في الريف قبل الكهرباء والتلفزيون؛ كان يجول في الريف صاغة الأسنان، والباعة المتجولون، ومشعوذون وعرافون، كما جال مرقصو القرود أو السعادين إلى الأرياف في مواسم الحصاد، يقوم مرقص السعادين برفقة واحد أو أكثر مقابل أجر باستعراض حركات دربها عليها بما يشبه السيرك، وقد وقرت صورته في أحاديث الناس في المجالس كشخص متلاعب لإظهاره حركات لا يدركها العامة، مع قدرته أن يلعب دور المهرج حتى صارت كناية مستقرة في سائر موروثنا الشعبي عموما.
ثمة شكل آخر في تراث مجتمعاتنا المحلية في مرحلة الإقطاع وهي الكتّاف، وهو واحد من ثلة مرافقين لمحصل إتاوات الفلاحين لخزينة الإقطاعي، يضربون الممتنع والعاجز وقد يعتدون على بيته وأهله، مع الزمن يصبح للكتاف أو معلمه الصغير جزء من هيبة معلمه؛ غير أنه لا يُمنح رئاسة ولا ثقة، ولا يرث أبناؤه قيمته الاجتماعية المفروضة خلافا لوضع الإقطاعي أو الشيخ القبلي، وللمتسائل عن العلاقة بينهما ومؤتمر بروكسل نجد أن فتحا مبهرا تم إنجازه حيث قامت قسد بإعادة إحياء التراث بحلة حداثية ديمقراطية استدعت استحضارنا لأيقونات شعبية تقاربها، حيث جمعت بين الكتاف – وهي التي تجثم على صدر السوريين في الجزيرة-، وبين مُلَعِّبِ السعادين -بضحكها على ذقون الجاهلين- بشخصية واحدة؛ مع إضافة فريدة أنها صدقت نفسها أن الكتاف يمكن أن يكون سيدا يتحلق حوله حراس وكهنة ومثقفون مصفقون وكتبة طبالون؛ السؤال المهم حول من كان يرقص، والرقص ذاته يندى له الجبين حيث الحلبة هي ساحة الدم السوري المهدور من ألفه إلى يائه.
في مؤتمر بروكسل تم تحشيد إعلامي هائل لتسويقه، وكأنه سيخرج الشعب السوري من أزمته، وثبت فشله في مستوى تسمية الكتل المشاركة؛ رغم وجود كتل على الورق وأخرى هلامية تشتغل بحسب الطلب؛ صرح بمشاركة أكثر من 40 منظمة لم يسمع الشارع السوري بأي منها، رغم إمكان قسد أن تدرج أسماءها كسائر المنظمات التي شكلتها ومولتها؛ باعتبارها تمتلك ثلثي نفط الدولة السورية، وتستثمره خارج ما يصلها من دعم أميركي.
ميليشيا حزب العمال الكردستاني وقسد ارتكبت جرائم حرب في مناطق سيطرتها وفقا لمنظمة “العفو الدولية” وأغفلها المشاركون الديمقراطيون، وحملت توجها راديكاليا ضد الكرد أنفسهم ومارست التجنيد القسري، خطف القاصرات وغفلت عنها عيون ناشطات النسوية، فشلت في إنجاح مؤتمر حوار كردي كردي، وتفتح سوقا للنخاسة باسم الديمقراطية. أنجزت بعد ثلاث سنوات من الجهد مؤتمرها الأخير لشرعنة وجودها السياسي وطرح نفسها كشريك في صراع القوى المختلفة.
ثمة جهد دولي دأب عبر سني الثورة على إفشال ثورتنا، والتنازع على الأرض السورية؛ يوازيه جهد محلي من قوى مرتبطة عضويا بالأسد أو بقوى دولية تبغي تمييع الثورة بمبادئها، وتصويرها كاختلاف على المصالح يمكن حله عبر جلوس الجميع وتشاركهم في المحاصصة بعيدا عن حق المظلومين في الانتصاف القانوني لهم، هذا الجهد يسير بتسويق من مثقفين في المهجر غالبا قدمت قسد لهم تمويل إنشاء منصات إعلامية كثيرة، وغير بعيد عنا ظهور بيان في أيلول وقع عليه أغلب الناشطين والمثقفين النزيهين بعنوان ” لا للكراهية.. نعم للتشارك والتضامن” ليخرج في صيغته الأخيرة حاملا اسمَي “إلهام أحمد و ألدار خليل”، والتي شاءت الأقدار أن تجعل كلا منهما مبتدئا بحرف الألف بما يعني إضافته وتنسيقه من قبل المجموعة التي أطلقته وانطلت الحيلة على الجميع.
لم تحقق ثورتنا أهدافها لظروف ذاتية وأخرى موضوعية تختص بالرؤى الدولية التي تريد لسوريا أن تكون شتاتا، وبدلا من محاولة إعادة تقييم أسباب التعثر ووسائل تجاوزه؛ صار حجة لتصدر البعض في جلدها للتسويق لصعودهم كحشد تصفيقي لقسد وتلفيقي باسم الديمقراطية، ففي تصريح قدمته الناشطة النسوية زوزان علوش “أنه تجمع ديمقراطي لأشخاص غير مرتبطين بدول الجوار وتركيا خصوصا -بما يعني قسد وشرعنتها- ويضم أناسا متفقين على القيم الديمقراطية، وضرورة احترام حقوق الإنسان والشرعة الدولية ومناهضة الاستبداد الديني والعسكري، -” مشيرة لقيمته في العلاقة مع الداخل إن بقسد المحتلة للجزيرة، أو الهيئة السياسية لحراك السويداء والتي سرعان ما أعلن حراك الشارع هناك رفضه لها.
