القشّة السورية التي ستُنقذ الأسدَ الضعيف

عبير نصر

بخلاف التحليلات المتفائلة عن مهارته الفريدة في الرقص المتوازن على تناقضات القوى الدولية والإقليمية، فإنّ ظهور بشّار الأسد بين الفينة والأخرى في بهلوانيات سياسية لن تثمر عن شيء، وفي هذا التوقيت الساخن، الذي يؤسّس خرائطَ وتحالفاتٍ وموازينِ قوىً جديدةً، يبدو وكأنه متعمَّد، يُراد به إبراز تجاهله لما يحدث، ونأيه التام عنه. الأسد يدرك الخطر المُحدِق به جيّداً، لأنه خسر رفاهية الخيارات، كذلك أوراق اللعب في الوقت بدل الضائع، ليُفهم “حياده” رسالةً تسترضي إسرائيل التي أبقت عليه تحت شعار التخوّف من البديل، عندما لم ترَ في المعارضة السورية، بشقّيها العسكري والسياسي، بديلاً مقبولاً من نظامه، فاستمرّ الأخير في الحكم بداعي الضرورة. قد تفيد الإشارة في السياق السوري إلى ما يمكن تسميته بنموذج “الأسد الضعيف”، الذي حوّل سورية إلى المثال المعياري لما تريده إسرائيل تماماً لكلّ دول المنطقة: طاغية مجرم يحكم بلداً مقسّماً لا هُويَّة وطنية واضحة له. أجبرَ كثيراً من السوريين على تقبّل الرهيب المذهل الذي لا يُصدّق، والذي أصبح ممكناً وعادياً في ظلّ حكمه، وهو اعتبار إسرائيل منقذاً لهم، يهلّلون لعدوانها ويوزعون الحلوى، بصفتها أكثر إنسانية ورحمةً من حاكمهم المجرم (!)

ذهب باحثون إلى أن تقسيم سورية أمر واقع، فالأسد يريد الساحل السوري وحمص وحماة ودمشق، فيما بقية البلاد تحت سيطرة المعارضة والمتطرّفين

إلى ذلك، يبدو أنّ الثورة السورية لم تكن مُجرَّد حرب أهلية، طارئة ومارقة، كما يطيب لبعضهم تسميتها، بل تداخلت فيها مصالح العالم بأسره، في سياق مشروع “الفوضى الخلاقة”، الذي تحدّثت عنه وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، لتُفتح بوابة “الشرق الأوسط الجديد” أخيراً. الجليّ أنّ رياح التغيير ستعصف بسورية “الصامتة” قبل حدوث توافقات بين فواعل الحدث السوري واستعادة فكرة الدولة والهُويَّة الوطنية، لتغدو “الفدرالية” مقولةً مُتحقّقَةً، تندرج ضمن مصفوفة (تفتيت المُفتّت وتجزئة المُجزّأ). والتي بدأت بوادرها تظهر مذ صرّح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف عام 2016، فقال: “تأمل موسكو أن يتوصّل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية”. عزّزه تصريح وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، أمام الكونغرس: “ربّما فات الوقت لإبقاء سورية موحّدة”، ما يؤكّد أنّ فكرة “فدرلة سورية” موجودة منذ سنوات ويعمل لها في الأقبية المظلمة، ويبدو أنّ مثل هذه التصريحات لم تكن سوى “جسّ نبض” لإنقاذ بشّار الأسد، بمعنى من المعاني، وقد بات منحصر الشعبية، يكاد لا يخرج من بيئته الحاضنة إلا بقدرٍ ضئيل للغاية.
على التوازي، يذهب باحثون إلى القول إن تقسيم سورية أصبح أمراً واقعاً، فنظام الأسد يريد الساحل السوري ومدينتي حمص وحماة، والعاصمة دمشق، فيما باتت بقية أشلاء البلاد تحت سيطرة المعارضة والمتطرّفين. وبقليل من التأمّل تبدو رؤيتهم “السوداوية” منسجمةً مع خريطة “الشرق الأوسط الجديد”، التي رفعها رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، خلال خطابه في الدورة الـ98 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تحمل أبعاداً رمزيةً وجيوسياسيةً معقَّدةً. إذ لا مؤشّرات حقيقية على انسحاب القوى الأجنبية من الأرض السورية، بالتالي سيبقى تقسيم البلاد قائماً، وكلٌّ سعيدٌ بما لديه. إذاً هناك غرف عمليات استشراقية، لها سماسرتها ومحترفوها، ترسم سيناريوهات مشوّهة لا تقع في فضاء توقّعات السوريين على الإطلاق، من بينها سيناريو “الفيدرالية”، ورغم أن الفيدرالية منتج غربيٌّ يراد “فرضه” بالقوة، إلا أنها تبدو متناغمةً بشدّةٍ مع دولة هشّة أساساً، تعاني واقعاً انقسامياً نشطاً، متجسّداً بصورة الكيانات القائمة بحكم الأمر الواقع.
بيد أنّ خطورة اللحظة التاريخية التي يعيشها نتنياهو اليوم، والتي قد لا تتكرّر، ليس شأناً يُستخفّ به، وربّما ستدفعه إلى الذهاب لما هو أبعد من المعقول والمسموح، نتيجة اعتبارات شخصية يمحو فيها عار السابع من أكتوبر (2023)، فيستعيد صورة “سيّد الأمن” الذي سيخلّده التاريخ. في المقابل، ما يجري كلّه من تغيرات وتفاعلات في الجِوار، لا يُعطي مؤشّرات يقينية لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في سورية في المدى المنظور، فهناك سيولة كبيرة في الأحداث العنفيّة ومصالح متباينة. وفي جذر ما تقدّم ذكره فإن مُخرجات الحرب على غزّة ولبنان، وإجهاد البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقيمية، وتعدّد خرائط النفوذ في سورية، أيضاً قرار مجلس الأمن 2254 (دعا إلى تشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات برعاية أممية)، قد تفرض جميعها فكرة “الفيدرالية” حلّاً نهائياً للأزمة السورية المُستعصِية.
ومثلما تقدّم، يمكن المجادلة ببساطة حول إجرام بشّار الأسد سورياً أو حياده “المُشين” عربياً، لكنّ المؤسف اكتشافه هنا أنّ الحدث السوري أمكن اختطافه بسهولة في ظلّ “حكم الأبد”، ليذوب في دوامة التفاعلات والديناميات التي تغيّرت تغيّراً متسارعاً بعد تهديد الساسة الإسرائيليين بسلخ وجه الشرق الأوسط، وبعد يوم على بدء عملية طوفان الأقصى، التي هزّت جميع المسلّمات المستقرّة عندما زعزعت وجود إسرائيل دولةً في حدّ ذاتها، فسارعت الأخيرة إثر ذلك إلى إعادة تشكيل وعي المنطقة وثقافتها بما يسمح بدمج كيانها الهجين، ودون أيّ تغيير في سياساتها تجاه الفلسطينيين. غير أنّ حالة “الأسد الضعيف” أصبحت مشكلةً حقيقيةً حتّى بالنسبة للإسرائيليين، فحساباتهم المعقّدة مع إيران التي ترفض الفدرلة بشكل مطلق خشيةً من انتقال العدوى إلى أراضيها، باتت تصدّع رؤوسهم. وباللجوء إلى منهجيات الضرورة السياسية فإنّ إسرائيل، التي وقفت ضدّ الإطاحة بالأسد، وضدّ انتصاره في آن، ستقرّر إبقاء الأخير، أقلّه في الوقت الراهن، لأنه سيستحيل عليه لمّ الشمل السوري، وسيبقى البلد مضطرباً على نحو دائم، ريثما تجد بذرة الفدرالية ميداناً خصباً، وهذا هو المطلوب تماماً.

