يقول نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، إن رئيس بلاده، بزشكيان، “يتطلع إلى الانخراط بصورة بناءة مع الغرب، وحكومته مستعدّة لإزالة التوترات مع الولايات المتحدة التي انتخبت هي الأخرى رئيسا جديدا، ويأمل بزشكيان في إجراء مفاوضات عادلة تقوم على أسس متساوية في شأن الاتفاق النووي، وربما أكثر من ذلك”.
تمثل هذه العبارة اللافتة بيت القصيد في مقالة أخيرة نشرها ظريف في مجلة فورين أفيرز عدد ديسمبر/ كانون الأول الحالي (2024)، وأراد منها إرسال رسالة واضحة إلى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بأن إيران عازمة على تغيير سياساتها و”تبنّي سياسة خارجية مرنة تعطي الأولوية للمشاركة الدبلوماسية والحوار البناء، بدلاً من الاعتماد على النماذج التي عفا عليها الزمن”. ومعروف عن ظريف الذي يتهمه خصومه بأنه “رجل أميركا في إيران”، أنه ما فتئ يعبّر، في كل مناسبة، عن وجهات نظر إصلاحية معتدلة يشاركه فيها مثقفون وسياسيون ناشطون يطمحون إلى تجاوز التوجهات الراديكالية لدولة “الولي الفقيه”، والانفتاح على الغرب وعلى العالم، ويرون أن خطواتٍ كهذه باتت ضرورة في ضوء المتغيرات التي تشهدها المنطقة، والتي تنذر بالكثير.
ظريف الذي تعرفه الأوساط الغربية “مفاوضا ذكيا” في دورة الاتصالات السرّية بين طهران وواشنطن في ثمانينيات القرن الماضي، وفي المباحثات التي أنتجت صفقة الاتفاق النووي في ما بعد، يعرف هو الآخر الأميركيين جيدا، وقد عاش بينهم سنوات طويلة في أثناء دراسته هناك، وبعدها حضوره ممثلا للنظام في أكثر من موقع ومناسبة. ولذلك أعاده الرئيس بزشكيان إلى الواجهة مستشارا له في الشؤون الاستراتيجية، رغم اعتراضات المتشددين عليه، على خلفية سعيه إلى طرح مقاربة سياسية جديدة تؤهل إيران لتقديم نفسها إلى العالم دولة مسالمة تساهم في إرساء نظام إقليمي يعزّز الاستقرار والسلم في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
ربما يشكل سقوط بشّار الأسد في سورية تكريس النهج الإصلاحي الذي ترمي طهران منه إلى ضمان البقاء في عالم إقليمي مضطرب ومتغيّر
يطلق ظريف على رئيسه تسمية ”قيادة جديدة”، وعلى ما يطرحه من أفكار وتوجهات “فرصة تاريخية”، وهو يريد من ذلك الإيحاء بتجاوز إيران سلوكها المريض، والقطع مع ارتكاباتها وتدخلاتها في شؤون المنطقة، أقلها إنشاء “أذرع مليشياوية” تابعة لها، ومموّلة منها في أكثر من بلد في المنطقة، وهيمنتها من خلال تلك الأذرع على قرار تلك البلدان وسياساتها.
إلى ذلك، يدعو ظريف إلى “ترتيب إقليمي جديد يقلص اعتماد الخليج على القوى الخارجية، ويشجّع أصحاب المصلحة على معالجة الصراعات من خلال آليات حل النزاعات (..) وإبرام معاهدات، وإنشاء مؤسّسات، وإقرار سياسات، وسن تشريعات (للوصول) إلى تشكيل منظّمة على غرار منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا”. وفي كل الأحوال، ليس خطاب ظريف جديداً، فقد سبق له، ولآخرين من دعاة الانفتاح والإصلاح، أن كتبوا بالنهج نفسه، ولقوا صدىً إيجابياً داخل أوساط الشباب، لكن النظام لم يكن في وارد الاهتمام بآرائهم. وفي بعض الحالات، مورست عمليات قمع وإقصاء ضدهم، حتى وصل الأمر إلى شخصيات نافذة في النظام، وممن رافقوا الخميني في مرحلة تأسيس “الجمهورية الإسلامية”، مثل صادق قطب زاده، أول وزير خارجية بعد الثورة الذي أعدم لمعارضته “ولاية الفقيه”، وكذلك أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الذي عزله الخميني، وأطلق عله تسمية “خائن الثورة”، واضطرّه للذهاب إلى المنفى حتى وفاته، وقد دأبت مرجعية خامنئي، في الفترة اللاحقة على رفض أية محاولة لإحداث نقلة في توجّهات النظام وسياساته، وكان ذلك يبرّر دائما بدعوى التمسّك بإرث الخميني، وفكرة “عصمة الإمام”. وقد احتاج خامنئي إلى ثلاثة عقود من المراوحة في الموقع نفسه، كي يخطو ببطء نحو إيجاد مقاربة جديدة سمحت بوصول بزشكيان إلى الرئاسة، وبإطلاق صوت محمد جواد ظريف من جديد، وجاءت متوافقة مع الضغوط التي تشكلت في المنطقة إثر حرب الإبادة التي مارستها إسرائيل في غزّة ومواجهتها حزب الله في لبنان، وربما يشكل سقوط بشّار الأسد في سورية في تكريس هذا النهج الذي ترمي طهران منه إلى ضمان البقاء في عالم إقليمي مضطرب ومتغيّر.
هنا تبرز أهمية سماع صوت ظريف، وأصوات داعميه، تلك الأصوات التي ربما تقصي عن المشهد نهائياً أصوات المتشدّدين الذين شكلوا قوة النظام في السنوات الأولى بعد الثورة. وإذا ما جنحت إيران نحو التغيير فعلا، فإن ذلك سوف ينعكس على البيئة الإقليمية الماثلة، وسوف تنشأ معادلات جديدة، وتظهر مقاربات تفضي إلى تغييرات قد لا تكون في حسبان أحد.
المصدر: العربي الجديد