إحدى الحكايات التي تُروى عن تحرير موسكو ثلاثةَ دبلوماسيين في العام 1985 تخبرنا في الواقع أكثر عن رواتها… وما تزال قضية الرهائن السوفيات الأربعة وتحريرهم بالقوة تحظى بالإعجاب في أوساط أشخاصٍ مضلَّلين بسبب الأساليب القاسية التي يُزعَم أن موسكو استخدمتها، لكن هذا الأمر يخبرنا عن هؤلاء الأشخاص أكثر بكثير مما يخبرنا عما حدث بالفعل في العام 1985. في نهاية المطاف، ليس صائبًا الاعتقاد بأن الشعوب الأصلية لا تفهم إلا لغة القوة.
* * *
من القصص التي ما تزال تروى من سنوات الحرب الأهلية اللبنانية قصة تمكن الاتحاد السوفياتي من تحقيق الإفراج السريع عن دبلوماسييه الثلاثة الذين اختطفوا في بيروت، على عكس الولايات المتحدة التي بقي رهائنها محتجزين لسنوات كثيرة. ولا ينفك من يكررون هذه الرواية، في وسائل الإعلام الأميركية أو الغربية عادة، يصورون الطريقة السوفياتية على أنها “الأسلوب السليم للتعامل مع الإرهاب”.
إليكم ما حدث على وجه التقريب. في أيلول (سبتمبر) 1985، اختُطف أربعة دبلوماسيين سوفيات يعملون في لبنان في حادثتَين منفصلتَين، وهم فاليري ميريكوف، وأوليغ سبيرين، وأركادي كاتكوف، وطبيب السفارة نيكولاي سفيرسكي. أما المجموعة التي أعلنت مسؤوليتها عن الخطف، فكانت “حركة الجهاد الإسلامي”، التي وصفها البعض بأنها سلف “حزب الله”، واعتبرها البعض الآخر مجرد واجهة، أو منظمة شكلية “هاتفية”، على حد تعبير الأكاديمي ماريوس ديب. وكانت “حركة الجهاد الإسلامي” قد تبنت أيضًا الهجمات الانتحارية ضد قوات مشاة البحرية الأميركية والمظليين الفرنسيين التابعين لقوة حفظ السلام متعددة الجنسيات في لبنان في العام 1983، والتي أسفرت عن مقتل ما يقرب من 300 جندي. على ما يبدو، كانت المجموعة الغامضة توسع قائمة أعدائها من خلال استهداف -ليس الدول الغربية فحسب، بل مصالح موسكو أيضًا.
ويبدو أن التفسيرات الأميركية للحادثة بدأت تتشكل مع مقال نشر حولها في صحيفة “الواشنطن تايمز”، ثم أُعيد نشره في وثيقة رفعت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) السرية عنها جزئيا بموجب قانون حرية المعلومات. وسلط المقال الضوء على حقيقة مفادها بأن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أصبحا في الخندق نفسه، مستشهدًا بقول راي كلاين، وهو مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية “إن الروس ليسوا أفضل حالًا منا، (ولكنهم) سيكونون أكثر قسوةً بكثير”. وبحلول ذلك الوقت، كانت “حركة الجهاد الإسلامي” قد اختطفت عددًا من الغربيين، بمن فيهم المواطنون الأميركيون بنجامين وير، وتيري أندرسون، وتوماس ساذرلاند، وجيريمي ليفين، ورئيس مكتب وكالة الاستخبارات المركزية ويليام باكلي، والمواطن البريطاني الموظف في الأمم المتحدة، أليك كوليت. ونظرًا للمزاج السائد في الغرب آنذاك، حاول الرئيس الأميركي رونالد ريغن ضمان إطلاق سراح الأميركيين من خلال تزويد إيران بالأسلحة، ما أثار في نهاية المطاف فضيحة “إيران كونترا”.
