قد تكون حادثة التفجير التي طاولت دورية روسية ـ تركية مشتركة على الطريق الدولي حلب ـ اللاذقية (M4) طبيعية في سياق اعتراض التنظيمات الإسلامية المتشددة في إدلب على فتح الطرق الدولية في المحافظة، وعلى مجمل الاتفاق الروسي ـ التركي. ولكن ما هو غير طبيعي قصف روسيا مدينة الباب الخاضعة لمنطقة “درع الفرات” التركية، ومن ثم الرد التركي بقصف نقطة تنسيق للقوات الروسية في محافظة الحسكة شمالي شرق البلاد.
كان الفعل الروسي ورد الفعل التركي خطيرين إلى درجة أنهما كسرا التابوهات العسكرية بين الجانبين. أرادت روسيا إيصال رسالة هامة إلى أنقرة، مفادها بأن تعرّض الجنود الروس للخطر مسؤولية تركية في المقام الأول، لفشلها في تطبيق بنود اتفاق سوتشي، وأن روسيا لا تتهاون في هذا الأمر وسترد فورا. في المقابل، أرادت تركيا إيصال رسالتها أيضا، وهي أن اختراق مناطق سيطرتها في الشمال السوري، باستثناء إدلب، خط أحمر، ولا يمكن السكوت عنه.
ولكن أهم ما في الرسالة التي أرادت أنقرة إيصالها إلى الروس أن مناطق السيطرة التركية في سورية (درع الفرات، غصن الزيتون) أصبحت مناطق قائمة بذاتها تحت الهيمنة التركية، ولم تعد مرتبطةً بالأسباب التي أدت إلى تشكلها، بمعنى أن هذه المناطق لم تعد خاضعةً للتوافقات الروسية ـ التركية التي أدّت إلى نشوئها.
تفيد هذه التطورات بأن ملف إدلب ما يزال يشكل إرباكا للعلاقة الروسية ـ التركية، خصوصا أن روسيا لم تستطع تمرير أهدافها في المحافظة، والمتمثلة في فتح الطرق الدولية وحرية التجارة الداخلية، والقضاء على المنظمات المتطرفة الموسومة بالإرهابية، مقدمة لإضعاف الوجود العسكري في عموم المحافظة، وإنهاء حالة الاشتباك بين فصائل المعارضة وقوات النظام لصالح الأخير، بما يحوّل مناطق سيطرة المعارضة إلى مناطق شبيهة بمنطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، أي مناطق آمنة لا تشكل تهديدا عسكريا للنظام السوري، ولا منطلقا لمحاربته.
ويأتي تحشيد النظام السوري قواته في إدلب مؤشّرا على الاستعداد للانقضاض مجدّدا على بعض المناطق المتبقية من المحافظة، سيما أن التجارب السابقة كانت مصحوبةً دائما بتلازم الاشتباك العسكري المتبادل والمتقطع بين النظام وفصائل المعارضة، قبيل انطلاق العمليات العسكرية الكبيرة. ولا تعني هذه المعطيات بالضرورة أن المعركة أصبحت على الأبواب، إذ لروسيا حسابات ومصالح معقدة مع تركيا في الداخل السوري وفي الإقليم وفي المستوى الدولي، لكنها تعني أن موسكو تعمل بهدوء على إعادة هيكلة المحافظة من البوابة التركية، وإذا ما فشلت هذه السياسة، فإن المعركة ستحصل لا محالة.
الجديد في المشهد، هذه المرة، أن روسيا أضافت معطيات جديدة، أو أهدافا جديدة لحساباتها، لم تكن موجودة، أو على الأصح لم تكن واضحة بما فيه الكفاية. ويتمثل هذا الجديد في رغبة روسية في السيطرة على معبر باب الهوى، وهو هدفٌ كان من ضمن الأهداف الرئيسية في معركة إدلب أخيرا، لكن التدخل العسكري التركي المباشر والتلويح بتوسيع المعركة فرض معادلاتٍ مؤقتة آنذاك، حالت دون تحقيق الهدف الروسي.
أدى قانون قيصر إلى تغير في الاهتمامات الروسية، فأصبحت الحرب الاقتصادية المضادة جوهر استراتيجيتها في المرحلة المقبلة، والمطلوب إحداث ثغرة في جدار العزل الاقتصادي الذي تنفذه الولايات المتحدة ضد النظام، ولا تمتلك روسيا أي مفاتيح أو قدرة على إحداث هذه الثغرة إلا من بوابة الأمم المتحدة، عبر إجبارها على إدخال المساعدات الإنسانية بشكل مباشر ورسمي، عن طريق النظام السوري وحده.
لتحقيق هذا الهدف، لا بد لروسيا من إغلاق كل المعابر الحدودية الواقعة خارج سيطرة النظام: حققت روسيا العام الماضي أول أهدافها بإغلاق معبر اليعربية/ ربيعة على الحدود العراقية، ثم حققت هدفها الثاني بإغلاق معبر باب السلام/ أونجو بينار في شهر يوليو/ تموز الحالي. أما معبر باب الهوى/ جيلفه غوزو، فلن تذهب موسكو إلى إغلاقه عبر مجلس الأمن، كما فعلت مع المعبرين السابقين، كي لا تخاطر بسمعتها، والظهور بمظهر المسؤول المباشر عن كارثة إنسانية ربما تقع في الشمال مع إغلاق المعبر الأخير. والحل الوحيد هو سيطرة النظام السوري على معبر باب الهوى، وفرض الأمر الواقع أمام الأمم المتحدة، لكن عمليةً كهذه تتطلب تفاهمات مع تركيا، والروس ليسوا مستعجلين في الحسم، فقد مدّد مجلس الأمن آلية إدخال المساعدات عاما كاملا، تنتهي في العاشر من يوليو/تموز في العام المقبل.
وربما يكون إطلاق عملية عسكرية في جبل الزاوية أمرا مرجّحا لتحقيق هدفين: السيطرة على المنطقة بين الطريقين الدوليين M4 وM5، مع ما يعني ذلك من إبعاد فصائل المعارضة إلى ما وراء طريق M4، وجعل إدلب على مرمى من مدفعية النظام. وممارسة الضغط على تركيا لإيجاد حل لمعبر باب الهوى، وإن كان غير معروف كيف سيكون هذا الحل: بصفقة ما بين الجانبين، مفادها قبول تركيا بخسارة المعبر مقابل ترسيم حدود جغرافية داخل المحافظة لا يتم انتهاكها مستقبلا، أو في عملية عسكرية سريعة ينفذها النظام، بدعم روسي إيراني، لانتزاع المعبر والسيطرة على طريق M4 بين سراقب وأريحا.
المصدر: العربي الجديد