ويشكل تصريح عضو اللجنة التحضيرية موفق نيربية تناقضا تبريريا لعمل لايختلف عن سردية قسد حول الثورة نفسها، حيث أفاد بأنه لتأسيس تجمع الديمقراطيين لم تأخذ دورها بسبب تغول القوى الإسلامية في مغالطة واضحة لا تعني مجرد موقف من فشل الائتلاف الذي كان عضوا فيه؛ وعند مواجهته في تلفزيون سوريا بأنه موظف لدى قسد – برنامج ما تبقى – لم ينفِ ما قاله محاوره، وتلك إشارة للمال السياسي الذي يمكن أن تستثمره قسد لصالح من يعمل وفقا لبرامجها، وقد رد المعارض السوري علي العبد الله ” ينطوي تصريح السيد نيربية على ثقافة تبريرية اعتمدتها قوى معارضة سوريا، اليسارية منها على وجه التحديد، قائمة على إلقاء اللوم على الإسلاميين، إن في تفسير فشل الثورة السورية، أو في ضعف أداء هذه القوى خلال مرحلة الثورة. وواقع الحال أن الديمقراطيين فشلوا قبل الثورة في مد جسور بينهم وبين الحاضنة الشعبية، وزادوا الطين بِلّه بعدم قدرتهم على تشكيل جسم سياسي وازن خلال الثورة ؛حيث كانت الصراعات بينهم حادة وفاجرة كما عرضها رموز من هذه القوى في الصحافة ومحطات التلفزيون”، وقد استند العبد الله إلى ما تحدث به د. خالد الخوجة رئيس الائتلاف الأسبق عن عوامل الفشل السياسي للائتلاف، ودور الأذرع الدولية التي لعبت فيه، وخصوصا الدور السعودي ما يوصل المستمع إلى تلمس أسباب الفشل بعيدا عن الأيديولوجيا التي يتبعها الأعضاء سواء كانوا إسلاميين أم ليبراليين.
إن مؤتمر بروكسل محاولة إطلاق منصة جديدة للعمل السياسي يقودها وجه سياسي لميليشيا مسلحة مصنفة بالإرهاب دوليا بما في ذلك الاتحاد الأوربي، ومتسلحة بوجودها على الأرض برعاية أميركية؛ لإضافتها لحزمة منصات موسكوا والقاهرة والرياض، وتذهب باتجاه التطبيع مع الأسد على مبدأ العمل على جمع سلطات الأمر الواقع وبوس اللحى والشوارب، ولولا أن المؤتمر تحت أنظار الغرب لتمت دعوة موفدين من هيئة تحرير الشام باعتبارها قوة أمر واقع، مع اعتبار لنقطة لايمكن تفويتها، وتشكل عقدة ضحايا اليسار الماركسي المتحول والقافز ببهلوانية بارعة بعد انهيار المنظومة الماركسية؛ من اعتبار أميركا والغرب إمبريالية يجب محاربتها؛ إلى اعتبارها منارة ليبرالية فانتقلوا بجرة قلم، وتناسوا كل النظريات السابقة مع احتفاظهم بالموقف العقدي من الدين؛ لدرجة قد تجمعهم مع شخصيات وكتل راديكالية تحت مسمى ديمقراطي، ورغم تبني المؤتمر شعار ديمقراطية الدولة وعلمانيتها؛ فقد تم إغفال مفاوضات قسد التي أجرتها مع هيئة تحرير الشام نفسها قبل عامين برعاية أميركية، وهو ما يثير تساؤلا حول الوعي السياسي الذي يحمله المشاركون في عدم تسويق أنفسهم لدى أميركا بدلا من الاندغام في ثلة أتباعها، إضافة لتمرير وتسويق اللامركزية التي يراد تكريسها كأمر واقع يراد به تقسيم سوريا بشكل واضح خصوصا مع ارتباط كل سلطة بجهة دولية مختلفة.
يتضح من جملة المشاركين خارج قسد وجود تمثيلات لعدة شخصيات تحت مسميات كالتنظيمات الشبابية والنسوية، ما يشير إلى معضلة التمثيل والظهور التي تعانيها تلك الشخصيات، وبحثها في كواليس المؤتمرات لأي مشاركة تزيينية لإظهار دورها، وإلى حجم الاشتغال على استثمار السوريين لتشتيتهم عبر منظمات مجتمع مدني استهلكت جهودهم وأطّرتهم بتمثيلات إجرائية لا تقيم وأدا، وبروز نزعة لدى بعض المنظمات النسوية للظهور في محاول إبراز ثقلها السياسي أو الثقافي؛ ما يشي بخوائها في القدرة على الفعل الحيوي في بيئاتها، إضافة لاشتراك مجموعة من مثقفين وباحثين أرخت لجماعات هلامية، قابلة للتلون، قادرة على الترقيع، وبروز ظاهرة المثقف المتلون والباحث عمن يعزف ليصير عازفا.
المصدر: تلفزيون سوريا
المثل الشعبي يمثل رؤية موضوعية لما تم في مؤتمر “المسار الديمقراطي السوري” في بروكسل “من يدفع للزمار ومن يرقص السعادين” هل المؤتمر محاولة لإطلاق منصة جديدة للعمل السياسي السوري المعرض يقودها وجه سياسي لسلطة أمر الواقع “مسد/قسد” النسخة السورية للـ PKK المصنفة منظمة إرهابية؟، هل الرعاية الأميركية لها تمنحها الشرعية؟.