لم يكن مستغربًا في ظل هذه الأجواء أن يبحث الأميركيون عن حل سحري للإفراج عن رهائنهم، والحؤول دون تكرار عمليات الخطف تلك. والسبب في ذلك هو أن الدبلوماسيين السوفيات أطلق سراحهم بعد أسابيع قليلة فقط على اختطافهم، وإن كان أحدهم، أركادي كاتكوف، قد قتل على أيدي خاطفيه، على الأرجح لأنه أصيب بجروح بليغة تسببت بحدوث تسمم في الدم. فما الذي سمح ببلوغ هذه الخواتيم السريعة نسبيا؟ سعت وسائل الإعلام في غضون أشهر إلى الإجابة عن هذا السؤال.
وفقًا لمقال نشرته وكالة “يونايتد برس إنترناشونال” في 6 كانون الثاني (يناير) 1986 نقلًا عن صحيفة “جيروزاليم بوست”، كان لجهاز الاستخبارات السوفياتية (كيه. جي. بي) دور أساسي في الإفراج عن الرهائن.
وردد تلك الرسالة بنجامين زايكر، الذي كتب مقالًا بعد بضعة أيام في صحيفة “لوس أنجيلوس تايمز” بعنوان: “’وحشية‘ جهاز الاستخبارات السوفياتية تنقذ الأرواح، أما ’إنسانيتنا‘ فستخسر”. وكرر زايكر في مقاله الرواية عن جهاز الاستخبارات السوفياتية، مشيرًا إلى أن أعضاء قريب المسؤول في حزب الله “أُرسلت إلى (هذا الأخير) مع تهديد بأنه سيخسر أقرباء آخرين إذا لم يطلق سراح الدبلوماسيين السوفيات الثلاثة المتبقين على الفور. فما كان إلا أن أفرج عنهم بسرعة”.
هذه القصة عن الحزم السوفياتي استمرت لعقود. في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، كررها دارْيِن كافاناه وكأن تفاصيلها باتت غير قابلة للجدل. ففي مقال كتبه عن مجموعة “ألفا”، وهي وحدات القوات الخاصة التابعة لجهاز الاستخبارات السوفياتية، اقتبس مقتطفًا من كتاب للزميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ماثيو ليفيت، قال فيه “إن جهاز الاستخبارات السوفياتية أقدَم، وفقًا لنسخة من الرواية، على اختطاف أحد أقارب رئيس المنظمة المسؤولة عن احتجاز الرهائن، ثم قطع أذنه، وأرسلها إلى عائلته. وبحسب نسخة أخرى، خطفت مجموعة “ألفا” شقيق أحد الخاطفين، وأرسلت اثنين من أصابعه إلى عائلته بعد إيداعهما في ظرفين منفصلين”.
إذن، كانت الأشلاء البشرية تجول في الأرجاء، لا بل وضعت في ظروف متعددة أيضًا. مع ذلك، يبدو أن هذه الرواية، بجميع نسخها، ملفقة في الغالب. فلم يجرِ تقطيع الضحايا، ولم تشارك مجموعة “ألفا” في مهمة تحرير الدبلوماسيين، ولم يستخدم السوفيات أساليب همجية يمكن للولايات المتحدة الأكثر “إنسانية” اعتمادها في نهاية المطاف لتحرير رهائنها، ولم تكن هناك حلول سحرية.
في ذلك الحين، فهم الصحفيون الملمون بالشؤون اللبنانية تماما ما حدث بالفعل. كتب جيم موير في صحيفة “كريستشن ساينس مونيتور” في تشرين الثاني (نوفمبر) 1985 “أن جميع المؤشرات تظهر أن الإفراج عن السوفيات يوم الأربعاء كان نتيجة مساعٍ خاصة بذلتها سورية؛ حليفة موسكو الأساسية في الشرق الأوسط، والميليشيات اللبنانية المحلية الصديقة لها”. وكتبت نورا البستاني، التي كانت آنذاك مراسلة صحيفة “الواشنطن بوست”، عقب تحرير الدبلوماسيين عن “توافر تقارير وأدلة واسعة النطاق… تظهر أن الاتحاد السوفياتي وسورية، التي تنشر آلافا من قواتها في لبنان وشعرت بإحراج كبير بسبب عملية الخطف، بذلا مجهودًا شاملًا للإفراج عن الرهائن”.
