في رواية الجندي الأمريكي فارناردو سمبسون الذي خاض الحرب الفيتنامية عام 1966 يسرد ما جرى معه في تلك الحرب .
” كنت أبلغ من العمر 19 عاما حين ذهبت إلى فيتنام بصفة جندي رام متخصص من الفئة الرابعة. لقد دربت لكي أقتل . ولكن قتل إنسان بالفعل أمر یختلف عن عالم التدریب ومجردالضغط على الزناد. لم أكن أعرف أنني سأقوم بهذا الفعل . كنت أعلم أنه سيكون هناك نساء وأطفال ولكنني لم أكن أعلم أنني سأقوم بقتلهم حتى حدث ما حدث . لم أكن أعلم أنني سأقتل أي أحد . لم أكن أرید أن أقتل أي أحد. لم أربّى لكي أقتل. كانت تركض بموازاة صف من الشجر تحمل شيئا , لم اكن أدري إذا كان سلاحا أو شيئا آخر. كنت أعرف أنها امرأة، ولم أكن أرید أن أطلق النار على امرأة، ولكنني أمرت بأن أفعل؛ ففعلت . عندما قلبتها وجدت أنها كانت تحمل طفلا . لقد أطلقت عليها النار نحو أربع مرات واخترقتها الرصاصات وقتلت ابنها . وقلبتها ورأیت أن نصف وجه الطفل قد اختفى . ارتعبت . لقد دربت وبرمجت لكي أقتل ، وها قد بدأت بالقتل ” .
هذه الحادثة تلقي الضوء على طبيعة الصراع الدامي في الحروب . وتؤكد ما قاله فولتير ” إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل ، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع ” .
تلك هي الحروب مهما كانت طبيعتها داخلية أم خارجية ، تفرض نزاعاً يقوم على إنهاء الآخر وتحطيمه بكل الوسائل , ولو أدى ذلك الى إفناء الانسان وتدمير كل شيء . وتلعب التوازنات وكتلة المصالح التي كثيراً ما تتكئ على أرضية الأيديولوجيات المختلفة دورها في امتداد النزاع بين أطرافه ودفعه الى حالة من الاستعصاء العسكري والسياسي . وكثيراً ما تستثمره الأطراف الإقليمية والدولية بمصالحها المتعددة , وتسعى إلى تأجيجه لفرض أجنداتها الخاصة ولو على حساب الإنسان وحقوقه الطبيعية , وارتكاب الفظائع بحقه .
وإذا كانت الحرب صراع بين جانبين بمصالح وأهداف ورهانات مختلفة أو إدراك مختلف لها بين طرفيها . فإن معيار كل طرف في الحرب دائما : لا نريد الخسارة أبداً , أو نريد الفوز بأي ثمن , أو كلتا الحالتين معا .
ومع امتداد زمن الحرب تتضخم الآثار المولدة لها ، ويختلف الأمر فيما إذا كان العدو خارجي ، أو إذا كانت الحرب داخلية ، إذ تقود الحرب الداخلية المسلحة إلى كوارث أشد من الحرب على العدو الخارجي ، فبينما نتائج الحرب مع العدو الخارجي تقود إلى التدمير ، وإضعاف القوى العسكرية وهزيمتها بما يفرض شروط المنتصر ، وقد تؤدي إلى فرض أحتلال المنتصر للدولة المهزومة .. ولكن الاحتلال يبقى وفق منطق التاريخ وتجاربه مؤقتاً مهما أمتد الزمن ، لكن الحروب الداخلية تتجاوز في خطورتها وأخطارها العميقة الحروب بين عدو وٱخر ، وتؤدي إلى إنهيار الدول وتقسيم شعوبها ، وتتبدى خطورتها ضمن هذا السياق في انهيار مؤسسات الدولة وانقسامها , وتآكل المجتمع المدني وتشتته ، وبروز النزعات المناطقية والعشائرية والإثنية والطائفية , وتفكك السلطات التقليدية والقضائية وعدم احترامها , ونشوب أزمات إنسانية خطيرة على مستوى الخدمات والبنى التحتية والصحة والتعليم .. والنزوح والتهجير العشوائي والطرد القسري لأعداد هائلة من السكان , واستعمال العنف ضد المدنيين والإعلاميين وراصدي التعدي على حقوق البشر , وفقدان الاحترام للقانون المحلي والمعايير الدولية , وظهور جماعات مسلحة متنافسة ومتصارعة فيما بينها على حساب العدو الرئيسي المفترض مواجهته ، في تجاوز فاضح لمعيار الأولويات للصراع في مواجهتها للسلطة المتصارعة معها , وما ينتجه هذا الصراع من قتل ومجازر تفتك بالبشر , وانتشار ثقافة الخوف والرعب ، وإهدار لكل المعايير والقيم والحقوق .
تلك هي حال الحروب العسكرية الداخلية أو الخارجية ، والحروب دائماً امتداد للسياسة لكن بوسائل العنف والقتل والتدمير ، لفرض شروط وتنازلات على الطرف الضعيف أو الخاسر لصالح الطرف القوي .. والحروب أيضاً وسيلة الأقوياء خاصةً في زمن طغت فيها المصالح ، والشركات العابرة للحدود ، لبيع وتجريب أسلحتها الفتاكة للاتجار والاستثمار بدم البشر ، وفرض تحكمها بمن لم يطاله الموت ، وإخضاع الحكومات الضعيفة إلى مزيد من التبعية والرضوخ ، فالعالم الذي يسيطر اليوم عالم الأقوياء ولا مكان للضعفاء فيه ..
وكل الدول القوية أو التي في طريقها لامتلاك القوة الوازنة لها مشاريعها ليكون لها مكان بين المتنافسين في السياسات الدولية، وحصة من عوائد سيطرتها على أقدار الشعوب الأخرى وامتصاص خيراتها ومواردها.. في حين أن منطقتنا العربية لا زالت ترزح تحت نير التخلف والتبعية والصراعات التي تفتك بها سواء كانت داخلية أو صراعات بينية بين دولها، ولا زالت تدور بفلك قوى الهيمنة والسيطرة العالمية، فيما شعوبها تعيش في حالة العوز والفقر والقهر والانتظار.. والانتظار لا يقدم نهضة ولا يحقق انتصار.