ليس صعود الشعبوية تهديداً مباشراً للديمقراطية كما يعتقد غالباً، بل هي النخب السياسية نفسها التي تقود وتدير هذا الاتجاه، والتهديد الحقيقي للديمقراطية ينبع من تكتيكاتها لاستغلال الشعبوية لمصالحها، وليس من دعم شعبي واسع لنهج مناهض للديمقراطية.
في السنوات الأخيرة شهدت دول متعددة اضطرابات بسبب ما يطلق عليه غالباً “موجة الشعبوية”. في العالم الناطق بالإنجليزية، بدأت هذه الحقبة الجديدة عام 2016 مع تصويت “بريكست” في المملكة المتحدة وانتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة. في الواقع، أصيب الإعلام وأعضاء النخب السياسية بالذهول من هذه الأحداث، فوقعوا في حيرة كبيرة منهمكين في محاولة فهم ما حدث ولماذا. وفقاً لأشهر التفسيرات السائدة، فإن تصويت “بريكست” وفوز ترمب كانا نتيجة لتحولات اقتصادية واجتماعية عميقة. فقد تسببت العولمة والتغير التكنولوجي في تدمير سبل عيش الطبقة العاملة وتفكيك مجتمعاتها، مما أثار موجة من الغضب والاستياء، ورفضاً شعبياً للوضع الراهن والمؤسسة السياسية. منذ ذلك الحين، سارع المراقبون إلى اكتشاف مزيد من الأدلة على تصاعد قوة الشعبوية في قائمة طويلة من البلدان، بما في ذلك البرازيل، والمجر، والهند، وإيطاليا، والسويد. وأي صعود انتخابي لحزب يعد شعبوياً في أي مكان في العالم يعيد دق ناقوس الخطر من أن الشعبوية تبتلع الأنظمة الحزبية الراسخة، وبصورة مقلقة، الديمقراطية نفسها.
ومع ذلك، على رغم كل الهلع الذي أثارته الشعبوية، فإن طبيعتها وأهميتها السياسية يساء فهمهما على نطاق واسع. ويعبر وصف “موجة الشعبوية” عن هذا الخطأ، إذ إنها تبالغ في تقدير نجاح الشعبوية الانتخابي حول العالم، مع أن الإنجازات كانت في كثير من الأحيان أكثر تواضعاً مما تبدو عليه. ويبالغ هذا التوصيف أيضاً في تصوير الشعبوية على أنها اتجاه سياسي موحد ومتماسك، متغافلة عن مدى اختلاف القضايا والمظالم التي ركز عليها رواد الشعبوية المزعومون في أزمنة وأماكن مختلفة. والأهم من ذلك، أن هذا التوصيف يبالغ في تقدير تأثير النجاحات الانتخابية للأحزاب الشعبوية على عملية صنع السياسات وعلى استقرار الديمقراطية.
واستطراداً، يميل أولئك الذين يشعرون بالذعر من صعود الشعبوية إلى الاعتقاد أن التحولات في الرأي العام هي التي تغذي نجاح الأحزاب والشخصيات الشعبوية، وأن كراهية الناس المتزايدة للعولمة، والهجرة، والتكامل (في السياق الأوروبي)، والطبقة السياسية تهدد بتمكين المتطرفين وتقويض الديمقراطية. لكن من الواضح أن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق. فالرأي العام في الغرب في شأن معظم القضايا “الشعبوية” بطبيعتها ظل مستقراً نسبياً طوال عقود، مما ينفي فكرة أن موجة جديدة من الاستياء الشعبي تعيد تشكيل المشهد السياسي. في الولايات المتحدة وأجزاء عدة من أوروبا، لا تعزى مكاسب القوى الشعبوية واليمينية المتطرفة إلى تغير حقيقي في المعتقدات السياسية لدى الناس، بل تعود إلى تغيرات في سياسات النخبة. بمعنى آخر، فإن التطورات التي تبدأ من القمة، وليس من القاعدة، هي التي توجه مسار الشعبوية: مجموعة موسعة من الخيارات السياسية المتاحة للناخبين، وتعبئة أكثر فاعلية لاستياءات مزمنة، وميول القادة السياسيين البارزين للتنازل في وجه تحديات تكون في بعض الأحيان وهمية أكثر منها حقيقية.
في الواقع، تواجه الديمقراطيات الليبرالية تهديدات حقيقية، بما في ذلك احتمال تراجع القيم والمؤسسات الديمقراطية المهمة. لقد اعتاد مواطنو الديمقراطيات منذ فترة طويلة على إعطاء الأولوية لرفاههم وقيمهم لا للدفاع عن الإجراءات والممارسات الديمقراطية. ولكن من المفترض أن خمولهم هو أمر متوقع، ولا ينبغي اعتباره دليلاً على تمردهم ضد الوضع القائم. لا تنذر النجاحات السياسية للجماعات والقادة الشعبويين، بحد ذاتها، بزوال الديمقراطية. والفهم الخاطئ لطبيعة الشعبوية وجاذبيتها يشوش على فهم أوضح للمشهد السياسي المعاصر، ويصرف الانتباه عن نقاط الضعف المزمنة في الديمقراطية، لا سيما ميل القادة السياسيين الدائم إلى ترسيخ أنفسهم في السلطة.
خرافة ارتفاع التأييد
لقد كان ظهور الأحزاب الشعبوية كأطراف انتخابية بارزة في أجزاء عديدة من العالم بمثابة صدمة للأنظمة الحزبية المستقرة على نحو غير عادي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن بالنظر إلى المسار الطويل للسياسة الديمقراطية، ينبغي ألا يكون هذا مفاجئاً. فعلى سبيل المثال، في جميع أنحاء أوروبا، ارتفعت نسبة الأصوات لمصلحة الأحزاب الشعبوية اليمينية بمعدل أقل من نصف نقطة مئوية سنوياً منذ مطلع القرن. وكان صعود الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية في كثير من هذه البلدان نفسها خلال أوائل القرن الـ20 أكثر دراماتيكية بكثير.
والواقع أن الانطباع السائد بوجود نمو مستمر في دعم الأحزاب الشعبوية يرجع جزئياً إلى التهويل الإعلامي. فوسائل الإعلام الدولية منبهرة وقلقة من نجاحات هذه الأحزاب، لكنها تميل في الغالب إلى تجاهل نكساتها ومعاناتها. وتوضح تغطية صحيفة “نيويورك تايمز” للانتخابات الإسبانية لعام 2023 هذا النمط بصورة لافتة. قبل أسبوعين من الانتخابات، نشرت هذه الصحيفة تقريراً مطولاً على صفحتها الأولى يصور صعود حزب فوكس اليميني المتطرف على أنه “جزء من اتجاه متزايد للأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتصاعد شعبيتها”. وفي صباح يوم الانتخابات، نشرت تقريراً مطولاً آخر في الصفحة الأولى بعنوان “اليمين المتطرف على استعداد للصعود”. ولكن في اليوم التالي، بعد الأداء الضعيف لحزب فوكس في صناديق الاقتراع، لم تبلغ عن نتائج الانتخابات نفسها إلا في مقال موجز على الصفحة الثامنة.
