أعلنت الهيئة العليا للانتخابات بتونس النتائج الأولية الرسمية لرئاسيات تونس 2024، وأخبرت بفوز المترشح قيس سعيد بعهدة رئاسية ثانية لخمس سنوات، وذلك باعتبار حصوله على مليونين و389 ألفاً و954 صوتاً من أصل مليونين و808 آلاف و545 مواطناً شاركوا في الانتخابات. وهو ما منحه نسبة 90.69% من الأصوات المودعة في صناديق الاقتراع. وحاز المرشح العياشي زمال، النائب السابق في البرلمان، ورئيس حركة “عازمون” على 7.35%. فيما تحصّل زهير المغزاوي، الأمين العام لحركة الشعب القومية الناصرية على 1.97% فقط من أصوات الناخبين. وأشارت هيئة الانتخابات إلى أن نسبة المشاركة في رئاسيات 2024، لم تتجاوز حدود 28.8% من مجموع مَن يحقّ لهم الاقتراع، وهي الأدنى في تاريخ انتخابات الرئاسة في تونس منذ ثورة 2011. وكان لافتاً أنّ 6% فقط من الشباب أدلوا بأصواتهم في الاستحقاق الانتخابي. وتحمل هذه المؤشّرات طيّها خلفيات عدّة، ودلالات جمّة، ورسائل شتّى. لذلك نقف في مقام أوّل عند خلفيات ودلالات فوز سعيّد بنسبة عالية ومحدودية التصويت لمنافسيْه. ونهتمّ في مقام ثان بأسباب اتساع دائرة المقاطعين للانتخابات الرئاسية الأخيرة، ورسائل الشباب العازف عن المشاركة في المعترك الانتخابي.
كان متوقّعاً فوز قيس سعيّد بعهدة رئاسية ثانية، وهو استحقاقٌ عمل عليه منذ زمن، وتأكّد ذلك بعد حركة 25 يوليو (2021)، وعبّر سعيّد في أكثر من مناسبة، بالتلميح أو التصريح، عن نيّته خوض غمار رئاسيات 2024 التي عدّها معركة “بقاء أو فناء” لمشروعه السياسي/ القاعدي، وأخبر بعدم استعداده تسليم الحكم لمن اعتبرهم “غير وطنيين”. ويمكن تفسير تجديد طيْف معتبر من الناخبين الثقة في سعيّد بعدّة أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، فالثابت أنّ الرجل كان وفيّاً للروزنامة الانتخابية التي أعلنها في ظلّ حكم التدابير الاستثنائية، وكثّف خلال السنة الانتخابية من زياراته الفجائية للأحياء الشعبية والمناطق الطرفية، وتبنّى خطاب نقد المنظومة الحاكمة من داخلها، ناقداً تقصيرها في تأمين خدمات القرْب للمواطن، خصوصاً ما تعلّق بتوفير الماء، والكهرباء، والمواد الغذائية الأساسية، والخدمات الإدارية، معلناً الحرب على لوبيات الفساد والاحتكار، فبدا قريباً من الناس، متفاعلاً مع مشاغلهم اليومية. وهو ما عزّز مكانته في قلوب كثيرين يعتبرونه “ولد الشعب”، و”نظيف اليد”، ونصيرهم ضد سطوة الإدارة والسياسات البيروقراطية القديمة. كما وعد الناس باسترجاع الأموال المنهوبة، وتطوير الشركات الأهلية، وتفعيل الصلح الجزائي، وإصلاح التعليم، وتحسين الأوضاع المعيشية للناس، وتمكين الشباب، وأصحاب الشهادات العليا، وإحداث مشاريع خدمية وطبية كبرى، وهي وعود تعلّقت بها القلوب. وركّز في خطابه الاتصالي خلال مدّته الرئاسية الأولى على إعلاء مسألة السيادة الوطنية، والدفاع عن القضية الفلسطينية، وتجذير الانتماء إلى الهوية العربية، والقول بوجود خطر داهم، يتهدّد وحدة البلاد، واغتنم، بحسب مراقبين، جلّ فرص ظهوره الإعلامي والجماهيري ليخوض حملة رئاسية معلنة أو غير معلنة ضدّ خصومه الذين حمّلهم مسؤولية أزمات البلاد المتفاقمة، ونعتهم بالعمالة، والخيانة، والاستقواء بالخارج، والتآمر على الدولة وعلى تجربته في قيادة البلاد. ومن ثمّة، دفع هذا الخطاب الشعبوي المؤسس للاستقطاب الثنائي، وعلى سردية الوعد الناعم، والخطر الداهم، ورفض التدخل الخارجي، الناس إلى التصويت لسعيّد، طلباً للاستقرار، وعلى أمل تحويل الوعد إلى إنجاز.
تراجع الخزّان الانتخابي لسعيّد بنحو أربعمائة ألف صوت مقارنة برئاسيات 2019، وتقلّصت شعبيته نسبيّاً في محافظات ساحلية، مثل سوسة، والمنستير، ونابل
ورغم صعوبة الوضع الاقتصادي، وتدهور المقدرة الشرائية، وانحسار هامش الحرّيات العامّة والخاصّة بحسب مراقبين، وتراجع الخزّان الانتخابي لسعيّد بنحو أربعمائة ألف صوت مقارنة برئاسيات 2019، وتقلّص شعبيته نسبيّاً في محافظات ساحلية، مثل سوسة، والمنستير، ونابل، فإنّه حافظ على قاعدته الانتخابية الوازنة في القيروان، والقصرين، وسيدي بوزيد، وتطاوين وغيرها. وصوّت للرجل متحزّبون وغير متحزّبين، ومحافظون وغير محافظين. وخيّر جلّ المقترعين الاستمرارية مع سعيّد، ورأوا منحه فرصة زمنية جديدة لاختبار مدى قدرته على تحويل الحلم إلى واقع، والانتقال بالبلاد من الموجود إلى المنشود. أمّا من الناحية الموضوعية، فوجد قيس سعيّد الطريق سالكاً إلى قصر قرطاج، في ظلّ اعتقال وجوه معارضة بارزة، ومنع ترشّحهم من داخل السجن، ورفض هيئة الانتخابات تنفيذ قرار المحكمة الإدارية بإرجاع ثلاثة آخرين إلى السباق الرئاسي، فلم يجد نفسه في مواجهة منافسين يحظون بعمق شعبي واسع، أو تقف خلفهم ماكينة حزبية كبرى. يضاف إلى ذلك إسناد سعيّد بتنسيقيات مناصرة له، وانخراط بعض وسائل الإعلام العمومية والخاصّة في ترويج مشروعه السياسي مقابل تهميش ممثّلي الأحزاب المعارضة، فكلّ تلك العوامل ساهمت، ولو بشكل متفاوت، في صعود سعيّد ثانية إلى كرسي قصر قرطاج.
في المقابل، لم يتجاوز التصويت لصالح العياشي زمّال سقف 8% من أصوات الناخبين، لأسبابٍ من بينها أنّه خاض حملته الانتخابية من داخل السجن على خلفية ما نُسب إليه من شبهات تزوير، فتحوّلت تجربة خوضه غمار الرئاسيات من استحقاق سياسي إلى ملفّ قضائي. ولم تتح له فرصة مخاطبة الناس بشكل وجاهي مباشر أو عبْر وسائل الإعلام العمومية، فيما اكتفى أعضاء حملته بالدعاية له عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ووسائل إعلام خاصّة، ومن خلال ندوات صحافية محدودة. ولم يقوموا بأنشطة ميدانية وجاهية مكثفة للتعريف بهويته السياسية والبرامجية. وحاول أعضاء حملة زمّال استقطاب جمهور الأحزاب المعارضة، والوعد بالقطع مع مخرجات منظومة 25 يوليو (2021) في حال وصوله إلى الحكم، لكنّ تلك المحاولة فشلت، فقد قاطعت جلّ الأحزاب الوازنة الاستحقاق الرئاسي، ولم يدعُ سوى حزب “ائتلاف الكرامة”، وهو حزب محافظ، ذو شعبية محدودة إلى التصويت لفائدة الزمّال. فصبّت المقاطعة الحزبية في خدمة سعيّد بشكل مباشر أو غير مباشر. فيما صوّت لرئيس حركة عازمون منتمون إلى الأنتلجنسيا التونسية، والبورجوازية الصغيرة، وجامعيون، ورجال أعمال ومتعاطفون مع شعار المظلومية الذي رفعه أنصاره. ويبدو أنّ إحجام كثيرين عن انتخابه راجع إلى أنّه شخصية سياسية مغمورة، وليست له سوابق نضالية ضدّ الدولة القامعة، ويخشى بعضهم من انتخاب شخص لا يعرفونه، ولسان حالهم يقول: “رئيس تعرفه خير من رئيس لا تعرفه”.
أمّا زهير المغزاوي، فلم تتجاوز نسبة المصوّتين لصالحه 2% من المقترعين، ودلّ ذلك على محدودية شعبية حركة الشعب في الشارع التونسي. ويبدو أنّ نفور الناخبين عن المغزاوي راجع إلى عدم انسجام خطابه في علاقة بالمنظومة الحاكمة. فالرجل من بيْن الوجوه البارزة التي مهّدت لحركة 25/07/2021 وأيّدت مخرجاتها. فقد ابتدعت حركة الشعب فكرة حكومة الرئيس، ودعت إلى تفعيل الفصل الـ80 من دستور 2014، وباركت صدور الأمر الرئاسي عدد 117، وشاركت في الاستفتاء على الدستور الجديد، وحافظ المغزاوي على صورة الموالي لقيس سعيّد طيلة ثلاث سنوات تقريباً، لكن مع تنظيم الرئاسيات، تحوّل فجأة إلى معارض راديكالي لقيس سعيّد، وهو تحوّل لم يسلّم بصدقيته جلّ الناخبين، واعتبره بعضهم انتهازية سياسية، وردّة فعل على عدم قبول سعيّد بفكرة تشكيل حكومة سياسية، وعدم إشراكه الحركة في إدارة تجربة الحكم.
يفترض بعد رئاسيات 6 أكتوبر أن تمارس مكوّنات الاجتماع السياسي الحاكمة والمعارضة نقدها الذاتي وتراجع حساباتها الخاطئة
أمّا الجمهور المقاطع والعازف، فيمثل حوالي 71% من القاعدة الانتخابية، أي زهاء سبعة ملايين مواطن، يحقّ لهم الانتخاب. لكنّهم رفضوا ممارسة ذلك الحق الدستوري. وفعل المقاطعون ذلك لاعتقاد بعضهم بأن مسار 25/07/2021 انقلاباً، أو لاعتبارهم المسار الانتخابي شابته خروقات عدّة، من بينها انتهاك الحق في الترشح، وعدم تطبيق أحكام المحكمة الإدارية، أو لعدم قناعتهم بالهوية السياسية والبرامجية للمتسابقين الثلاثة على كرسي قصر قرطاج، ويرون أنّهم لا يستجيبون لتطلّعاتهم. فيما يبدو جلّ العازفين عن التصويت من الشباب. فلم يشارك في العملية الانتخابية سوى 6% من هذه الشريحة العمرية. وهو موقف احتجاجي صامت من أغلبية شبابية مهمّشة، يعتريها الإحباط من الطبقة السياسية عموماً ومنظومة 25/07/2021.
فقد ظلّ جلّ الشباب قبل الثورة وبعدها خارج دوائر اتخاذ القرار، لذلك اختاروا البقاء خارج الصندوق، لإحساسهم باللاجدوى وانسداد الأفق. وفي ظلّ عدم تمكين هذه الفئة، فإنّها تبقى خزّاناً احتجاجياً كامناً لا محالة.
ختاماً، يفترض بعد رئاسيات 6 أكتوبر أن تمارس مكوّنات الاجتماع السياسي الحاكمة والمعارضة نقدها الذاتي، وتراجع حساباتها الخاطئة، وتنتقل من التنافي إلى التحاور، ومن الإقصاء والإقصاء المضادّ إلى مصالحة شاملة قوامها التسليم بحق الاختلاف، والعيش المشترك، من أجل بناء تونس جديدة.
قراءة موضوعية لنتائج الإنتخابات الرئاسية في تونس، بالرغم من توقعات الجميع بنجاح قيس سعيد وبالدورة الأولى وبمعدل عالٍ، كأي إنتخابات ضمن الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، ولكن كانت هناك مؤشرات موضوعية. ظلّ جلّ الشباب خارج دوائر اتخاذ القرار، مقاطعة جماهيرية بحدود 71% من القاعدة الانتخابية.