدباء وكتّاب ونقابيون وسادة متقاعدون، كأنّهم قضاة في محاكم تفتيش، هجوميون انفعاليون متجهّمون يستسهلون رمي خصومهم بالتفريط، يغرّهم الخطاب الساخن، وتغويهم الجملة الثورية، لذلك كانوا يغضّون الطرفَ عن جرائم النظام التسلّطي، حتى وإن استباح مخيّم اليرموك مثلاً، وقبله كان مخيّم تلّ الزعتر، أو ارتكب سلسلةَ اغتيالات طويلةٍ لقادةٍ ونوّابٍ ومثقّفين لبنانيين، الأمر الذي دفع أولياء الدم في بيروت إلى الاحتفال علناً بسقوط الدكتاتور الأحمق.
على الصعيد العربي العام، ووفق ما يلهج به الإعلام شبه الرسمي والخاص، ويتواتر على ألسنة المسؤولين كافّة، لا يبدو أن عاصمةً عربيةً صدمها سقوط جمهورية الكبتاغون، أو أن حزباً أو نقابةً أو اتحاد كتّاب، أو شخصية اعتبارية أو جمعية حقوقية، أو هيئة ذات صفة تمثيلية، تأسّفت على اقتلاع أقدم وأكبر وأعمق مسمار لطهران دُقّ في أرض عربية، مع أن صمت بعض العواصم المغاربية المريب يشير إلى غصّة في الحلق مكتومة.
المصدر: العربي الجديد