كتب رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، شيمون بيريز، في العام 2000، مقالاً بعنوان “إسرائيل في حاجة إلى دولة فلسطينية”، نشرها في مجلّة مانيير دوفوار، التي تصدر عن مؤسّسة لوموند الفرنسية. وما يلفت الانتباه في قراءة هذا المقال، المُركّز والبراغماتي، أن بيريز استهلّ كلامَه بالرجوع إلى الخطأ القاتل الذي سقط فيه تيودور هرتزل، مؤسّس الحركة الصهيونية، عندما قال: “شعب بلا أرض يبحث عن أرض بلا شعب”، ولم يكن واعياً ومدركاً لوجود شعب عربي في فلسطين، ولم يكن ليتصوره في المستقبل. واستطرد بيريز موضّحاً أن شعب إسرائيل كان فاقداً الأمل تقريباً، لكنّه اجتمع ولمّ الشمل من أجل أن ينهض من جديد. عاد إلى وطنه التاريخي وضخّ فيه نَفَس حياةٍ جديدة، وحوّل اللغة القديمة التاريخية لغة حيّة. خرج منتصراً من خمس حروب رغم قلّة عدده وعدّته. أوجد أشكالاً جديدة للحياة الاجتماعية؛ كيبوتسات أو مدن التنمية، وطوّر دولة حيث الحرّيات الديمقراطية مضمونة ومصانة حتى في حالة الحرب. شيّد نظاماً اقتصادياً مستقلاً، ومنظومة تربوية جذّابة وقوية، وأقام الصناعة وطوّر الفلاحة والخدمات. تفوّقت، حتى على الموجودة في الدول الأكثر تقدّماً. لكن الهدف المركزي والأساس لم يحقّق، حسب بيريز، ويتمثّل في السلام الشامل مع الجيران العرب. لم يحلّ المشكل الفلسطيني. وعدم حلّ المسألة الفلسطينية يهدّد بإشعال حرائقَ وحروبٍ تتجاوز الأبعاد الجغرافية لهذه المشكلة، بسبب تاريخها وقربها من الدول العربية، ووجود “جالية” فلسطينية مهمّة داخل إسرائيل. ويقول (في المقال نفسه): “بدأنا في أوسلو مصالحة فلسطينية إسرائيلية خلافاً لمعاهدة كامب ديفيد مع مصر أو اتفاق وادي عربة مع الأردن. الاتفاقات مع الفلسطينيين تعكس طابعاً آخرَ. توافقنا في أوسلو على آلية للوصول إلى السلام. وتقرّر الشروع في مصالحات حقيقية مع الفلسطينيين. وسيربح هؤلاء الاعتراف بكرامتهم الوطنية. وإسرائيل ستتحرّر من عبء أخلاقي كان يثقل ضميرها التاريخي؛ لن تتحكّم قطعاً في مصير وقدر شعب آخر. وهو ما كان يخالف التصوّر التاريخي الإسرائيلي الذي كان سبباً في ثورة الشعب الفلسطيني”.
اعتنقت الصهيونية العنفَ، ويطبّقه اليوم غلاتها بكلّ قسوة في أرض فلسطين ولبنان
ويؤكّد بيريز في مقاله: “في الواقع، لكي تظلّ إسرائيل دولة يهودية على المستوى الديمغرافي والأخلاقي، فإنها في حاجة إلى وجود دولة فلسطينية. اليوم هناك نحو خمسة ملايين يهودي ونحو أربعة ملايين عربي يعيشون بين المتوسّط والأردن. ومن دون هاتَين الدولتَين المنفصلتَين، فإن دولة واحدة لهُويَّتَين ولشعبَين، ستكون مبعث إحباط وخيبة أمل وغياب الثقة، وستظلّ إسرائيل دولة مسلّحة في مواجهة الفلسطينيين. كما أن تقسيم الأراضي بين الشعبين غاية في التعقيد، لأن المساحة ما بين المتوسّط والأردن تصل 24000 كيلومترٍ مربّعٍ وستتضاعف ساكنة المنطقة. نصفها يهودي ونصفها عربي”. فلضمان مستقبل “عادل ومنصف”، يتعيّن إنشاء “دولتَين واقتصاد عصري يتأسّس على قاعدة تعاون بين دولتَين منفصلتَين مستقلتَين. إنه من مصلحة إسرائيل أن تكون الدولة الفلسطينية عصرية ديمقراطية وتعيش في الرفاهية”.
واشنطن هي الحليف الأقرب (والموثوق به) إلى إسرائيل، يمدّها بلا حدود ولا حرج أخلاقي بالأسلحة من مختلف الأحجام والأنواع
يتناقض ما كتبه شيمون بيريز جوهرياً مع ما يؤمن به رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي يقود حكومة متشبّعة بثقافة التطرّف والحقد والانتقام ورفض الآخر، والعمل بالوسائل كلّها لمحوه واقتلاعه من أرضه. حكومة معظم أعضائها يتبنّون مواقفَ وآراءَ مستوحاة من التوراة والأساطير والسرديات، التي تضع الفلسطيني في موقع العدوّ والوحش الذي يجب قتله.