إن تركيز وسائل الإعلام على الشعبوية لا يشوه التصورات التقليدية فحسب، بل قد يكون له تأثير حقيقي على صناديق الاقتراع. فقد وجد علماء السياسة البريطانيون الذين يدرسون التغطية الإعلامية لـ”حزب الاستقلال البريطاني” المؤيد لـ”بريكست” أن نجاحاته الانتخابية حظيت “باهتمام غير متكافئ” في الصحافة [أي أنها ركزت عليه بصورة مكثفة وكأن أهميته أكبر مما هي عليه فعلياً]، وهو ما ساعد بدوره في توليد دعم شعبي إضافي. إذاً، تزدهر الأحزاب المتمردة على فكرة أنها تمثل بدائل معقولة للوضع الراهن، ويغذي الصحافيون هذا التصور عن غير قصد.
تقوم الصحافة أيضاً بصورة روتينية بتفسير التحولات في الدعم الانتخابي للأحزاب الشعبوية بصورة خاطئة على أنها دليل على تغييرات جوهرية في الرأي العام. في الواقع، هناك علاقة ضئيلة للغاية بين دعم هذه الأحزاب في الانتخابات والمشاعر الشعبوية الكامنة، أي السلوكيات المحددة، مثل العداء للمهاجرين وعدم الثقة في السياسيين والنزعة القومية (وفي أوروبا، معارضة مزيد من الاندماج الأوروبي)، التي تشير بصفة عامة إلى ميل الأفراد لدعم الأحزاب الشعبوية المعاصرة. هذا التناقض يشكل مفارقة بحد ذاته. كيف يمكن للعوامل التي تفسر الدعم الشعبوي على المستوى الفردي أن تفشل في تحقيق النتيجة نفسها على المستوى الجماعي؟
في الواقع، هذا يرجع إلى أن دعم الأحزاب الشعبوية يعتمد على عوامل تتجاوز ميول الناخبين. ففي أوقات وأماكن معينة، تنجح الأحزاب الشعبوية أو تفشل بصورة أساسية نتيجة لجودة قياداتها، والخيارات البديلة المتاحة للناخبين، والحوافز الاستراتيجية التي توفرها أنظمة الانتخابات. لقد ازدهرت هذه الأحزاب لفترة طويلة في أماكن متنوعة، حيث كانت المشاعر الشعبوية نادرة نسبياً. على سبيل المثال، حصد حزب الشعب السويسري ما بين 25 في المئة و30 في المئة من الأصوات في كل من الانتخابات الستة الماضية، أكثر من أي حزب شعبوي آخر في أوروبا الغربية، على رغم المستويات المرتفعة غير المعتادة من الثقة في السياسيين والرضا عن الاقتصاد والحكومة والديمقراطية في سويسرا. والأحزاب الشعبوية في الدنمارك والنرويج والسويد من بين الأحزاب الأكثر نجاحاً في أوروبا الغربية على رغم أن هذه البلدان لديها المواقف الأكثر إيجابية في القارة تجاه المهاجرين. على النقيض من ذلك، استغرقت الأحزاب الشعبوية وقتاً أطول للظهور في بلجيكا وإيرلندا والبرتغال وإسبانيا، وهي كلها أماكن ظهر فيها انتشار أوسع للمشاعر الشعبوية بين عامة الناس.
في الديمقراطيات التي تعتمد نظام الغالبية، تكون الأحزاب الفائزة عموماً عبارة عن تحالفات عريضة من المصالح المتنوعة، ومن الصعب تحديد مقدار الدعم الذي يمكن أن يعزى إلى الخطابات أو المواقف السياسية “الشعبوية”. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، حصل المرشح الجمهوري للرئاسة على 46 في المئة من أصوات الناخبين عام 2016 و47 في المئة عام 2020، لكن ذلك يقدم دليلاً على قوة الولاءات الحزبية في البيئة السياسية الحالية التي تتسم بالاستقطاب العالي، وليس على جاذبية الشعبوية أو جاذبية ترمب بصورة خاصة. لقد فاز ترمب بترشيح الحزب الجمهوري عام 2016 بدعم قوي من فصائل مختلفة في سباق مزدحم بالمنافسين، ثم اعتمد بصورة كبيرة على تأييد الجمهوريين التقليديين لهزيمة خصم ديمقراطي غير محبوب، هيلاري كلينتون، في الانتخابات العامة. على رغم أن الحزب الجمهوري قد أظهر بالفعل طابعاً شعبوياً متزايداً في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك يعد على الأرجح نتيجة لنجاح ترمب أكثر من كونه سبباً له، ومن المعروف أن أنصار الحزب المخلصين يتأثرون بتوجيهات قادتهم.
إن وجهات النظر المتغيرة للجمهوريين في شأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال فترة رئاسة ترمب تقدم مثالاً بارزاً. فقد وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “يوغوف” و”إيكونوميست” عام 2014 أن 10 في المئة فحسب من الجمهوريين لديهم نظرة إيجابية تجاه بوتين، لكن في ديسمبر (كانون الأول) 2016، بعد أكثر من عام على الخطاب المؤيد لبوتين في حملة ترمب، ارتفعت هذه النسبة إلى 37 في المئة. من الصعب تصديق أن الحزب الذي قاده رونالد ريغان ذات يوم قد شهد هذا التحول بسبب زيادة تلقائية في الإعجاب بالزعيم الروسي، في الواقع، تأثر أنصار ترمب بولعه الغريب ببوتين. ولا تقتصر تأثيرات من هذا النوع على السياسة الخارجية فحسب. ففي الأيام الأولى من رئاسة ترمب، اختبر علماء السياسة مايكل باربر وجيريمي بوب ردود فعل الجمهوريين العاديين تجاه مواقفه في شأن مجموعة من القضايا الرئيسة، بما في ذلك الهجرة والرعاية الصحية والأسلحة والإجهاض. ووجدا تحولات كبيرة في التفضيلات، بخاصة بين الأعضاء الأكثر التزاماً والأقل اطلاعاً، باتجاه المواقف المنسوبة إلى ترمب، بغض النظر عما إذا كانت تلك المواقف محافظة أو ليبرالية. وخلصا إلى أن “مواقف الناس المعلنة في شأن القضايا قابلة للتغيير إلى حد يظهر أن التزامهم بها سطحي وضعيف”.
أسطورة السخط الاقتصادي
إن الإشارة المتكررة إلى “الموجة الشعبوية” في وسائل الإعلام الغربية تشجع المراقبين على تصور وجود قوة موحدة تدفع المظاهر المتنوعة للشعبوية التي شهدناها في مختلف أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. في الواقع، الشعبوية هي لغة سياسية وأسلوب قابل للتكيف مع مجموعة واسعة من الظروف. في معظم الديمقراطيات، توجد في غالب الأحيان مصادر كبيرة من الدعم المحتمل لأولئك الذين يتحدون الوضع الراهن، ويستغل القادة الشعبويون هذا الدعم بصورة انتهازية لتأسيس هوياتهم والتنافس على السلطة.
والتفسير الأكثر شيوعاً لما يسمى الموجة الشعبوية هو الاستياء الاقتصادي الواسع الناجم عن تراجع الصناعة والعولمة والتغير التكنولوجي. وهذا التفسير يروق للمراقبين لعدد من الأسباب: فهو يشبع الحنين إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية المنظمة التي أسهمت فيها القضايا الاقتصادية في تشكيل أنظمة الأحزاب في الديمقراطيات الغنية، ويدعو اليساريين لمعاقبة ما يسمى الليبراليين الجدد بسبب الأخطاء السياسية التي ارتكبت في أواخر القرن الـ20، ويخفي شناعة العداءات العنصرية والإثنية في السياسة الديمقراطية المعاصرة، لكن هذا التفسير لا يتماشى حقاً مع الحقائق.
في الروايات التقليدية، كانت الأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن الانهيار المالي عام 2008 العامل الرئيس فيما سماه المؤلف جون جوديس “الانفجار الشعبوي” [الفورة الشعبوية]. ووفق كتابات الصحافي مات أوبراين في واشنطن بوست بعد بضعة أشهر من تنصيب ترمب، “ينبغي ألا يكون من المستغرب أن أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثينيات القرن الـ20 أدت إلى أسوأ أزمة سياسية داخل الديمقراطيات الليبرالية منذ ثلاثينيات القرن الـ20″، لكن الأمر لم يكن كذلك. فعلى رغم أن الأحزاب الشعبوية حققت مكاسب انتخابية في بعض الأماكن في أعقاب الكارثة الاقتصادية، إلا أنها كانت مكاسب صغيرة ومتفرقة في الغالب. وعلاوة على ذلك، أظهرت دراسات استطلاعية دقيقة أن أنصار الأحزاب الشعبوية تميزوا في الغالب بالأيديولوجية المحافظة التقليدية، وفق تصنيف المشاركين لأنفسهم على طيف المعتقدات السياسية اليساري – اليميني، ومعارضتهم للهجرة والتكامل الأوروبي، ولم يلعب الاستياء الاقتصادي دوراً ملحوظاً.
في إسبانيا، على سبيل المثال، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 5 في المئة خلال أزمة اليورو التي استمرت من عام 2009 حتى أوائل عام 2010 وارتفعت معدلات البطالة إلى 26 في المئة، ومع ذلك لم يظهر أي حزب شعبوي يميني قابل للحياة. ولم يحقق حزب فوكس تقدماً كبيراً إلا بعد سنوات عدة، عام 2019، بعد انحسار الاستياء الاقتصادي، وبعد أن ازدادت المواقف الإيجابية نسبياً تجاه الهجرة والعولمة، اللتين اعتبرتا من أسباب همود إسبانيا. لقد أظهرت التحليلات الإحصائية لبيانات الاستطلاعات أن العامل الأكثر أهمية في دعم حزب فوكس كان نفس الهوية المحافظة التي اعتبرت تاريخياً مؤشراً إلى دعم “حزب الشعب” السائد، في المقابل لعبت القومية والمشاعر المناهضة للمهاجرين دوراً أقل، في حين كان تأثير الاستياء الاقتصادي ومعارضة التكامل الأوروبي وعدم الرضا عن الديمقراطية ضئيلاً أو معدوماً.
وبعد تلك الانتخابات كتب الصحافي سام إدواردز مقالاً في “فورين أفيرز” حمل عنواناً فرعياً هو “الشعبوية اليمينية المتطرفة غزت إسبانيا أخيراً، لكن التحول الحقيقي يكمن في مكان آخر”. وكان استخدام كلمة “غزت” مثالاً نموذجياً على المبالغة في قوة الشعبوية، فقد بلغت نسبة التصويت لحزب فوكس ذروتها عند 15 في المئة، لكن النقطة الحقيقية التي أراد إدواردز أن يوصلها هي أن هذا النجاح حتى لم يكن مرتبطاً بالجاذبية الفعلية للشعبوية اليمينية بقدر ما كان مرتبطاً بـ”انهيار” حزب الشعب، الذي حدث بسبب فشل رئيس الوزراء ماريانو راخوي في إحباط استفتاء فوضوي على استقلال كتالونيا، وإدانة عديد من المسؤولين البارزين في الحزب للدور الذي لعبوه في ما وصفته المحكمة العليا بأنه “نظام حقيقي وفعال من الفساد المؤسسي”. وفي غالب الأماكن التي حققت فيها الأحزاب الشعبوية مكاسب انتخابية كبيرة، كانت التفسيرات عادية [وغير معقدة] على نحو مماثل، إذ كانت فضائح وإخفاقات الأحزاب السائدة هي الأهم غالباً.
إن الاستياء الاقتصادي يعد أيضاً تفسيراً مبالغاً فيه لصعود ترمب في الولايات المتحدة. فقد افترض المراقبون أن صعود ترمب كان دليلاً على انهيار الطبقة الوسطى الأميركية والديون المرتفعة والإحباط الناجم عن ذلك الذي شعر به ملايين الأميركيين. ولكن في تحليلهم الشامل والمفصل حول انتخابات عام 2016، وجد علماء السياسة جون سايدس ومايكل تيسلر ولين فافريك أن أكبر التحولات في أنماط التصويت كانت مرتبطة بالتعليم، وليس الدخل، وأن هذه التحولات تمثل في المقام الأول “المواقف في شأن العرق والإثنية”، وليس “القلق الاقتصادي”. وخلصوا إلى أن “الخط الفاصل بين الناخبين الذين صوتوا لكلينتون وترمب لم يكن الاعتقاد السائد بأن الأميركيين العاديين يتعرضون للتهميش اقتصادياً”، بل كانت النقطة الأساسية هي “كيفية تفسير الناس للنتائج الاقتصادية في المقام الأول، وما إذا كانوا يعتقدون على وجه الخصوص أن الأميركيين البيض المجتهدين يصبحون أضعف ويخسرون مكانتهم أمام أقليات أقل جدارة”. وعلى نحو مماثل، أظهر تحليل منفصل أجرته عالمة السياسة ديانا موتز أن الإحساس بفقدان المكانة، وليس الحرمان الاقتصادي الملموس، هو ما يفسر نتائج تصويت الانتخابات الرئاسية عام 2016. وحتى ما يطلق عليه تسمية الموت يأساً، مثل حالات الانتحار والوفيات الناجمة عن الإدمان والجرعات الزائدة، في مجتمعات الطبقة العاملة البيضاء المدمرة اقتصادياً، لم يحظ على ما يبدو بالصدى الشعبوي الذي تصوره عديد من المراقبين. لقد وجد سايدز وتيسلر وفافريك أن البيض الذين صوتوا لكلينتون كانوا أكثر ميلاً من ناخبي ترمب للإبلاغ عن معرفتهم بشخص ما عانى إدمان الكحول أو كان مدمناً على مسكنات الألم.
بناء الجدار
إن شعبية الأحزاب والمرشحين الشعبويين في الديمقراطيات الغربية المعاصرة لا تنبع في المقام الأول من المصاعب الاقتصادية، بل من المخاوف الثقافية. بصورة عامة، هذه الأحزاب وهؤلاء المرشحون يجذبون الناس الذين يشعرون بالقلق من وتيرة التغيير الاجتماعي والثقافي في المجتمعات الغربية. وعلى غرار المحافظين بقيادة ويليام ف. باكلي [الذين قاوموا التغييرات الاجتماعية] في الخمسينيات، يقف الشعبويون اليمينيون اليوم في وجه التاريخ، صارخين به: “كفى!”. وفي الولايات المتحدة، تعد التغييرات الناجمة عن النضال الذي دام عقوداً من الزمان لتحقيق العدالة العرقية، وتضاؤل دور الدين المنظم، من المصادر الرئيسة لقلق هذه المجموعة. ففي الواقع، تلوح مخاوف من تآكل الهويات المحلية والوطنية في كثير من الأماكن، بيد أن سبب التوتر الأكثر وضوحاً وانتشاراً هو الهجرة، وبخاصة هجرة الأشخاص الذين يختلفون عرقياً وثقافياً عن السكان الحاليين.
لقد شهد عدد من المجتمعات الثرية تدفقات كبيرة من المهاجرين في العقود الأخيرة. وأتاحت أزمة اللاجئين الأوروبية التي بدأت عام 2015 فرصاً جديدة أمام رواد الشعبوية اليمينية لتأجيج واستغلال المخاوف المستعرة منذ فترة طويلة في شأن المهاجرين والهجرة، مما أثار مخاوف عامة في شأن [نظرية المؤامرة] “الاستبدال العظيم” للغالبية البيضاء بغير البيض. ومثلما هو الحال مع التأثير المفترض للأزمة الاقتصادية، غالباً ما يساء فهم أسباب هذه التطورات وتداعياتها السياسية.
من ناحية، هناك علاقة ضعيفة بصورة ملحوظة بين حجم الهجرة في بلدان معينة ومدى انتشار المشاعر المناهضة للمهاجرين. ففي استطلاعات الرأي المستمرة منذ فترة طويلة في أنحاء بلدان متعددة، تظل ألمانيا والسويد، اللتان شهدتا تدفقاً كبيراً للمهاجرين إليهما، من بين أكثر البلدان ترحيباً بهم في أوروبا، وبالكاد أثرت أزمة اللاجئين على الآراء الإيجابية هناك تجاه المهاجرين والهجرة. أما المجر وبولندا، اللتان لم تستقبلا عدداً كبيراً من المهاجرين (على رغم أن بولندا استقبلت عديداً من اللاجئين من أوكرانيا)، فهما من بين أكثر البلدان عدائية للمهاجرين، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى أن حكومتيهما استخدمتا المهاجرين ككبش فداء بصورة فعالة، وهذا يقدم مثالاً آخر على تشكيل القادة وبلورتهم للرأي العام بدلاً من الاستجابة له.
إن الفكرة السائدة بأن أزمة الهجرة كانت تمزق أوروبا تعبر عن رد فعل مبالغ فيه صادر عن أقلية كارهة للأجانب. فمثلما تميل الصحافة إلى المبالغة في تقدير المكاسب الانتخابية التي تحققها الأحزاب المناهضة للهجرة، فإنها غالباً ما تخطئ أيضاً في تفسير انفعالات المتطرفين على أنها تحولات واسعة في الرأي العام. في مختلف أنحاء أوروبا، أصبحت المواقف تجاه المهاجرين والهجرة أكثر إيجابية بصورة ملحوظة منذ مطلع القرن، حتى في الأماكن التي شهدت تدفقات كبيرة من المهاجرين. ويرجع هذا التحول إلى حد كبير إلى تعاقب الأجيال، إذ إن الأشخاص الأصغر سناً والأكثر تعليماً لديهم مخاوف أقل في شأن الهجرة مقارنة بآبائهم وأجدادهم. وفي استطلاعات الرأي التي أجريت في السنوات الأخيرة، كان التباين في المواقف تجاه المهاجرين والهجرة بين الأوروبيين الشباب (الذين ولدوا في أواخر التسعينيات) وبعض الفئات الأكبر سناً (الذين ولدوا في أوائل الثلاثينيات) مشابهاً للتباين بين البلدان التي لديها أكثر الآراء إيجابية تجاه الهجرة، مثل النرويج والسويد، وتلك التي تتخذ مواقف أقل إيجابية، مثل بولندا أو سلوفينيا. وعلى رغم أن قضية الهجرة لن تختفي قريباً من المشهد السياسي، إلا أن مناهضتها تواجه مقاومة كبيرة من الأجيال الأصغر سناً.
ويظهر انقسام مماثل بين الأجيال في الولايات المتحدة. في الواقع، إن الفجوة القائمة منذ فترة طويلة في المواقف في شأن الهجرة بين الأميركيين الأكبر سناً والأصغر سناً اتسعت في السنوات الأخيرة. وقد وجد استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غالوب” عام 2023 أن 55 في المئة من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 55 عاماً أو أكثر يريدون تقليص مستويات تدفق المهاجرين، في حين أن 16 في المئة فقط من الذين تراوح أعمارهم ما بين 18 و34 عاماً وافقوا على هذا الرأي.
بالنسبة إلى بعض الأميركيين الأكبر سناً على وجه الخصوص، فإن المخاوف في شأن الهجرة قد زادت بصورة كبيرة بسبب الخوف الأعمق من أن يصبحوا هم غرباء في بلدهم. قبل عقد من الزمن، أظهرت عالمتا النفس مورين كريغ وجينيفر ريتشسن أن تذكير الأميركيين البيض بمستقبل ديموغرافي متوقع يصبح فيه غير البيض أكثر عدداً منهم قد غير بصورة كبيرة من مواقفهم السياسية. الآن، أصبحت مثل هذه التذكيرات تتكرر دائماً، إذ يروج الساسة والمحللون من اليمين باستمرار لنظرية المؤامرة القائلة بأن النخب الراديكالية تستخدم هجرة غير البيض لتسريع حلول هذا المستقبل الديموغرافي وتعزيز قبضتها على السلطة. بالنسبة إلى الأشخاص الذين ينظرون إلى التنوع الديموغرافي باعتباره تهديداً كبيراً لنمط الحياة الأميركي التقليدي، فإن الأخطار السياسية تكاد تصل إلى أعلى مستوياتها.
إن التوترات الناتجة من الهجرة حقيقية، لكنها تعبر عن تزايد حدة المشاعر واشتعال العواطف في صفوف الأقلية، ولا تمثل تياراً جارفاً من المشاعر والقناعات العامة التي يفترضها عديد من المراقبين. وعلاوة على ذلك، غالباً ما تكون التداعيات السياسية لهذه التوترات مبالغاً فيها، فمعظم المعارضة للهجرة تكون رمزية أكثر من كونها ملموسة. على سبيل المثال، وجد استطلاع “غالوب” في يونيو (حزيران) 2024 أن 47 في المئة من الأميركيين يؤيدون “ترحيل جميع المهاجرين الذين يعيشون بصورة غير قانونية في الولايات المتحدة إلى بلدانهم”. ولكن أي شخص يميل إلى أن يأخذ هذه النتيجة الخطرة على محمل الجد، من الأفضل أن يلاحظ أن 70 في المئة من المشاركين في نفس الاستطلاع قالوا إنهم يفضلون “منح المهاجرين الذين يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير قانونية فرصة الحصول على الجنسية الأميركية إذا استوفوا شروطاً معينة خلال فترة زمنية محددة”. وكما هو الحال مع عديد من القضايا، قد لا تعبر تفضيلات الرأي العام الظاهرة تجاه سياسات الهجرة عن مشاعرهم الحقيقية. والمبالغة في مدى انتشار المشاعر المعادية للهجرة ومتانتها لا تؤدي إلا إلى تشجيع الزعماء السياسيين البارزين على الاستسلام للضغوط من المتطرفين، فيتخلون عن مسؤوليتهم في صياغة السياسات والخطابات التي تعالج القضية بعقلانية وحكمة.
مجرد عواء
في الواقع، إن النجاحات الانتخابية التي تحققها الأحزاب الشعبوية دائماً ما تثير القلق في شأن تأثيرها المحتمل على السياسات العامة. ولكن هذا التأثير، أيضاً، غالباً ما يضخم، وغالباً ما يصعب تقييمه. بغض النظر عن الهيكل المؤسسي المحدد الذي يعملون فيه، يحتاج الشعبويون عموماً إلى حلفاء سياسيين لتشكيل السياسات. وفي الأنظمة القائمة على قاعدة الغالبية، يتطلب ذلك تفاوضاً داخل الأحزاب والحكومات. وفي الأنظمة المتعددة الأحزاب، يتطلب الأمر عادة من الأحزاب الشعبوية التعاون مع الأحزاب الرئيسة في ائتلافات حكومية. وكلما كان الحزب الشعبوي أكثر تطرفاً، قلت جاذبيته كشريك في الائتلاف، وزاد احتمال اضطراره إلى التخفيف من طموحاته السياسية للمشاركة في الحكومة. بالتالي، مثلما قال عالم السياسة كاس مود ذات يوم، فحتى عندما يصل الشعبويون اليمينيون في أوروبا الغربية إلى البرلمان، فإنهم “كلاب تنبح بصوت عالٍ، لكنها نادراً ما تعض”.وخير مثال على ذلك هو تولي الشعبوية اليمينية جورجيا ميلوني منصب رئيسة وزراء إيطاليا عام 2022. فقد صور صعود ميلوني على أنه طليعة “موجة جديدة من الشعبوية”. ولكن في الحقيقة، استفادت ميلوني من انهيار ماتيو سالفيني، زعيم اليمين المتطرف السابق الذي فقد الدعم بعد أن بالغ في تقدير قوته ومكانته في حكومة ائتلافية. وحين تولت رئاسة الوزراء، أظهرت ميلوني حماسة وتطرفاً أقل مما توقعه عديد من المحللين، مقيدة باعتماد إيطاليا على الاتحاد الأوروبي، وبشركائها في الائتلاف، للحصول على الدعم الاقتصادي.
في بعض البلدان، تجنب سياسيو التيار الرئيس لفترة طويلة التحالف سياسياً مع الأحزاب الشعبوية. في السويد، على سبيل المثال، قوبل الصعود الانتخابي لحزب “ديمقراطيو السويد” اليميني الشعبوي لسنوات عديدة برفض الأحزاب الرئيسة على اختلاف مشاربها الشراكة معه في ائتلافات حاكمة، حتى ولو كان ذلك يعني التخلي عن السلطة لمصلحة منافسيهم. عام 2018، مثلت مقاعد حزب “ديمقراطيو السويد” الـ62 في البرلمان توازن قوة واضح بين 144 مقعداً لائتلاف “الأحمر والأخضر” و143 مقعداً لتحالف يمين الوسط. ومع ذلك، تفاوضت الأحزاب الرئيسة لأكثر من أربعة أشهر، واستقرت في النهاية على ائتلاف يساري وسطي هش، ولكن عملي. عام 2022، فاز حزب “ديمقراطيو السويد” بـ73 مقعداً، مما جعله أكبر حزب في ائتلاف محتمل من اليمين الوسط. لكن تردد أحزاب الائتلاف الأخرى في التعاون معه أدى إلى إنشاء حكومة أقلية دعمها حزب “ديمقراطيو السويد” بعد مفاوضات دقيقة ومنظمة بعناية. وعلى رغم أن العرف الذي يقضي بـ”إبعاد” ديمقراطيي السويد عن السلطة قد تآكل بوضوح في السنوات الأخيرة، إلا أنه لم يختف. وأياً كان ما قد يفكر فيه المرء في شأن شرعية إبطال تأثير أقلية لا يستهان بها من الناخبين على الحكومة، لا يزال لدى القادة السياسيين في الأنظمة المتعددة الأحزاب درجة كبيرة من الحرية لفعل ذلك.
