في لقاء (بعد فراق طويل) ضمّ أصدقاء قدامى بلغوا من العمر عتيّاً، وباعدت بينهم ظروف الحياة، كان الحنين إلى أيّام خلت، والبهجة بتجدّد اللقاء، قواسم مشتركة، فانخرط الجميع على الفور في أحاديث عفوية حميمة خالية من المجاملات والتكلّف.
تلاشت السنوات الطويلة من الغياب في لحظة، وعادوا إلى سابق عهدهم فتيةً في أوّل العمر، يتواصلون فيما بينهم بتلقائية، يتراشقون التعليقات الساخرة من دون حواجز أو تحفّظاتٍ أو خوفٍ من نقد. استعادوا برمشة عين قدرتهم على البوح، وطاقتهم على المزاح وتبادل الشتائم تحبّباً. لم يتحسّس أيٌّ منهم من السخرية والمزاح، ولم يضطر أيٌّ منهم لشرح نفسه أو الاعتذار عن كلمة جارحة لأن حالة الانسجام التي ترتبها الصداقة الحقيقية الراسخة كفيلة بإلغاء المسافات.
بعد أن تبادل الأصدقاء الذكريات الجميلة والأخبار عن الأحوال الصحّية والمعيشية وظروف التقاعد وقصص الأولاد والأحفاد، سأل أكثرهم فضولاً وميلاً إلى التفلسف: “هل يساور أيّاً منكم الندمُ على ما اقترف من أخطاء في حياته؟ … ساد الصمت طويلاً، وانتاب بعضَهم الحرج بعد أن تلاشت حماسة الفرح باللقاء، وكأنّ السؤال الصادم أعادهم إلى اللحظة الراهنة، ووضعهم في مواجهةٍ غير متوقّعة مع ذواتهم.
ردّ أوّلهم، وكان قد حقق الثراء بعد أن تسلّم تجارة العائلة وازدهرت بين يديه، “أعترف بأني ارتكبت أخطاء كثيرة، واتّخذت قرارات سيئة عديدة في حياتي، ما كبّدني بعض الخسارات، لكنّي لم أشعر بالندم قَط على شيءٍ ممّا مضى. هذه الأشياء مقدّرة لا مجال للتنصّل منها. وحتى لو عاد بي الزمن أظنّ أني سأكرّرها بالسويّة نفسها”.
قال المطلّق المتصابي: “لا أندم على زواجي الذي جرى بترتيب عائلي. لم أكن متحمّساً له، بل أقدمت عليه طاعةً وبرّاً بوالديّ. لم أندم، لأنه أثمر عن أولادي وبناتي، مهجة قلبي، الذين أحبّهم أكثر من أيّ شيء، وكذلك لا أندم على طلاقي لأنه منحني التحرّر من قيدٍ ضاقت به روحي بسبب التنافر واختلاف الطباع بيني وبين أمّ أولادي”.
قال العَزَبُ الذي عزف عن الزواج نكايةً بعائلته التي رفضت ارتباطه بحبيبته لأنها من ديانة أخرى، ولم يختلف آنذاك موقف عائلة محبوبته من فكرة ارتباطهما، ما اضطرهما إلى الانفصال مرغمَين، رغم الحُبّ الكبير الذي جمع بينهما، “رغم إحساسي المرير بالوحدة، وحنقي لأن حبيبتي تزوّجت وأنجبت، غير أني لا أندم على قراري بعدم الزواج، لم يكن الأمر بيدي، أحببتها إلى درجة جعلت اقترابي من سيّدة أخرى مستحيلاً”.
قال الكاتب مرهف الأحاسيس: “لا أندم على ضياع عمري مبحلقاً في الكتب التي أتت على بصري، وأدّت إلى خضوعي لعمليات عديدة بعد إصابتي بالمياه البيضاء في العينين، وبعد عزلتي عن الواقع، وانغماسي في البحث لأنتهي مدرّساً جامعياً مملّاً، شقيّاً بالمعرفة”.
قال الطبيب النفسي، بعد أن سحب نفساً عميقاً من الأرجيلة، “الندم شعور طبيعي، يعلّمنا كيف نفرّق بين ما هو صحيح وما هو خاطئ. لذلك هو يخدم ضمائرنا ويدفعنا إلى محاولة تصحيح مسار حياتنا. عندما نندم قد نشعر بالحزن العميق وعدم الراحة والغضب، غير أنه كفيل بتطهير أرواحنا وصفاء أنفسنا. والتعبير عن الندم ينطوي على شجاعة مطلقة وقدرة اسثنائية على التصالح مع الذات”.
قال المعروف بميله إلى السخرية والتهكّم ضاحكاً: “يا شباب! كأن جلستنا المنتظرة تحوّلت غمّاً وهمّاً ونكداً. بالنسبة لي هنالك كثير ممّا أندم عليه، لعلّ موافقتي على لقائكم بعد هذا العمر أكثرها أهميةً. إذاً دعونا نغيّر مجرى حديثكم البائس إلى مواضيع أكثر بهجةً، أو إذا شئتم نلعب الورق، وسوف أهزمكم جميعاً من دون أدنى إحساس بالندم”.
ثمّ أخذ يوزّع أوراق اللعب وهو يدندن: “ما أندم عليك.. دمع الندم غالي…”.
المصدر: العربي الجديد