كتب الباحث أحمد برقاوي ” الكوميديا السوداء المحزنة أن يلجأ اللبنانيون إلى مدينة القصير التي هجر حزب الله أهلها الذين يعيش أكثرهم في خيام لبنان”.
بداية لابد من تجاوز خطأ يحمله الكثير باعتبار الأسد رئيس دولة مستقل؛ يبحث عن موازنة بين مصالحه أو مصالح الدولة التي يرأسها في وسط دولي متناقض، حيث أن لدى نظامه مواطن قوة وظيفية يضطلع بها أولها حمايته لحدود الكيان الصهيوني، وانتظامه كأداة لمشروع فارسي يستهدف ضرب المنطقة وإعادتها إلى الوراء وهو ما يتفق مع رؤية غربية شرط عدم تقدم ذاك المشروع لدرجة تنازعها؛ وتلك سمة تتميز بها إيران ويقدرها الغرب جيدا حيث استطاعت أن تمزق العرب طائفيا، وتنجح فيما عجز عنه الكيان طيلة 70 عاما ونيف، وعليه فإن الأسد لديه التشابك مع كل المصالح التي تتناهب سوريا، ويلعب على اختلاف المصالح بين مشروع غربي ومشروع فارسي يتقاسمان المنطقة العربية، رغم اتفاقهما جذريا واختلافهما في المحاصصة، إذ لم يكن رئيسا بل وكيلا وظيفيا لعدة مشاريع دولية مهما كان اختلافها؛ ودليل ذلك حرص المنظومة الدولية على الإبقاء عليه عبر طرح الحل السياسي عندما وصلت قوى الثورة على حدود دمشق وفي قلبها عام 2013م؛ خلافا لليمن ومصر وتونس وليبيا؛ الحل السياسي الذي كان يعني إسقاط النظام على وسادة هادئة حفاظا على مؤسسات الدولة والشعب في الظاهر؛ في حين كانت الغاية الحقيقية تحقيق المزيد من تفتيت بنى المجتمع السوري وتشظيته والإمعان في احترابه؛ وإشعال المنطقة برمتها كما صرح الأسد نفسه ذات يوم؛ لإكمال ما أوكل به لتكريس شرق أوسط جديد؛ أو إعادته إلى سايكس بيكو آخر مبنية على أسس أكثر تناقضا.
إن التنوع الطائفي الداخلي في سوريا لم يُستَنفد بعد في إضماره تواشجا وتشاركا لبناء الدولة السورية؛ شرط تحييد الأسد والديناميات التي أفرزها نظامه، ولأنه لابد من الإمعان في التمزيق كان لابد من حرف هذا التنوع عبر تأطير الطائفة المحلي وغير الخارج عن السقف السوري؛ في أيديولوجيا مذهبية تحمل مشروعا أعم وأكبر عبر طرح منهج افتراق أكثر اشتعالا؛ مبني على حوامل طائفية عابرة للحدود عبر شيعة أفغانستان وإيران ولبنان وجلبهم لذبح السوريين في الثورة، أما محاولات إسرائيل وأمريكا لضرب نقاط محددة في سوريا والعراق ضد مليشيات مرتبطة بإيران فهي منع تشكيل كاريدور إيراني يصل إلى حدود إسرائيل ويلعب في توازنات القوى، ولا مانع من نشره كسكين تشق العرب أو السوريين فيما بينهم بعيدا عنها.
في حرب إسرائيل على الجنوب اللبناني ومواقع حزب اللات، والهجمات الإرهابية الإسرائيلية على إرهاب الحزب؛ سقط الكثير من المدنيين أطفالا ونساء خارج المواقع العسكرية التابعة له، والسوريون الذين يعيشون التهجير ومعضلاته لن يغيب عنهم التآزر مع أولئك المدنيين الذين أصبحوا هوامش في غمرة صراع القوى؛ مع الفصل الواضح بين أولئك المدنيين العزل وبين مقاتلي الحزب، لكن تقفي أثر النزوح والهجرة التي يعشيها أبناء الجنوب من حزب الله وحاضنته؛ يضعنا في صورة جديدة حيث تراكمت على الحدود السورية بدلا من أن تكون نحو شمال لبنان؛ في حركة تثير التساؤل وكأن مشروعا آخر تخفيه الأحداث، حيث صرح مدير الدفاع المدني بحمص في صحيفة الوطن السورية بوجود خمسة مراكز إيواء تتسع ل 40 ألف شخص وتسعة أخرى تتسع ل 25 ألفا، في حين أن مهجري حمص يعيشون في المخيمات شمالا وجنوبا، كما أن حركة النزوح تتركز نحو دمشق وريفها والقلمون وحمص وريفها بما في ذلك القصير التي سبق وأن تم تهجير أهلها على يد مقاتلي حزب اللات، والقلمون هي الأخرى تم تهجير الكثير من أهلها حتى وصل الأمر لممارسة القوة من قبل تجار المخدرات المرتبطين بالفرقة الرابعة والحزب لشراء أراضي عرسال على الحدود اللبنانية وتجريفها لبناء مصالح تجارية خاصة محمية ومسورة تحت ملكية ما اصطلحت الصحف اللبنانية تسميته بلقب – ملك الكبتاغون-، أما مدينة حمص التي عانت التهجير والتجريف لكثير من أحيائها فقد نشر مركز حرمون للدراسات تقارير تفيد بعمل دؤوب يمارسه النظام لتغيير مخطط المدينة التنظيمي، كما أشارت تقارير أخرى لمراكز بحثية محكمة أن حمص مهددة بمخطط جديد تحت مسمى مشروع حمص الكبير، كما نشر المركز السوري للإعلام وحرية التعبير تقريرا مفصلا أعده معهد سوريا من واشنطن تحت عنوان” لاعودة إلى حمص” كشف فيه خطة النظام في اللعب بالهندسة الديموغرافية لمدينة حمص القديمة وتغيير الصفة التنظيمية لكثير من أحياء المدينة والتي بلغ عدد المهجر منها 13 حيا.
إضافة لتهجير القصير التي اعتبرت منطقة عسكرية خاضعة لنفوذ مليشيات حزب اللات؛ لدرجة أن من اجتهد من أهلها المنفيين إلى مخيمات عرسال بلبنان، وحصلوا عبر علاقات مع النظام على إذن لإصلاح بيوتهم التي تم تعفيشها؛ تفاجؤوا بإحراق بيوتهم المتعمد من قبل المليشيات وفقا لتقرير الرابطة السورية لكرامة المواطن عام 2020م.
أما مخيم اليرموك في دمشق فقد حرص النظام وعبر خطة ممنهجة على تدميره وتهجير أهله، كما استكمل خطته بطرح ضرورة جلب وثائق الملكية بتاريخ محدد قبل عامين، وتغيير المخطط التنظيمي، وطرح مشروع تحويله الحي إلى مشروع إسكان ومجمعات تجارية تضيع فيه حقوق الملاك عبر تحويل ملكيات من أثبت وثائق ملكيته من غير المطلوبين للنظام؛ إلى أسهم في شقق سكنية وملحقات تجارية تضيع هويتها وتنسف هوية الوجود الفلسطيني في دمشق.
في دمشق أيضا تقع داريا ومضايا تحت وطأة عمل منظم من قبل تجار مرتبطين بالنظام للبيع والشراء مثلما كشفت مراكز دراسات عن حرب العقارات التي يخوضها النظام سعيا لامتلاك أكبر قدر من الرصيد المالي والذي لو سقط النظام سيبقى واجهة اقتصادية لنشطاء من تجار الحرب والمليشيات وأذرع إيران.
من هنا يحق لنا التساؤل لماذا كانت هجرة أنصار الحزب إلى المدن التي هجروا أهلها وليس إلى المدن التي كانت حاضنة للأسد من بيئته؟ لابد من التنبه إلى حرص يبديه النظام على تجنيب قواعد الطائفة غير الملتزمة بنهجه؛ الصدام مع مؤيدي الحزب؛ لأن العلويين قبل الثورة عاينوا حالة التشييع الإيراني ووقفوا ضدها، مايحيل إلى ضرورة إشغالهم مناطق لا تقع في حد التناقض بين الطرفين.
قد يقول قائل إن سوريا تتضمن طوائف متعددة ولن يؤثر وجود شيعة لبنان من أتباع الحزب على التوزع الديمغرافي، أو الهندسة السكانية وتوازناتها؛ لكن الخطر الأهم هو أنه حتى الطائفة العلوية التي ينتمي لها النظام واستثمر فيها وورطها؛ يمكنها بعد إزاحة الأسد أن تشارك في حل سوري منصف مستقبلا؛ ولا يمكن لأحد أن ينكر سوريتها بعيدا عن كل المجرمين الذين ولغوا في الدم السوري، لكن وجود كتلة شيعية تؤمن بولاية الفقيه مهاجرة من لبنان قد يعطي مجالا لفعاليات اجتماعية متنفذة من مجرمي الحرب من صفوف النظام من الطائفة؛ تسعى لحماية نفسها على حساب الطائفة من جهة، وفعاليات حزبية من منتسبي حزب اللات أن يضعوا العصي في عجلات الحل السوري المرتقب، وإدخال سوريا في مرحلة تشكيلات الطائفية السياسية كنسخة جديدة من لبنان، إضافة لتمتع الكتلة المهاجرة بثلاث نقاط حيوية للعب في محيطها وهي المال، والعقيدة الخاصة -وهي ليست الشيعة عموما- والارتباط بإيران، عبر رصيد تواصل وتشابك مع الحزب ومقاتليه وسياسته الاقتصادية في تجارة المخدرات وحملها رصيدا ماليا سواء من أنشطة الحزب الخارجة عن القانون أو من التمويل الإيراني.