التطوّرات المتسارعة في المنطقة: اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، المرونة الإسرائيلية المفاجئة (وإن على صعيد التصريحات) بشأن اتفاقٍ لتبادل الأسرى، وأخيراً، الهجوم المباغت والكاسح للمعارضة السورية في الشمال، ربّما تعني أن الأرض تُمهَّد سياسياً وميدانياً لليوم الذي يؤدّي فيه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب اليمين الدستورية رئيساً للولايات المتحدة.
إذا صحّت هذه الفرضية، فإن ولاية ترامب الرئاسية تكون قد بدأت بالفعل قبل انصراف جو بايدن، وإن دولاً وأطرافاً في صراعات مريرة بدأت إعادة ترتيب صفوفها، تراجعاً أو تقدّماً، قبل أن تُكرَه على ذلك، أو تُباغت بما لا ترغب وما لم تتوقّعه.
ولعلّ هذا ما دفع بايدن، غير المأسوف على انصرافه قريباً، إلى أن يُفخّخ ولاية ترامب في ما يتعلّق بروسيا، فالأخير يتمتّع بعلاقاتٍ أكثر من جيّدة ودافئة على الصعيد الشخصي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وآراؤه معروفة في ما يتّصل بالحرب على أوكرانيا، فهو مع وقفها فوراً، ووقف الهدر المالي الأميركي في حروب الآخرين، ناهيك عن أنه ضدّ انخراط واشنطن في حروبٍ خارج حدودها (نظرياً على الأقلّ). لكنّ بايدن، وهو من صنف الساسة الذين يتحرّكون في المناطق المعتمة، ربّما رغب في توجيه سياسة خَلَفه في البيت الأبيض تجاه أوكرانيا (أو توريطه في ما لا يرغب) عندما زوّد أوكرانيا في الوقت القاتل (في مرحلة نقل السلطات) بصواريخ أتاكمز، التي أتاحت لكييف إمكانية ضرب العُمق الروسي.
تمثلت مفاعيل قرار بايدن باستخدام القوات الروسية صواريخ أوريشنيك، وتعني شجرة البندق، التي تعتبر جزءاً من الثقافة الروسية، في دلالة على الصلابة والقدرة على البقاء في أسوأ ظروف جوّية ممكنة. … وليست الأهمية في الدلالة الثقافية هنا وحسب، بل في مدى الصاروخ الجديد وقدرته التدميرية، فسرعته تزيد على 12 ألف كيلومتر في الساعة، وإذا أُطلق من أقصى الشرق الروسي فإنه قادر على الوصول إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة، ويغطي مداه أوروبا بأسرها، ولا يمكن لأنظمة الدفاع الجوّي والصاروخي التي تنصبها واشنطن في أوروبا اعتراضه (نظرياً على الأقلّ)، ما يعني أن بوتين ليس في سبيله للتراجع في أوكرانيا تحديداً، إلّا بشروط تُرضيه وتمنحه نصراً لا لبس فيه، سواء على طاولة المفاوضات أو في الميدان.
لذلك وسواه، يبدو أن بايدن “سمّم” العلاقة الدافئة بين بوتين وترامب وفخّخها قبل وصول الأخير إلى البيت الأبيض، وجعل الاثنَين مُكرهَين على سلوك مسار مُحدّد في ما يتعلّق بأوكرانيا، وهو ما يرفضه الاثنان، وهما عنيدان، ما يجعل من تطوّرات الشمال السوري جزءاً من “اللعبة”، التي قد توفّر لهما بديلاً يحفظ ماء وجهيهما، ما دام الثمن دماً يُسفَك خارج الحدود.
والمعادلة الآن على طاولة بوتين كالتالي: ما دمتَ لن تتراجع في أوكرانيا فستتألّم في سورية، ما يعني عملياً إخراج موسكو من معادلات الشرق الأوسط كلّها في حال أصرّ بوتين على الاحتفاظ بالجنَّتَين أو الجائزتَين معاً؛ سورية وأوكرانيا، فهو خارج معادلات الصراع والتسوية في القضية الفلسطينية ولبنان، ولم يعد ثمّة موطئ قدم له سوى في سورية، وهي مرشّحة لتطوّرات قد لا تكون حاسمةً في ما يتعلّق بتغيير قواعد النفوذين الإقليمي والدولي فيها، لكنها ستكون مبعث قلقٍ، خاصّة إذا تبنّى ترامب سياسةً أكثر فعّاليةً إزاء نظام الأسد تقوم على استبداله، وليس إضعافه فقط، علماً أن فكرة احتوائه واردة (وإنْ كانت مستبعدةً) ما لم يبادر (نظام الأسد) إلى قرارات مؤلمة قد تودي به، مثل القطيعة مع إيران والاندفاع نحو علاقات مع تلّ أبيب.
ماذا على بوتين أن يفعل؟… ثمّة أشجار بندق كثيرة في الأراضي الروسية الشاسعة، وبينما تتساقط الثلوج خلف النافذة يمكنه أن يسمع صوت البندق يتكسّر تحت أضراسه، وإذا جاءت الدببة إلى الحقل فالبنادق تنتظرها، لكنّ الخطر لم يعُد في الجوار الأوكراني فقط، بل في سورية البعيدة هناك، التي يرأسها رجلٌ طويل القامة ونحيلها، دائم الضحك على ما لم يستطع بوتين فهمه أو تقدير أسبابه.
أمّا الاحتمالات فليست سوريالية، ولو كانت لأمسك بوتين من عنق الأسد ورفعه عالياً قبل أن يلقي به من النافذة، وهو يستطيع فعل شيء شبيه إذا أراد، لكنّه مثل الآخرين ينتظر وصول ترامب، ويكتفي برمي المسامير في الطرق التي يسير عليها.
المصدر: العربي الجديد