عندما صار نتنياهو رئيساً للوزراء في عام 1996، أوقف المفاوضات، وأجهض اتفاق أوسلو (1993) رغم علّاته، واختار سياسة الإغلاق والحصار والتوسّع والاستيطان. ما ضاعف من حدّة التوتّر واحتقان الأوضاع. كثّف من توطين اليهود في القدس، ومارس سياسة الإذلال والإهانة والقمع تجاه الفلسطينيين. وها هو يعيد واقعة النكبة بالإبادة الجماعية، والتهجير، والعقاب، والانتقام، والتطهير العرقي والديمغرافي. وما يقوم به نتنياهو حالياً ليس غريباً، بل هو تطوّر لمسار مضطرب ومليء بالعقد والأوهام والخرافات. وفي هذا السياق، يذكر الصحافي الإسرائيلي، أوري أفنيري، أن معظم زملاء نتنياهو يتهمونه بالكذب. وكلّما سوّى مشكلة أحدث مشكلتَين، وهذا راجع إلى محدودية تجربته، وغياب التبصّر السياسي وبُعد النظر لديه. مناوراته كلّها محسوبة للوصول إلى هدفه، فقد دمّر منطق (وأساس) مفاوضات السلام للإبقاء على المراقبة والتحكّم في الأراضي المحتلّة في غزّة والضفة الغربية والقدس، مع حرصه على عدم تحملّ المسؤولية في هذا كلّه. إسرائيل يقودها شخص يملك سلطة شبه ديكتاتورية تحيط به مجموعة صغيرة من المساعدين المافياويين، هدفهم أن يبقوا خالدين في السلطة، وملتصقين في الكراسي، مع ضمان انتخابهم. لقد استفاد من التضامن بين المجموعات العرقية، ومن مشاعر الانتماء العرقي والمعتقدات الدينية.
هل كانت هذه الفوضى ضرورية؟ وهل هذه الجبهات المشتعلة كلّها، والحرائق الزاحفة، والمجازر الوحشية، والمحرقات الهمجية، كان لا بدّ منها ليحقّق نتنياهو رغبته في إعادة تشكيل الشرق الأوسط؟
أسهم المناخ السياسي الأميركي في تغوّل وغرور نتنياهو، فتضخّم لديه جنون العظمة، وبات يرى في نفسه ملك ملوك إسرائيل
نستحضر هنا لحظة العجز المذهل للولايات المتحدة، فواشنطن هي الحليف الأقرب (والموثوق به) إلى إسرائيل، يمدّها بلا حدود ولا حرج أخلاقي بالأسلحة من مختلف الأنواع، جديدها أخيراً منظومة “ثاد”. وكان من المفروض أن يجعل هذا الموقع المتميّز لإسرائيل من الولايات المتحدة لاعباً دولياً قادراً على رسم الخطوط الحمراء وفرض احترامها وعدم تخطّيها. لكن ما يظهر أن المناخ السياسي الأميركي ساهم إلى حدّ بعيد في تغوّل نتنياهو وغروره، فتضخّم لديه جنون العظمة، وبات يرى في نفسه ملك ملوك إسرائيل. ومنذ انسحاب جو بايدن من سباق الرئاسيات، بدا أشبه ببطّة عرجاء لا تجدي نفعاً، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، كثّف زياراته إلى إسرائيل، وصلت أكثر من عشر زيارات، لكنّها لم تسفر عن أي شيء، لأن نتنياهو عرف كيف يلعب على حبل الانتخابات، وكيف يقطف الثمار من شتّى المعسكرات والمؤسّسات الأميركية، فاقتنع بأن بمقدوره أن يحرق المنطقة، ويضم ما يشاء من الأراضي، مستلهماً في غزواته العسكرية التوسّعية تراثَ مؤسّسي الصهيونية. علماً أن الإرهاب جزء من عقيدة هذه الحركة وأداتها الرئيسية في تحقيق أهدافها، فقد كتب تيودور هرتزل (أبو الصهيونية) في كتابه “دولة اليهود” “لنفترض أننا نريد أن نطهّر بلداً من الوحوش الضارية. طبعاً لن نحمل القوس والرمح ونذهب فرادى في أثر الدببة، كما كان الأسلوب في القرن الخامس عشر في أوروبا، بل سننظّم حملة صيد جماعية ضخمة ومجهّزة، ونطرد الحيوانات، ونرمي في وسطهم القنابل شديدة الانفجار”. هكذا تصوّر هرتزل بناء الدولة اليهودية بالسلاح والعنف الجماعي المنظّم وغير المبرّر أخلاقياً وقانونيناً. من بعده، قال منظّر الإرهاب الصهيوني، جابوتنسكي: “نستطيع أن نلغي كلّ شيء. القبّعات والأحزمة والألوان، وأن نفرط في الشراب والأغاني. أمّا السيف فلا يمكن إلغاؤه. عليكم أن تحتفظوا بالسيف، لأن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل. فالتوراة والسيف أُنزلا علينا من السماء”.
هكذا اعتنقت الصهيونية العنفَ، ويطبّقه اليوم غلاتها بكلّ قسوة في أرضي فلسطين ولبنان، حيث الاستهداف الممنهج للمدنيين العزّل في مذابحَ متوحّشة، أفظعها مجازر غزّة، لإرهاب الشعب الفلسطيني وإرغامه على ترك أرضه ووطنه. ما يعكس تصدّع المرجعية القانونية الدولية. ويؤكّد أن أميركا هي المتآمر المركزي في هذه الجرائم غير المسبوقة، إلى جانب الغياب المُرعب للنظام العربي، وانحطاط أخلاقي لا مثيل له في التاريخ، بسبب الصمت العالمي، بما في ذلك صمت الدول العربية والإسلامية، ما منح قواتَ الاحتلال تفويضاً رسمياً لتطبّق استراتيجية التدمير الشامل من دون ردع أو كبح، أو حتى إدانة أخلاقية لهذا الانحدار وهذا الانزياح المُخزي.
المصدر: العربي الجديد