بعد السقوط.. الطريق إلى دمشق (1)

علي حميدي

في صباح العاشر من كانون الأول 2024 على غير العادة، ستجد وجوها مبتهجة، تعلوها ابتسامات واضحة، في معبر باب الهوى الحدودي بين تركيا وسوريا، أولئك هم العائدون إلى بلادهم.

ليست المرة الأولى لنا في المعبر، لكنها الأولى إلى كل سوريا من دون الأسد، وما الابتسامات إلا لأن الناس يعودون إلى أرضهم بعد أن سقط سبب لجوئهم.

عبرنا سريعا، والتقينا من ينتظرنا، رتل من سيارات الزملاء كانوا فرحين منتشين بالنصر وبالإنجاز الذي حققه التلفزيون إذ كان الأول من دون منازع على مدار الأيام الماضية.

بعد المعبر هو الشمال كما عرفناه حيويا نشيطا، وهذه المرة فخورا بالنصر وبما صنعه رجاله، لا يتمنى الناس في الشمال إلا الخير لكل السوريين لكنهم يغصون في آخر كلامهم وهم يتوقعون فراق أحبة كانوا ضيوفهم لعشر سنوات، ويوصونهم بألا ينسوهم.

الأحلام كبيرة وكذلك الهمم مع توجس من المستقبل. لا حديث إلا عن النصر والتحرير وثمة حديث طارئ لا تخلو منه جلسة هو الحديث عن معتقلات الأسد الكثيرة وتحديدا سجن صيدنايا عدد المعتقلين، من خرج ومن لم يخرج عن المشاهد البشعة للمعتقل عن أدوات التعذيب ووسائل القتل عن كل شيء، وعن زوايا مختلفة، روايات عن دهاليز سرية وأقبية مفترضة ومتاهات صنعها النظام البائد، ويجزم بعضهم أنه صنعها لهذه الأيام، ستسمع أرقاما كثيرة للمعتقلين في السجن تفوق بكثير ما تم الإعلان عنه يرفض الناس تصديق رواية الدفاع المدني بانتهاء عمليات البحث. الكل تقريبا يجزم بوجود معتقلين لم تصل إليهم الفرق ولم تقوَ أنفاسهم على أن تدلّ عليهم لأنها الشيء الوحيد الممكن فلا إمكانية لمعتقلي صيدنايا أن يستخدموا أصواتهم أو أيديهم أو أرجلهم وهم قطعا لا يعلمون شيئا عما جرى أو يجري خارج حدود أجسادهم، ربما يفتقدون سجانهم فقط!

هل ستشارك المعارضة السياسية الخارجية في مستقبل سوريا، يتندر بعضهم على السؤال ويقول آخرون كانوا سيرضون بالقليل من نظام الأسد فلا يحلمون بكثير الآن.

يستقبلك ريف إدلب الجنوبي المحرر حديثا بما يدمي القلوب من مشاهد الدمار الواسع في كل المدن والقرى على طرفي الطريق المؤدي إلى حماة، مدن من ركام سببتها المعارك، لكن يبقى قصف الطيران العنيف والممنهج هو المتسبب الأكبر بالدمار الواسع لكل شيء، الطيران الروسي صب على هذه البلاد حمما وقنابل وصواريخ بأنواع شتى خلال عملياته لطرد المقاتلين المحليين وإفراغ المدن بالقصف السجادي المرعب، وسترى بأم العين كل ما كان يحكى عنه من صفقات تعهيد بين قادة عسكريين في النظام الساقط وأفراد أو ضباط ليسرقوا كل ما يمكن سرقته من بقايا الأبنية فلا حديد وألمنيوم ولا أخشاب في كل البيوت، حتى الواجهات الحجرية التي تفنن أهل معرة النعمان بنحتها فككت وكذلك سيراميك الأرضيات والجدران الداخلية، طبعا حديد التسليح سحب فلن تجد سقفا. (الكيلو بدولار اسحب وبِع هذا تعويض عن قتالك في الجيش واشترِ أكلك.. الجيش لن يطعم أحدا) هذا ما قاله أحد الشباب وهو يفسر لنا ما نرى.

كلما غصت جنوبا تظهر الآليات العسكرية التي خلفتها المعارك الأخيرة سيتوقف رتل سياراتنا ليلتقط الشباب صورا فوق عتاد الجيش المهزوم ويتندرون على حاله، (دبابة T 72 – عربة لنقل الجند – شيلكا – 23..)

أشار دليلنا إلى موقع مجزرة الكيماوي في مدينة خان شيخون المهشمة، صمت جميع من في السيارة حزنا على من فارق الحياة اختناقا بالغاز السام وغصت الحلوق، ليكسر صمت الذكرى والحزن على من قضى قبل أن يشهد سقوط نظام الأسد الدخول التدريجي للحدود الإدارية لمحافظة حماة. شجر الفستق القصير عارٍ من الأوراق أو الثمر وقد طغى الشتاء على الأرض وكان عدوان الميليشيات هو أكثر ما أفقد هذه البساتين رونقها وحياة أشجارها إذ كانت كل هذه الأراضي متروكة للنهب والتخريب والانتقام.

بقايا المعارك صارت أوضح، وكذلك أثار جيش النظام المهزوم من رسومات على الجدران وأعلام دوريات، وشعارات لا تخلو من فوقية وحدّة، وصل قبلنا من مسح أو شوه القريب منها، وبعضها ترك للزمن القادم، ومع أول لوحة كبيرة مكتوب عليها محافظة حماة ستدمع العيون أكثر ويصير بكاء الفرح علامة تميز كل الواصلين فالمدينة تحمل رمزية لظلم امتد أكثر من 40 عاما في عهد الأسد الهارب وأبيه وعمه وأزلامهم. حماة ليست مدينة النواعير ونهر العاصي فحسب بل حاملة الأسى منذ أحداث جامع السلطان عام 1964، حين اندلعت احتجاجات ضد حزب البعث وتفرده بالسلطة، مرورا باعتقالات السبعينيات و المجزرة الشهيرة يوم بكى العاصي كثيراً على أبنائه القتلى والمشردين في شهر شباط عام ١٩٨٢، ودمرت معظم أحياء المدينة.

نقترب من حماة تكثر الآليات العسكرية على طرفي الطريق، يلاحظ  أن كثيراً منها متروك غير مدمر ولا محترق، عافه المقاتلون وهربوا قبل أن تصلهم المعركة، دبابة تبدو حديثة، مفتوحة متروكة تحتل أمتارا من طرف الطريق ستكون مكان التصوير الثاني للشباب، لسنا من محبي سياحة الدمار (السياحة المتطرفة) الذين استقدمهم النظام ليتفرجوا على أفعاله في أطراف العاصمة والمدن التي دمرها طوال السنوات الماضية، بل نحن أهل الأرض المدمرة لذا كانت مشاهد الخراب الواسع المقصود تسكتنا إلى أن ظهر قريبا جبل زين العابدين، قلعة نظام الأسد وحلفائه من الإيرانين والميليشيات في وسط سوريا اشتغلوا طويلا على جعله خطا دفاعيا حصينا جدا وغامضا، وأسطورة. كان الجبل المتفرد يراقب كل ما حوله وتحكمه الحكايات التاريخية وبعض الموروث عن شخص زين العابدين.

يقول الشباب هنا سقط الأسد قبل أن تصل الفصائل إلى حمص أو دمشق، لو صمد من في الجبل لما سقط، سنخوض نقاشا حول مفصلية معركة جبل زين العابدين وتأثيرها ونحن نمر به وما أن صار خلفنا اجتهدت لألتقط صورة واضحة له من الزجاج الخلفي، بعد أن احتكر التصوير من كان في الكرسي الأمامي من السيارة، نمر بمعامل الزيوت النباتية ونمضي مسرعين كأن القلوب تدفع سيارتنا.

من دوار الأربعين كان دخولنا إلى المدينة على خط المحررين، توقف الرتل الطويل وفتحت الأبواب ونزل الشباب فرادى يرفعون أيديهم إلى السماء داعين حامدين، غير مصدقين والدمع يجري على الخدود، منهم من لم يزر مدينته منذ 8 أو 10 أو 13 عاما، وقد ترك في المدينة أهله وأصحابه ومنهم من خرج مع عائلته وفقد من أفرادها في منافيهم.

تحرك الرتل في شوارع حماة بهدوء في مدينة تشبه معتقلا كبيرا حسب أحد الرفاق، سياراتنا تشبه سيارات من سبقنا من الفصائل ولا تشبه سيارات أهل حماة القديمة معظمها، ولأننا في رتل طويل تلقينا بعض الهتاف والتلويح من الأطفال كأننا جزء ممن خلصوهم من نير النظام الساقط، كان الشعور، مزيجا من فرح وفخر.

على كتف العاصي تتكئ الناعورة الكبيرة، ساكنة كما النهر لأنهم لم يفتحوا سد الرستن حسب الشباب، لم نسمع “عنين الناعورة” خلّت النواعير القادمين لبهجتهم وليعلو ضجيج فرحهم، بكى الجميع فرحا وكثيرا أفرادا منتشرين على ضفة النهر.

في مطعم قريب  اجتمعنا على الغداء عاينا وضع الناس، فرحين بإسقاط الأسد كما لم يفرح أحد وكأنه آخر أهدافهم. أما عن حياتهم كيف كانت فيكفي أن لا وقود في المدينة ولا كهرباء وأننا انتظرنا 3 ساعات ونصف حتى حصلنا على خط موبايل سوري مدة استغللناها بالتصوير والتخطيط للقادم والتعرف على أسماء الأحياء والأكلات من دون الحلويات لنتجنب الفتن، وسألنا عن حضور تلفزيون سوريا في المدينة وسوقّنا له. بعض الرفاق استغلوا الوقت ليزوروا أحبة فارقوهم، فالتقوا بهم مع أولادهم أو أحفادهم أو عانقوا ما بقي من ذكراهم.. في الثامنة وقد هبط الليل تحركنا لنكمل الطريق إلى دمشق.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى