سأعرض، من دون أدنى تقديم، حالةً من “النفاق السياسي” الذي يتعارض جوهرياً مع الاقتناع الإيديولوجي بصحة الموقف التاريخي، الديني والفكري أيضاً، من القضية الفلسطينية التي ظلت في المغرب، إلى عهد قريب، “قضية وطنية” في الفكر السياسي الذي تبنّاها ورفعها إلى مقام قضاياه الوطنية الأخرى منذ فترة ما بعد هزيمة 1967 وتكوين الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني بعد ذلك. تتعلق الحالة بالموقف المُحزن الذي بدا عليه رئيس الحكومة المغربية (السابق)، سعد الدين العثماني، على يسار جاريد كوشنير بعد توقيعه على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني (الإعلان المشترك) يوم 22 ديسمبر/ كانون الأول سنة 2020، فاتحاً “كُنَّاشَهُ” الجلدي المدهون بالأخضر الغامق (حسب ابن سيرين: زيادة وبركة في الرزق) على الصفحتين المتقابلتين للاتفاقية، أمام وسائل الإعلام التي اعتبرت الموضوع حدثاً فريداً. وقد سبق للعثماني، ولم يكن رئيساً للحكومة، أن رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني “لأنه دَفْعٌ له وتحفيز لكي يزيد من انتهاكه حقوق الشعب الفلسطيني”.
المثير في الموقف المحزن، المشار إليه، أن التوقيع على التطبيع، في حد ذاته، لم يكن باعثاً على أي شيء في اللحظة (المناسبة) التي غالباً ما يهتبلها المعارضون، أو الموالون، للتعبير عن مواقفهم في حالات، حسب المقتضى، من السخط أو الرضا. فلم يحتشد الناس، ولو رمزياً، للتعبير عن الرفض، أو للاحتفال بالقبول، في أي شارع من المدن التي اعتادوا التظاهر فيها لأيٍّ من الأسباب الداعية إلى الخروج وإلى الصراخ. جاءت المواقف السياسية المختلفة بعد أن قلَّبَها المعارضون والمنتقدون بالخصوص في أدمغتهم على مختلف الوجوه التي تسوّغ اتخاذ موقف يناسب المقام. فما كان من عبد الإله بنكيران، الذي نجا من التوقيع لسقوط ولايته قبل، إلا أن بَرَّر موقف حزبه (العدالة والتنمية) بكلام موجّه أصلاً إلى الحكّام الذين أوجبوا الاتفاقية، وألزموا سعد الدين العثماني بالتوقيع عليها راضياً أو ساخطاً، مع ذكر حجج واهية، فيها ممالأة لأولي الأمر، جاء فيها أن سعد الدين العثماني ليس إلا “رئيس حكومة عيّنه الملك، وتوقيعه مرتبط بالدولة ورئاستها، وهي التي تحدّد من سيوقّع”، ثم متسائلاً كمن يمالئ منكوباً على همه: “هل كان من الممكن أن يرفض العثماني التوقيع؟”، أي بعبارات مقلوبة أضعها في فمه: لو كنتَ رئيس الحكومة لقَبِلْتَ التوقيع للأسباب الموجبة نفسها.
أريد القول إن التطبيع لم يفاجئ إلا العامّة الذاهلة، لأنَّ معظمَ النخب المغربية المرتبطة بالسياسة، أو بالاقتصاد والتجارة، أو بغير ذلك، كانت على علم مؤكد، ومنهم من كان على يقين ثابت، بالخطوات الحثيثة التي كان التطبيع (غير الرسمي) قد قطعها في الاستئناس العاطفي بالعدو الصهيوني، بمختلف المبرّرات المعروضة لذلك (التفوق التكنولوجي والتقدم العلمي، “الديمقراطية”، العُمومَة الجينيالوجية، وقس على ذلك). أضيف إلى ذلك أن التوقيع، في حقيقة أمره، وكذا في رمزيته، لم يكن سوى مشهد لحظي للتواؤم، في مظهر احتفالي، مع الاتفاقية الأشمل (أبراهام) (بين اليهود والعرب لاشتراكهم في الجد الأكبر نبي الله إبراهيم)، وكذا لإظهار أطروحة “المصالحة التاريخية” بمظهر الحل السحري “لتوطين” السلام، ولو على حساب الأماني الوطنية للشعب الفلسطيني، في الشرق الأوسط.
كنا أيضاً أمام “سردية” مهمّة من الوجهة الدينية يمكن أن تُبَرِّر كل فعل سياسي من موقع الدفاع عن “المصلحة” الوطنية، قضية الصحراء جوهرياً، الموجودة في “الوعي الجمعي” وفي الأجندة السياسية لمختلف الأحزاب السياسية، كـ”قضية ترافعية” كما يقولون، وفي مقدمة تلك الأحزاب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه سعد الدين العثماني، وكان بنكيران، منذ أن أخرجه إلى العلن بإيعاز من السلطة، زعيمه البارز، هذا إلى جانب أن تلك القضية الجوهرية ما انفكت تُؤَلِّفُ، بين “عموم أفراد الشعب المغربي”، أكبر التحديات التي لا يبدو أن لها حلاً، لأنها “نهائية”، في رابطة وثقى واهتمام متواصل ودعم لا يمكن الاستغناء عنه، في وعيهم منذ قرابة خمسين سنة.
التطبيع لم يفاجئ إلا العامّة الذاهلة، لأنَّ معظمَ النخب المغربية المرتبطة بالسياسة، أو بالاقتصاد والتجارة، أو بغير ذلك، كانت على علم مؤكد، ومنهم من كان على يقين ثابت
يمكن القول من هذه الزاوية إن في التطبيع مع الكيان الصهيوني حكماً ضمنياً بالسلب على “اندحار” القضية الفلسطينية، و”عياء” الدعم الذي حظيت به مدة طويلة، هذا بالإضافة إلى انهيار الدواعي الإيديولوجية التي كانت باستمرار وقوداً، تزود الوعي بالأهمية القصوى التي للقضية في الممارسة المبنية على هدف معيّن (التحرير، بالنسبة إلى القضية الفلسطينية). والذي أعنيه بهذا كله أن خطاباً جديداً أخذ في التبلور قبل أن يصبح التطبيع، على مستوى الوعي، في علاقةٍ مركّبة: مع الصحراء من ناحية، ومع فلسطين ذاتها من ناحية أخرى، مع ارتكاز هذا الوعي، بطبيعة الحال، على الفرضية الوطنية من حيث الأولوية، وتراجع الفرضية القومية إلى الخلف من حيث الاهتمام، فحدث انفصال ذلك الزوج الوطني عن المدار التحرّري بعد أن عمّر طويلاً، بل أصبح التناقضُ في ذلك الانفصال تجربةً للقطع تقريباً مع النزوع التحرّري الذي كان يلف القضيتين ويجعل العاملين في سبيلهما، انطلاقاً من الاختيار الإيديولوجي، على أهبة التضحية، أو الشهادة، في إطار الممارسة السياسية التي يقدمان عليها.
عملية انقلاب الدور، إذا شئنا، جرت في الحقيقة في ضوء تحوّلات اخترقت بُنَى القضيتين معاً على جميع الأصعدة، فلم تعد القضية الفلسطينية في المركز من الاهتمام الوطني، لأن القضية الصحراوية أصبحت بديلاً احتل موقعها منه بنوع من الأحقية المتصوّرة. وبذلك أفهم أنَّ التشويش السياسي الذي حصل قاد إلى وضع القضيتين، بعد أن كانتا متناظرتين، في علاقة تعارضية لا تخضعان لأي ترتيبٍ على مستوى الشعور، إلا إذا كان المقصود من الترتيب التضحية بواحدةٍ منهما على حساب الأخرى، فتصبح المنافسة بينهما ضرباً من العماء السياسي الذي به يسقط التوظيف عنهما أصلاً.
من زاوية هذا التحليل، أرى بوضوح أنَّ لقرار التطبيع مع الكيان الصهيوني تاريخَه الخاص في التجربة السياسية المغربية تعود إلى فترة بعيدة في التاريخ الحديث. وبمستطاعي أن أجد لسعد الدين العثماني، بحكم ذلك، ما يكفي من المبرّرات (الموضوعية)، رغم أنها جعلت من توقيعه على “الإعلان المشترك” موقفاً فيه كثير من النفاق السياسي، أعَابَه عليه عبد الإله بنكيران بأسلوب “الذمّ بما يشبه المدح”، ثم طالبه، بعد مرور زمن مهدور، بالاعتذار عنه. وسأعرض لهذه الفكرة من خلال ثلاثة عوامل:
الأول، التغنّي بالأصل المغربي لفئة عريضة من اليهود السفارديم في إسرائيل. وقد استُعمل هذا بوصفه معطىً “بديهياً” لإثبات الروابط التاريخية المفترضة بين فئة من سكان إسرائيل هاجروا وهُجِّرُوا إليها (وخصوصاً بعد التقسيم في 1948) والمغرب بصورة مطلقة، لا بسكانه، أو بفئات منهم على سبيل المثال. ويرتبط هذا المعطى أيضاً بافتراض تاريخي، رغم ضعفه، يقول بالعمومة العرقية اليهودية العربية لتأكيد القرابة الدموية والجذور السامية المشتركة (العرب من نسل إسماعيل، واليهود من نسل يعقوب). أضف إلى هذا ما أوحى به ونص عليه دستور 2011 لأول مرة حين جعل البعد “العبراني” واحداً من أبعاد الهوية المغربية.
عملية التطبيع تاريخية – سياسية جرت في مراحل متدرجة، رغم أنها تحققت بالفعل، عندما لم يعد للوجود الفلسطيني في “الشعور الوطني” أي حضور استثنائي
أما الثاني، فيرتبط بقضية الصحراء، من ناحية، وبالعداوة التاريخية بين المغرب والجزائر منذ حرب الرمال في 1963 من ناحية أخرى، هذا فضلاً أيضاً عن طبيعة الانتماء الإيديولوجي (أيام الحرب الباردة وما تلاها) الذي حوّل تلك العداوة، من الجانبين، إلى تهديد مباشر للسيادة الوطنية في أكثر من مرحلة. ويقال عن قضية الصحراء إنها، وأساساً بعد اعتراف ترامب المفاجئ بسيادة المغرب على أراضيه الجنوبية، أجَّجَت مفهوم الصراع الإقليمي – القومي، حين أضفت عليه الدولة الجزائرية طابع التحريض والتعدّي اللفظي المباشر الذي لم يُبْقِ للجوار أي رباط أو رابط.
والعامل الأخير، ذو طبيعة استثنائية، يتمثل بانهيار صورة الفلسطيني المقاوم، وقبول ساسته بالحلول المتناقضة التي أملتها اتفاقيات دولية لم تحقق أي سلام ممكن. بالإضافة إلى الانقسام العمودي الطارئ في الجسم الفلسطيني حين حوّل القضية، في بعض المراحل، إلى شبه صراع ديني (بين الفلسطينيين أنفسهم). فكان من نتائج ذلك أن تحوّل الاهتمام بفلسطين من معتقد وطني إلى تجاهل مشفوع باللامبالاة منذ أن حَرَّضَ الملك الحسن الثاني “شعبه العزيز”، متعاطفين ورافضين، على الثورة الفلسطينية بسبب الموقف الذي وقفه يسار المقاومة من قضية الصحراء، وأساساً من خلال ذلك الاستقبال الذي خصصه ياسر عرفات لزعيم “بوليساريو” في العاصمة الجزائرية في 1988.
حركة نخبوية تدين التطبيع وتعمل ضده في شروط غير مواتية، إلا أن “التجاهل الشعبي” سهّل، بصورة واضحة، ما كان يبدو مستحيلاً في السابق
عملية التطبيع تاريخية – سياسية جرت في مراحل متدرجة، رغم أنها تحققت بالفعل، عندما لم يعد للوجود الفلسطيني في “الشعور الوطني” أي حضور استثنائي. وظهر أن من علامات “النفاق السياسي” لجوء السلطة إلى إرغام فصيل إسلاموي، لمجرّد رئاسة زعيمه الحكومة، على التوقيع إلى جانب “الأعداء القوميين والدينيين” على “الاتفاق المشترك”، والقبول بذلك رغم العلم بالنتائج، والخوف من التعبير عن الرفض، والاستسلام للشهوات الذاتية.
أُقِرُّ بوجود حركة نخبوية تدين التطبيع وتعمل ضدّه في شروط غير مواتية، إلا أن “التجاهل الشعبي” سهّل، بصورة واضحة، ما كان يبدو مستحيلاً في السابق، خصوصاً أنه أسقط عروشاً وغَيَّرَ مَسَار دُولٍ. علماً أن الدولة المغربية، للحفاظ على الاستقرار وضمان بعض الروابط القومية مع الحركات العاملة في سبيل التحرير، كثيراً ما سعت لاسترضاء “الوعي الشعبي” المحلي والعروبي طمعاً في التهدئة. وهذا ما يفسر طبيعة السياسة المتبعة في هذا المجال في ضوء موقفين متناقضين، وشُعور خاص بالفَزَع: أقصد دعم الدولة الفلسطينية في مطالبها العادلة، والسعي لجعل التطبيع مع الدولة الصهيونية خطة لصيانة وتعزيز باقي أشكال التطبيع الأخرى دون خوفٍ ولا تردّد. ولا نشعر بالفزع إلا عندما نراهم يسكتون عن التقتيل اليومي، ويتحدّون الحالمين بإسقاط التطبيع.
المصدر: العربي الجديد