وكتب فاسيلي كولوتوشا، الذي أصبح سفير الاتحاد السوفياتي لدى لبنان في أيار (مايو) 1986، في مذكراته: “على مدى ربع قرن من وقوع هذه المأساة، حيكت حولها شتى الأساطير والبدع وأنصاف الحقائق، وحكايات مشوهة…” ومن ضمنها “قطع رؤوس” وغير ذلك. ولكن تبين أن الحقيقة أقل تشويقًا بكثير. فالاتحاد السوفياتي طلب من حلفائه في لبنان، وبالأخص سورية، وإنما أيضا إيران، الضغط على الخاطفين، الذين سعوا إلى إنهاء الحصار الذي فرضته القوات السورية على الإسلاميين السنة في مدينة طرابلس الواقعة في الشمال اللبناني. وحين سألتُ مؤخرًا الزعيم الدرزي في لبنان وليد جنبلاط، الذي كان حليفًا للاتحاد السوفياتي خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عما إذا كان قد تم اللجوء إلى العنف للإفراج عن الدبلوماسيين، ضحك مستهزئا.
وفقًا لمذكرات كولوتوشا، فإن التقارير حول إرسال الاتحاد السوفياتي قوات خاصة إلى لبنان من أجل تحرير الدبلوماسيين صورتهم وكأنهم “أبطال أفلام هوليود”. وسلّط السفير الراحل الضوء على مسألة مهمة. ففي ظل الأوضاع الصعبة والمحبطة في دول الشرق الأوسط المعقّدة، افتُتن المحللون الأميركيون خصوصًا، على مر السنوات، بفكرة أن استخدام العنف قد يسمح لهم بحلحلة خيوط التعقيدات التي تعترضهم بانتظام. حين تواجه الولايات المتحدة حالةً من عدم الاستقرار، يبرز في الكثير من الأحيان نقاد يصرون على أن إخفاقاتها تُعزى إلى أنها لم تكن عنيفة وشرسة بما فيه الكفاية.
وهكذا، من غير المستغرب أن ينظر الكثير من الأميركيين إلى إسرائيل باعتبارها نموذجًا يحتذى به في الشرق الأوسط لمحاربة “الإرهابيين”. ويبدو خافيًا عليهم أن إسرائيل، التي ترتكب منذ عقود أعمال عنف يعجز اللسان عن وصفها، باتت اليوم أكثر عرضة للتهديد والذم من أي وقت مضى، وعاجزة تمامًا عن طرح مبادرة سياسية من شأنها المساعدة في حل صراعها مع الفلسطينيين.
واقع الحال أن قضية الرهائن السوفيات الأربعة ما تزال تحظى بالإعجاب في أوساط أشخاص مضللين بسبب الأساليب القاسية التي يُزعَم أن موسكو استخدمتها، لكن هذا الأمر يخبرنا عن هؤلاء الأشخاص أكثر بكثير مما يخبرنا عما حدث بالفعل في العام 1985. في نهاية المطاف، ليس صائبًا الاعتقاد بأن الشعوب الأصلية لا تفهم إلا لغة القوة. بل تشير جميع الأدلة من المنطقة إلى أن الولايات المتحدة تكبدت أثمانًا باهظة لاعتقادها بأن الممارسات العدوانية كفيلة بأن تحلّ، بسحر ساحر، العقد المستعصية التي تعترضها.
*مايكل يونغ: مدير تحرير في “مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط” في بيروت، ومحرر مدونة “ديوان” في كارنيغي المعنية بشؤون الشرق الأوسط. كان سابقا كاتبا ومحرر صفحة الرأي في صحيفة “ديلي ستار” اللبنانية، وينشر راهنا مقالا أسبوعيا في كل من صحيفة “ذا ناشونال” الإماراتية، وفي الموقع الإلكتروني “ناو ليبانون”. وهو أيضا مؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن نضال لبنان من أجل البقاء” The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of Lebanon’s Life Struggle، الذي أدرجته صحيفة “وول ستريت جورنال” ضمن قائمة الكتب العشرة الأبرز للعام 2010، وحاز الجائزة الفضية في مسابقة “جائزة الكتاب للعام 2010” التي نظمها “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”.
المصدر: (مالكوم-كير كارنيغي للشرق الأوسط) / الغد الأردنية