وتظهر جهود النخب السياسية السائدة الرامية إلى الحد من تأثير سياسات الشعبويين اليمينيين بصورة مماثلة في هولندا، إذ أدت قضية الهجرة إلى أزمة سياسية كبيرة، مما أسفر عام 2023 عن انهيار ائتلاف رئيس الوزراء اليميني الوسطي مارك روته بعد أن دام لفترة طويلة. وفي الانتخابات المبكرة التي أتت نتيجة هذا الانهيار كان الفائز الأكبر الذي ضاعف حصته السابقة من الأصوات والتمثيل البرلماني، هو حزب من أجل الحرية، بقيادة المناهض للهجرة خيرت فيلدرز. على رغم أن بعض وسائل الإعلام أعلنت أن النتائج تمثل “تغييراً جذرياً في المشهد السياسي الهولندي”، فإن شركاء فيلدرز المحتملين في الائتلاف حالوا دون توليه منصب رئيس الوزراء، ليختاروا في النهاية زعيماً جديداً لا ينتمي إلى أي حزب ولا يمتلك خبرة سياسية. وكما هو الحال في السويد، يبقى تأثير فوز فيلدرز على السياسات غير واضح.
بالنسبة إلى سياسيي التيار الرئيس، قد تكون محاولة قمع الأحزاب الشعبوية والمظالم التي تستغلها، سياسة جيدة في كثير من الأحيان. ومع ذلك، فإن هذه السياسة تخاطر أحياناً بزيادة نفور أنصارهم. لقد أظهر استطلاع أجري في الأشهر الستة التي تلت انتخابات السويد عام 2018 خفضاً كبيراً في الرضا عن الديمقراطية السويدية بين الأشخاص الذين أفادوا أنهم صوتوا لحزب “ديمقراطيو السويد”، إذ أوضحت المفاوضات المطولة بعد الانتخابات بصورة متزايدة أن الحزب سيظل مرة أخرى خارج الحكومة. أحياناً تتطلب إدارة تيارات الشعبوية تقديم تنازلات وقبول التسوياًت، لكن في كثير من الأحيان، يضطر القادة السياسيون، الذين يسيطر عليهم الخوف من التهديد المبالغ فيه الناجم عن موجة شعبوية ما، إلى التنازل أكثر مما ينبغي أو مما هو ضروري. ربما يكون المثال الأبرز على هذا النوع من ردود الفعل المبالغ فيها هو وعد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عام 2013 بإجراء استفتاء حول عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، وهو قرار متهور كان يهدف إلى تقليص التهديد المضخم الذي كان يشكله “حزب استقلال المملكة المتحدة” وهي خطوة ندم عليها لاحقاً كثر ممن دعموها.
التخلص من الأوغاد
في حين أن المراقبين قد بالغوا في النجاحات الانتخابية والنفوذ السياسي للأحزاب الشعبوية، فقد ضخموا أيضاً ما هو على المحك في تلك النجاحات من خلال الخلط بين الشعبوية والانتكاس الديمقراطي. ووفقاً لعالمي السياسة ياشا مونك وروبرتو ستيفان فوا، فإن “الأحزاب الشعبوية اليمينية المتطرفة… خرجت من الظل [من الهامش إلى الواجهة] لتغير النظام الحزبي في كل دولة غربية أوروبية تقريباً. وفي الوقت ذاته، تشهد أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية تحولات مؤسسية وأيديولوجية قد تكون وشيكة: ففي بولندا والمجر، بدأ القادة الشعبويون في الضغط على وسائل الإعلام الناقدة، وانتهاك حقوق الأقليات، وتقويض مؤسسات رئيسة مثل المحاكم المستقلة”. هنا، تحظى عبارة “في الوقت ذاته” بدور كبير. في الواقع، لم تكن الأحزاب التي قوضت المؤسسات الديمقراطية في المجر وبولندا تشبه كثيراً الأحزاب الشعبوية في أوروبا الغربية، وكانت العوامل التي دفعتها للصعود غير مرتبطة على الإطلاق بالفهم التقليدي للشعبوية اليمينية.
في المجر، وصل حزب فيدس بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان إلى السلطة عام 2010 باعتباره البديل الوحيد المعقول للحزب الحاكم الذي فقد صدقيته تماماً بسبب سنوات من الفضائح وسوء الإدارة. وخلافاً لافتراضات عديد من المراقبين، لم يكن دعم “فيدس” في ذلك الوقت مرتبطاً بمشاعر معادية للمهاجرين أو مقاومة التكامل الأوروبي أو عدم الثقة السياسية أو غيرها من الأسس الداعمة للأحزاب الشعبوية اليمينية. لم يبدأ أوربان في تحميل اللاجئين والاتحاد الأوروبي المسؤولية إلا بعد فوزه، فعمد إلى تكييف قواعد اللعبة الشعبوية وتوسيع نطاقها، وقرب تدريجاً آراء مؤيديه إلى أفكار الشعبويين اليمينيين في أماكن أخرى. لكن التصويت الذي أوصل أوربان إلى السلطة عام 2010 كان بمثابة حالة روتينية من “التخلص من الأوغاد” نتائجها غير متوقعة، وليس تعبيراً عن مشاعر رهاب الأجانب أو توجهات مناهضة للديمقراطية.
بعد حصوله على نسبة 53 في المئة من الأصوات الشعبية، وهي بالكاد تعد تفويضاً قاطعاً في ظل الظروف، استغل أوربان ما وصفه كاتب مجري بأنه غالبية الثلثين “العرضية” في الجمعية الوطنية، ليعلن بعد ذلك عن “ثورة صناديق الاقتراع” الزائفة بصورة واضحة، مما مكنه من إجراء تغييرات في النظام الانتخابي وفرض قيود على الموظفين المدنيين ووسائل الإعلام بهدف ترسيخ حكم “فيدس” في السلطة. لم يكن هذا الهجوم على الديمقراطية المجرية تعبيراً عن رغبة المجريين في الشعبوية، ناهيك بالسلطوية. لقد استغل أوربان الفرصة، مثلما فعل السياسيون الحاكمون في كثير من الأزمنة والأماكن، من أجل تعديل قواعد اللعبة لصالحه.
إن التغييرات التي أدخلها أوربان على النظام الانتخابي المجري وهجماته على وسائل الإعلام المستقلة منحت حزب “فيدس” “ميزة غير مستحقة” في الانتخابات اللاحقة، بحسب ما أفاد مراقب دولي عام 2014. ومع ذلك، كان الأساس الأكثر أهمية لاستمرار الحزب في الحكم هو التحسن الملحوظ في جودة الحياة الذاتية للمجريين العاديين. فقد أظهرت الاستطلاعات تحسينات هائلة بعد عام 2009 في الرضا العام عن الاقتصاد والحكومة الوطنية، وخلافاً للتوقعات، عن عمل الديمقراطية المجرية. واستمرت هذه التحسينات في مستوى الرفاهية الذاتية لسنوات عدة بعد صعود “فيدس” إلى السلطة.