تعدّد خرائط النفوذ في سورية، وقرار مجلس الأمن 2254، إلى جانب مشاريع للمنطقة، قد تفرض “الفيدرالية” حلّاً نهائياً للأزمة السورية 

إذاً، لم يكن “طوفان الأقصى” سوى شرارة بداية مشروع الشرق الأوسط ذي البهارات الإسرائيلية، لأنّ غزّة ولبنان وسورية، وحتّى العراق كتلةً واحدةً لارتباطها بالمشروع الفارسي، وهي مُجرّد تفاصيل في المشروع الكبير الذي سيطاول إيران، وربّما تركيا نفسها. بدأت إسرائيل ترسم معالم المنطقة منذ عقود، من خلال رعايتها لاتفاقات عديدة بينها وبين العرب تحت مسمّيات معاهدات “سلام”، ولاحقاً اتفاقيات “تطبيع”، والغاية المبيّتة إنهاء هيمنة النظامين الإيراني والتركي، بعد شلّ أذرعهما في المنطقة. ولاحقاً، تقسيم الدول إلى فيدرالياتٍ وأقاليمَ شبه مستقلّة. عندها فقط، ستظهر ملامح “الشرق الجديد” أكثر وضوحاً وواقعية.
يرى متابعون أنّ إسرائيل باتت اليوم أقرب إلى تحقيق حلمها من أيّ وقت مضى مع بداية تصفية “محور المقاومة”، وبهذه الوحشية المريبة. ذلك كلّه لاختبار حدود ما هو ممكن ومتاح أثناء لهاث إسرائيل لقضم المنطقة، وإلى أيّ مدى يمكن دفع العرب نحو ما تريده من دون تصعيدٍ ملموس منهم.
العالم يغلي، وبشّار الأسد يجلس على الحياد. يترقّب وسط تساؤلاته الملتهبة إنْ كان سيحافظ على محور “التنسيق” نفسه، مستبدلاً بـ”مملكة الصمت” فيدرالية “سورية المفيدة”، وكأنّ شيئاً لم يكن، أو أنّ نظامه سيدخل مرحلة التغييرات الجذرية الكبرى. فعلياً لا يستلزم الأمر كثيراً من التفكير حول نجاعة هذين الخيارين، وأحلاهما مرّ بالنسبة للأسد، الذي لا يستطيع إمساك العصا من المنتصف لاسترضاء الأطراف المتناحرة جميعها. ما هو واضح تماماً أنّ سورية مدرجةٌ في الخريطة الجديدة أولوية ملحّة، فما قاله وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش عام 2016، لن يمرّ مرور الكرام: “أريد دولةً يهودية تشمل الأردن وأراضي من مصر ولبنان والسعودية والعراق. مكتوبٌ في كتب الحكماء أنّ قدر القدس أن تمتدّ إلى دمشق”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى