أكثر ما يلفت النظر في شعارات القتلة اللصوص الذين تسلّقوا بنايات العاصمة الهولندية كلّما لمحوا رايةً لفلسطين، أنها شعاراتٌ منقوعةٌ في الحقد على الأطفال، بوصفهم وقود المستقبل الذي ينتظر هذا الاحتلال.
جماهير فريق كرة القدم الصهيوني، الذين عاثوا في أمستردام إرهاباً، خصّوا أطفال فلسطين بالنصيب الأكبر من الحقد والكراهية في هتافاتهم المسعورة، بالتركيز على أن ثمن التصدّي لإرهابهم سيدفعه أطفال غزّة ونساؤها، وهو ما ردّ عليه لاعب المنتخب المغربي حكيم زياش ببساطة بليغة، حين قال: “يهربون عندما لا يجدون أمامهم نساءً وأطفالاً”.
كان هذا الغلّ الموجّه ضدّ أطفال فلسطين حاضراً في هتافات القطيع العائد من هولندا لدى وصولهم، فهتفوا “لماذا أُغلقت المدارس في غزّة؟ لم يتبقّ أطفال هناك…”.
هذا الإرهاب الوحشي يترجمه تقرير حديث نشرته مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، قبل يومين، كشف أن النساء والأطفال شكّلوا نحو 70% من آلاف شهداء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة الذين تحقّقت الهئية الدولية من مقتلهم، بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 وإبريل/ نيسان 2024. وتحدّث التقرير عن “عمليات قتل المدنيين في غزّة التي تنتهك القانون الدولي، وترقى، في أحيان كثيرة، إلى جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، وحتى إلى إبادة جماعية”.
وبسبب صعوبة الوصول إلى المعلومات، اعتمدت وكالات الأمم المتحدة منذ بداية حرب غزّة على حصيلة الشهداء التي تُصدرها سلطات القطاع، وواجهت انتقادات من إسرائيل، لكنها شدّدت مرّات على أن الأرقام موثوقة. وأكّدت أنها تحقّقت من مقتل 8119 من بين أكثر من 34500 قضوا في الأشهر الستّة الأولى من الحرب، وخلُصت إلى أن نحو 70% منهم أطفال ونساء، “ما يشير إلى أن هناك انتهاكاً ممنهجاً للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، ومن بينها التمييز والاستنساب”.
لا يستهدف الصهيوني أطفال فلسطين ونساءها بالقتل اليومي لأنهما يمثّلان الحلقة الأضعف في المواجهة، وإنما هو استهدافٌ مقصودٌ للحلقة الأقوى في الصراع. نعم، أطفال فلسطين هم أكثر ما يصيب الاحتلال بالرعب، لأنهم يجسّدون المستقبل أمام عدوٍّ يتوهّم أنه بالإمكان استحداث ماضٍ من العدم من طريق حرق مستقبل أصحاب الأرض.
يقتلون الأطفال إذا خرجوا إلى الحياة، ويقتلونهم وهم محضُ مشروع حلم يتخلّق في خيال فتاة فلسطينية تحلم بالزواج والإنجاب، فيصبّ العدو رصاصه وقنابله على رأس الفتاة ليغتال الحلم، أو ليحرق المستقبل.
كان محمود درويش مذهلاً وهو يصف هذه الحالة، التي تُرعب العدو، بقوله إن الزمن هناك “لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالاً في أول لقاء مع العدو”… وهكذا تمضي عملية حرق المستقبل بالتوازي مع حرق الأرض لصناعة واقعٍ جغرافي صهيوني جديد، من دون أن يغفل ضرورة قتل الذاكرة الشعبية، على نحو ما فعل مع المعمّرة الفلسطينية الثمانينية هادية نصّار، التي ظهرت في بدايات العدوان على غزّة في مقطع مع المصوّر الصحافي صالح الجعفراوي، تسخر فيه من الاحتلال الصهيوني قائلةً: “أنا أكبر من إسرائيل”. ولم يمرّ وقت طويل على هذا التصريح حتى أرسلت إليها إسرائيل الردّ مع قنّاص أطلق الرصاص عليها أمام باب منزلها لتلفظ أنفاسها الأخيرة، وتصمت إلى الأبد.
اللافت أن نسبة 70% أطفالاً ونساءً في بنك أهداف آلة القتل الصهيونية تكاد تكون ثابتةً منذ بداية العدوان، وتتضمنّها التقارير التي تصدُر في فترات من الهيئات الأممية ذات الصلة، الأمر الذي يؤكّد أن العدوّ يدرك أنهما العامل الأكثر أهميةً في معادلة الصراع، صراع الوجود الذي لن تُخمده ألف قمّة عربية إسلامية طارئة، تنعقد كأنها حفلةُ صورٍ سنويةٍ، يصدُر منها، ما يُطمئن الاحتلال على مستقبله، وما يسهم في تزوير التاريخ العربي بأيدٍ عربية.
مرّة أخرى، والقول لمحمود درويش: “قد ينتصر الأعداء على غزة (وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون كل أشجارها) قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمونها في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم”.
المصدر: العربي الجديد