منذ عام 2012 بدأ النخر يدبّ في نظام الأسد فقد نزل معظم الشعب إلى الشوارع مسقطين هيبة المخلوع بشار ووالده وعائلته. كما انشقّ عددٌ هائلْ من جنود وضباط الجيش الشرفاء فشكلوا الجيش الحرّ وحرروا في مراحل مبكرة أكثر من نصف سوريا وساعدوا المعارضة على تشكيل أجسامٍ سياسية والمطالبة بمقاعد النظام في الجامعة العربية والأمم المتحدة.
كل ذلك حصل عام 2012 قبل أن تكون معظم الفصائل العسكرية الحالية – وخصوصاً الإسلامية منها – قد ولدت أو على الأقل قبل أن يكون لها أي وزن عسكري أو قاعدة شعبية. كان معظم قادتها في السجون. وحتى عندما رُفع الغطاء الدولي عن نظام الأسد بفضل صبر السوريين وكفاحهم لثلاث عشرة سنة فقد هرب المخلوع بشار من دمشق من دون معركة ومن دون قتال ففتحت دمشق ذراعيها لاحتضان أبناء سوريا كلهم وليس لهذا الفصيل أو ذاك فقد انقضى عهد الأنانية والإقصاء وولدت سوريا الحرة العزيزة بفضل تضحيات السوريين؛ كل السوريين.
لذلك يجدر بمن وجدوا أنفسهم في دمشق اليوم أن يتواضعوا للسوريين فهم أصل القصة ومعدن الثورة ونبع التضحيات وأصحاب الانتصار الحقيقيين.
ما حصل في سوريا هو في منظور التاريخ هائلٌ وعظيم وأكبر بكثير من أن يتوهم فصيلٌ أو حزب أو جماعة أو أيديولوجية أنه يخصها وحدها من دون غيرها. في سوريا انتصر الشعب على طغمةٍ حاكمة مجرمة ومعقدة التركيب تحالفت مع كل الأشقياء في العالم لذبح السوريين وأخرجت أقبح ما في الطبيعة البشرية من جَورٍ وسادية فأذاقت السوريين ألواناً من الموت عجيبة ودفعت بمن لم يمت منهم إلى لجج البحار ومجاهيل الصقيع والبرد هرباً بأرواحهم، وكثيرٌ من هؤلاء لم ينجُ.
من الصور التي لا تنمحي من ذاكرتي هي صورة ذلك الأب السوري وابنه اللذين عُثر عليهما قبل سنوات جثتين متجمدتين في إحدى غابات دول أوروبا الشرقية وهما في رحلة الهروب من جرائم نظام الأسد. هذا الأب وذاك الولد وغيرهما الملايين من السوريين أمواتاً وأحياءً هم أجدر بهذا النصر اليوم وأحقّ بالأوسمة.
لقد تلقى نظام الأسد أقوى الضربات العسكرية والمعنوية منذ السنة الأولى للثورة وهو في حالة سقوطٍ حرّ منذ ذلك اليوم. وقد شارك في المظاهرات الأولى العلوي والسني، والمسلم والمسيحي، والعربي والكردي؛ باختصار كل السوريين فلا فضل لأبيض على أسود اليوم في سوريا إلا في الثورة والثورة لا دين لها ولا مذهب ولا طائفة ولا إثنية. الثورة كانت غضبة كرامة في وجه الإذلال، وصرخة حرية في نفق القمع، وسيف عدلٍ أُشهر ذوداً عن أمةٍ مظلومة. نعم يوم تدخّلت إيران وميليشياتها المذهبية حصل تحولٌ طفيف في أمزجة الثوار نحو الأسلمة وما كان لهذه الحالة أن تتفاقم لتتصدر المشهد اليوم لولا الدعم الدولي المتأخر الذي فضّل أن يرى السوريين فصائل ومذاهب، لا شعباً مظلوماً وشجاعاً ينهض للمطالبة بكرامته واسترداد بلده.
ما زلت سعيداً جداً لما حصل؛ سعيداً لدرجة عدم التصديق. أنا سعيدٌ خصوصاً لأجل رزان زيتونة ومشعل تمو وعبدالباسط الساروت وفدوى سليمان. إن تضحيات هؤلاء الرفاق وتضحيات الملايين غيرهم من نساء ورجال سوريا لم تذهب سدىً. لكن فرحتي لن تكتمل إلا عندما أرى تمثيلاً حقيقياً لتنوع السوريين في دمشق وخصوصاً في وسائل الإعلام وما تبثّه من مشاهد ومَن تصدّرهم من أشخاصٍ من عاصمة بني أمية، إذ يفترض بعد سقوط النظام الطائفي أن يلمع الوجه الوطني والإنساني لسوريا التي يبلغ عمر حضارتها ثمانية آلاف عام لا أن نعطي الانطباع أن ما حصل هو وصول طائفةٍ للسلطة بدل طائفة، وجماعةٍ بدل جماعةٍ أخرى. لابد من حوارٍ وطني سوري حقيقي يشمل كل السوريين ولا يقصي أحداً فسقوط النظام هو النصف الأول من المهمة ويبقى النصف الثاني هو ما يتعلق ببناء سوريا وولادتها ونهضتها من الصفر تقريباً بعد أن ترك النظام البائد البلاد في حالةٍ مخيفة من الخراب. إن بناء سوريا الجديدة على أسس الدولة الحديثة يحتاج من الكفاءات والمقدرات والخبرات والعزائم ما لا يمكن أبداً أن يتوفر في حزبٍ واحدٍ أو فصيلٍ بعينه من دون الناس أجمعين. لذلك على كافة الفصائل وخصوصاً الإسلامية منها أن تُفسح في المشهد لكل السوريين للاحتفال بحريتهم وامتلاك نصرهم ثم الاتفاق على شكل الدولة ومستقبل سوريا الجديدة التي ستنهض على أنقاض النظام المخلوع. فالثورة كما كانت منذ البداية شعبية، فالنصر الذي تحقق في النهاية هو كذلك شعبي؛ ينتمي للشعب كلّه وليس للفصائل فقط.
المصدر: تلفزيون سوريا