وقد شهد الانتكاس الديمقراطي في بولندا مساراً مشابهاً بعد فوز حزب القانون والعدالة اليميني الوسطي عام 2015. وأوضح محلل في “بي بي سي نيوز” في ذلك الوقت أن “حزب القانون والعدالة حقق فوزاً كبيراً لأنه قدم سياسات بسيطة وملموسة”، بما في ذلك “زيادة الإعانات لرعاية الأطفال وتخفيضات ضريبية للفئات الأقل ثراءً”. واتفق الباحثون على أن حزب القانون والعدالة “لمع صورته”، فخاض الانتخابات تحت شعار بسيط هو “التغيير الجيد”. ولم يلجأ إلى توظيف الموالين له في القضاء، وانتقاد الاتحاد الأوروبي، وإحكام السيطرة على الإذاعة والتلفزيون الحكوميين إلا بعد الوصول إلى السلطة. وفي عام 2016، قال زعيم الحزب ياروسلاف كاتشينسكي لأوربان، “لقد قدمتم مثالاً يحتذى به، ونحن نقتدي به”.
إذا كان التحول نحو الاستبدادية في بولندا يعزى إلى تصرفات النخب السياسية وليس المواطنين العاديين، فقد ينطبق الشيء نفسه على نهايته. إن الإطاحة بحزب القانون والعدالة في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بعد شهر واحد فحسب من ترجيح إعادة انتخابه في مجلة “إيكونوميست” كجزء من “موجة جديدة من الشعبوية اليمينية المتطرفة”، دفعت بعض المراقبين إلى التساؤل عما إذا كانت الموجة الشعبوية في أوروبا قد بلغت ذروتها أخيراً. لكن نتيجة الانتخابات لم تظهر تغييراً كبيراً في الرأي العام البولندي. كانت نسبة 35 في المئة من الأصوات التي حصل عليها حزب القانون والعدالة أقل قليلاً من نسبة الـ38 في المئة التي أوصلته إلى السلطة عام 2015. لم يكن الاختلاف الرئيس في سلوك الناخبين، بل في إصرار زعماء أحزاب المعارضة المختلفة على تجاوز خلافاتهم وتشكيل حكومة ائتلافية بقيادة رئيس الوزراء السابق دونالد توسك.
أشخاص عاديون في أوقات غير عادية
قد يبدو التسامح الذي يبديه عديد من المواطنين في المجر وبولندا تجاه ما وصفه العلماء بالأنظمة “شبه الاستبدادية” أمراً مداناً ومذموماً في نظر المثاليين الديمقراطيين، ولكن هذا ينبغي ألا يكون مفاجئاً. ففي غالب الأوقات والأماكن كان الناس العاديون يهتمون بأمنهم، وأوضاعهم المالية الشخصية، وإثبات هويتهم الاجتماعية أكثر من اهتمامهم بالحفاظ على المعايير والإجراءات الديمقراطية. وفي تلخيص لدراستها التفصيلية حول الانهيارات الكاملة للديمقراطية في أوروبا وأميركا اللاتينية في القرن الـ20، بعنوان “أشخاص عاديون في أوقات غير عادية” Ordinary People in Extraordinary Times كتبت عالمة السياسة نانسي بيرميو أن “الناس العاديين كانوا عموماً مذنبين بالبقاء في حالة من الخمود والسكون عندما حاول الديكتاتوريون فعلياً الاستيلاء على السلطة”. وعلى رغم أنهم “لم يستقطبوا أو يتحركوا لدعم الديكتاتورية، إلا أنهم لم يحشدوا قواهم على الفور للدفاع عن الديمقراطية”.
في عام 2020، نشرت دراسة تختبر ما إذا كان إبلاغ المشاركين في الاستطلاع بأن مرشحاً سياسياً افتراضياً انتهك بعض المعايير الديمقراطية (على سبيل المثال، الدعوة إلى مقاضاة الصحافيين غير الودودين أو تجاهل الأحكام القضائية غير المواتية) يؤثر في استعدادهم لدعمه. وخلص المؤلفون إلى أن “جزءاً صغيراً فقط من الأميركيين يعطون الأولوية للمبادئ الديمقراطية في اختياراتهم الانتخابية”، مما يجعل الرأي العام “أداة محدودة بصورة ملحوظة” لمراقبة السلوك غير الديمقراطي الذي يقوم به المسؤولون المنتخبون. وبالمثل، كان الأتراك والفنزويليون “مترددين في معاقبة السياسيين لتجاهل المبادئ الديمقراطية عندما تطلب القيام بذلك التخلي عن الحزب أو السياسات المفضلة”.
لقد وضع التزام الأميركيين بالمبادئ الديمقراطية أمام اختبار أكثر واقعية عام 2022، عندما قرر عشرات من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين دعموا جهود ترمب “لوقف السرقة” [الانتخابات] أو وافقوا عليها في أعقاب انتخابات 2020 أن يخوضوا الانتخابات مرة أخرة. وفي الانتخابات العامة المحتدمة، لم يكن أداؤهم أسوأ أو أفضل بصورة كبيرة من نظرائهم الذين عارضوا ترمب، وكانت الكلفة الانتخابية “لتجاهل المبادئ الديمقراطية” صفراً في الأساس. وعلاوة على ذلك، كانوا في وضع أفضل في جوانب أخرى، على سبيل المثال، كانوا أقل عرضة لخسارة الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري أو اعتزال السياسة وأكثر ميلاً للسعي إلى مناصب أعلى. وقد يكون من المغري تفسير اللامبالاة العامة تجاه انتهاكات المعايير الديمقراطية باعتبارها في حد ذاتها نتاجاً لـ”الموجة الشعبوية”. والواقع أنها سمة راسخة وطويلة الأمد في السياسة الديمقراطية وليس فقط في حالات الانهيار التي درستها بيرميو. قبل ستة عقود من الزمان، وثقت الدراسة الكلاسيكية التي أجراها عالم السياسة هربرت مكلوسكي حول “الإجماع والأيديولوجية في السياسة الأميركية” الولاء السطحي الذي يكنه عديد من الأميركيين العاديين لـ”قواعد اللعبة”. وخلص ماكلوسكي إلى أن أعضاء “الأقلية السياسية النشطة” كانوا “المخازن الرئيسة للضمير العام [المرجعيات الأساسية للوعي المجتمعي]” و”حاملي العقيدة الديمقراطية”.
في عصر ما بعد الحرب الذي عاشه مكلوسكي، كان دعم النخب للمعايير الديمقراطية غير محصور في حزب واحد. وقد تيسر هذا الإجماع بفضل حقيقة مفادها أن الاختلافات السياسية بين الحزبين كانت متواضعة وفقاً للمعايير التاريخية (عام 1950، أصدرت الجمعية الأميركية للعلوم السياسية تقريراً عاماً بعنوان “نحو نظام ثنائي الحزب أكثر مسؤولية” Toward a More Responsible Two-Party System دعا إلى إنشاء منصات حزبية أقوى وأكثر تميزاً، وسلطة أكبر لتنفيذها). ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، أدى ظهور قضايا ساخنة مثل الحقوق المدنية، والإجهاض، والهجرة، والهوية الوطنية إلى استقطاب الحزبين، مما زاد من أخطار النزاع السياسي. استجابة لذلك، أظهرت النخب السياسية، وبخاصة الجمهوريون، استعداداً مقلقاً لانتهاك المعايير الديمقراطية من أجل تحقيق مكاسب حزبية. إن الصراع المتزايد بلا حدود أو قيود من أجل السلطة بين النخب، وليس الشعبوية، هو الذي يمثل أكبر تهديد للديمقراطية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى.
وتشير دراسات حالات انهيار الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم إلى أن أهم حماية من انزلاق كبار القادة نحو الاستبداد تتمثل في المعارضة التي لا هوادة فيها من الحلفاء السياسيين البارزين. فقد تطلب الانقلاب الدستوري الذي قاده أوربان في المجر انضباطاً حزبياً مطلقاً، مما سهلته سيطرته الصارمة على جهاز حزب فيدس واختيار المرشحين. وعلى رغم أن سيطرة ترمب على الحزب الجمهوري كانت أقل شمولاً، فإنها ازدادت بصورة ملحوظة منذ عام 2016. فعندما طرح إمكانية تأجيل انتخابات عام 2020، رفض زعماء الجمهوريين في الكونغرس الفكرة على الفور وبصورة علنية، وسرعان ما سقطت. ولكن بعد الانتخابات، عندما وضع حلفاء ترمب خطة لعرقلة التصديق على الأصوات الانتخابية، انقسم زعماء الكونغرس الجمهوريون في استجابتهم. وانتهى الأمر بتصويت ثلثي الجمهوريين في مجلس النواب على إلغاء التصديق على الأصوات الانتخابية، في حين فعل ذلك سبعة فحسب من أصل 51 جمهورياً في مجلس الشيوخ.
منذ عام 2021، عزز ترمب مكانته بين قواعد الحزب الجمهوري، مثلما تبين من خلال مسيرته السلسة في الانتخابات التمهيدية لعام 2024. كما أنه أحكم قبضته بصورة كبيرة على تنظيم الحزب، على سبيل المثال من خلال تعيين حلفاء وأصهار في قيادة اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري. في الواقع، هناك عدد كبير من القادة الجمهوريين الذين قاوموا ميوله المتطرفة تقاعدوا طوعاً أو استبعدوا من السياسة بالإكراه، وحل محلهم قادمون جدد يبدو أنهم على استعداد لمنح ترمب صلاحية مطلقة. حتى لو فاز مجدداً في الانتخابات، فإن التشرذم المؤسسي للسلطة في النظام الأميركي سيجعله بعيداً من الحصول على السيطرة المحكمة التي يتمتع بها أوربان في المجر. ولكن مع تزايد وحدة الحزب الجمهوري ودعم المحكمة العليا المتعاطفة بصورة مطردة، هناك سبب وجيه للخوف من تآكل المعايير الديمقراطية أكثر فأكثر.
إن حركة ترمب “اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (ماغا) تستند إلى خوف عميق من التنوع والتغيير الاجتماعي. هذا النوع من الخوف شائع في جميع المجتمعات، وغالباً ما كان يزعزع استقرار السياسة الديمقراطية. ومع ذلك، فإن التهديد الذي يمثله ترمب للديمقراطية الأميركية ليس له علاقة تذكر بالشعبوية. فهو لا يأتي من المواطنين العاديين المنتظمين في “حروب ثقافية”، حتى أولئك الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني). لقد كانوا وما زالوا مجرد تفصيل جانبي في المشهد. فالتهديد الحقيقي يأتي من أعضاء الكونغرس الجمهوريين الذين دعموا، بعد ساعات، محاولة ترمب لإلغاء نتيجة الانتخابات. لم يكن تهديد الديمقراطية الأميركية في تلك الأشهر نتيجة موجة مفاجئة من المشاعر المعادية للديمقراطية، بل كان بسبب مكايد النخب السياسية العازمة على ترسيخ سلطتها.
في جوهره، إن سوء الفهم الواسع النطاق للتهديد الشعبوي المعاصر يرتبط في الأساس بسوء الفهم المتعلق بطبيعة الديمقراطية نفسها. والتصور المثالي لـ”نظرية الشعب [النظرية الشائعة التي كونها الشعب] حول الديمقراطية”، وفق التسمية التي اخترناها أنا وعالم السياسة كريستوفر آشين، يشجع الصحافيين والعلماء والمواطنين العاديين على تخيل أن القوة المحركة وراء التحولات الكبيرة في الأنظمة الحزبية والتحالفات الحاكمة يجب أن تكون التغييرات الكبيرة المقابلة في الرأي العام. إذا كانت الأحزاب الشعبوية تزداد قوة في البرلمانات، فلا بد من أن ذلك يحدث بسبب انقلاب الناس على الهجرة، والتكامل الأوروبي، والمؤسسات السياسية القائمة (هذا غير صحيح). وإذا كانت المعايير والمؤسسات الديمقراطية تتآكل، فلا بد من أن ذلك يحدث بسبب ضعف الدعم الشعبي للديمقراطية كنظام حكم (هذا غير صحيح أيضاً).
لقد أشار عالم السياسة البارز إلمر إيريك شاتشنايدر قبل عدة عقود، إلى أن هذا النوع من الفهم للسياسة الديمقراطية “مبسط للغاية، وقائم على فكرة مبالغ فيها بصورة هائلة عن مدى تأثير الرأي العام بصورة عاجلة وفورية على مجرى الأحداث”. مصير الديمقراطية يقع في أيدي السياسيين. هم الذين يختارون إدارة المشاعر الشعبوية أو تهدئتها أو تجاهلها أو تأجيجها. إنه لخطأ خطر وفادح أن نقبل بسذاجة مظاهر انصياعهم لإرادة الشعب المزعومة. وعندما تستخدم المظالم الشعبية كذريعة لسياسات سيئة، أو ما هو أسوأ من ذلك، كذريعة للتراجع عن المبادئ الديمقراطية، فإن اللوم يقع على السياسيين، وليس على المواطنين.
لاري أم. بارتلس هو أستاذ متميز في العلوم السياسية والقانون في جامعة فاندربلت ومؤلف كتاب “الديمقراطية تتآكل من القمة: القادة والمواطنون وتحدي الشعبوية في أوروبا”.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2024
المصدر: اندبندنت عربية