الانتخابات التونسية… استقطابا المقاطعة والمشاركة

المهدي مبروك

كانت الانتخابات في تونس في عشرية الانتقال الديمقراطي تغذّي حالات الاستقطاب، يواجه دوماً مُخيَّمان بعضهما بعضاً، ويضطر الناس للانضمام طوعاً أو كرهاً الى أحدهما. لا يمكن إنكار أنّ حالة الاستقطاب هذه محمودةٌ من حين الى آخر، فهي تُحفِّز الناس وتنشئ رهاناتٍ حادّةً، حتّى لو كانت متوهَّمةً. يعتقد الناس أنّ مصيرهم ومصير البلاد عامّةً مرتهنان لانتصار أو لخسارة مُخيَّمهم.
لحالات الاستقطاب الانتخابي دورٌ فعّال في رفع نسبة الإقبال على الانتخابات. رأينا أخيراً أنّ الاستقطاب التي دُفِع إليه الناخبون في فرنسا رفع نِسَبَ المشاركةِ، وأضاف أفواجاً بشرية عريضةً من أجل التصدّي لمن يعتبرونه خطراً عليهم وعلى بلدهم. شهدت تونس مثلاً هذه الحالات طوال العشرية الماضية، وقسَّمت التونسيين بين مخيَّمَين كبيرَين. تتغيّر أسس الاستقطاب من حين إلى آخر، لكنّها لا تترك الناس إلّا نادراً في حالة حياد. تُثار القضايا الأكثر غرابةً، ويُدفع بأقصى الفرضيات تطرّفاً، حتّى يخرج الناس من حالة الانكفاء والتقوقع واللامبالاة ويصطفّوا في أحدّ الصفَّين المتقابلَين.
وضعت انتخابات سنة 2011 التونسيين أمام صفُّ أنصار الثورة وصفُّ النظام القديم، حتّى لو غيّر جلدَه. كان في ذلك الاصطفاف كثيرٌ من التعسّف والتجنّي، ولكنه مزاج ما بعد الثورة، التي يتقابل فيها الماضي مع الحاضر. وصم الناس وتصنيفهم لا يخلو من الحيف، ولكنّهما من مقتضيات حالات الاصطفاف تلك. وفي سنة 2014، جمعت حالة الاستقطاب مخُيَّمَين كبيرَين؛ الإسلاميين و”الحداثيين”. وهذا التصنيف أيضاً غير دقيق، فالاستقطاب يمحو عمداً الفوارق الصغيرة والتباينات كلّها، التي يمكن أن تميّز بين أصحاب الصفّ الواحد. لم يعد بالإمكان آنذاك، بعد خيبة الاغتيالات وارتفاع منسوب عمليات الإرهاب التي عرفتها البلاد، أن نصنّف الناس في المحطّة الانتخابية تلك إلى المُخيَّمَين السابقين، اللذين التقيا إبّان المحطّة الانتخابية الأولى بعد الثورة سنة 2011، لذلك بدأت ورشات الوصم والتصنيف تشتغل وفق آلياتٍ جديدةٍ قائمةٍ على أنصار التقليد والهُويَّة، وتحديداً الإسلام السياسي (التصنيف هذا واقع تحت هذه الاستراتيجية) من جهة، والحداثيين والعلمانيين من جهة أخرى. احتدّ الاصطفاف، حتّى إنّه دفع إلى بعض الاشتباكات بين الفريقَين. ومع ذلك، ارتفعت نِسَبُ المشاركةِ ودارت المبارزةُ في حلبةٍ متوازنةٍ نسبياً مع أسبقية نسبية لحزب النداء، الذي غدا خيمةً واسعةً يأوي إليها جمع كبير من الحداثيين واليسار، وحتّى النقابيين.

اختفت حماسةَ انتخابات عشرية الانتقال الديمقراطي، التي كانت تتغذّى من عمليات سبر الآراء والصراعات الأيديولوجية، وأتت الانتخابات المرّة هذه رتيبةً مملَّةً ومخيفةً 

وتواصل الاستقطاب في انتخابات 2019، التي وضعت مرَّةً أخرى مُخيَّمَين كبيرَين، غير أنهما هلاميان؛ مخيّمي الفساد ومكافحته، وقد أدّى هذا الحشد المغشوش إلى فوز الرئيس قيس سعيّد، وانسحب في الدور الثاني رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي. قتح ذلك الاستقطاب الخاطئ باباً واسعاً تسلَّلت منه الشعبوية. مرَّت خمس سنوات واختفى تقريباً كلّ أنصار المُخيَّمَين السابقَين تحت القصف العشوائي والمُضنِي للشعبوية. لقد جُمعوا جميعاً في سلَّةٍ واسعةٍ كبيرةٍ تحت مسمَّى العشرية السوداء، ورُموا (كما يقول الرئيس سعيّد) في “مزبلة التاريخ”، إلى أن حلّت الانتخابات الحالية، فمرّة أخرى، ورغم العبث كلّه الذي جرى بعد أنّ استُبعد جُلُّ المترشّحين الجدّيين، الذين كانوا يُشكِّلون خطراً حقيقياً على سعيّد، وبعد أن غُيِّرت قواعد اللعبة، قبل أسبوع تقريباً من يوم الاقتراع، حين أُلغِيت رقابة القضاء الإداري على المسار الانتخابي، ونزاعاته المحتملة كلّها، بعد أن أنصفت المحكمة الادارية جُلَّ الذين أزاحتهم الهيئة العُليا للانتخابات، خشيةَ أن تُبطَل النتائج الانتخابية بعد الطعن فيها حال الإعلان عنها. الاستقطاب حالياً بين مُخيَّمي الداعين إلى المشاركة والداعين إلى المقاطعة. يمتلك اثناهما حُجَجَاً متناقضةً، غير أنّها تظلّ متساويةً، كما يقول المَناطِقة. العبث السياسي القانوني كلّه، في الأسابيع الأخيرة، عزَّز صفوف الداعين إلى المقاطعة، الذين ما إن أزاح النظام عبر القضاء مُرشّحيهم، حتّى شعروا بالإحباط، فلم تعد الانتخابات تعنيهم، وهي التي فقدت مصداقيتها، فلا رهانات معقودة عليها. أمّا الداعون إلى المشاركة فإنّهم أيضاً يُعوّلون على أنّ مشاركةً كثيفةً من شأنها أن تُزيح الرئيس بشكل ديمقراطي، خصوصاً أنّ المُؤشّرات كلّها لديهم تشي بأنّ الرجل فقد شعبيته، وقد أثبتت المحطّات الانتخابية كلّها، التي أُجريت في عهدته، أنّ أنصارَه لا يُقبِلون على الانتخابات، ويكتفون بتنظيم الهجمات الإلكترونية على خصومهم فقط، في شكل كتائبَ افتراضيةٍ شديدةِ العدوانية.
في مثل هذه المناخات، يفقد الناس حماسةَ الانتخابات التي عهدوها خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (على علّاته)، التي كانت تتغذّى أيضاً من عمليات سبر الآراء والصراعات الأيديولوجية، التي تستعر من خلال الإعلام. اختفى ذلك كلّه، وأتت الانتخابات المرّة هذه رتيبةً مملَّةً ومخيفةً أيضاً.
قبل يوم من الصمت الانتخابي، عرفت شوارع العاصمة (يوم الجمعة الماضي) تظاهرةً كُبرى؛ “لن نسكت”، دعت إليها الشبكة التونسية للحقوق والحريات، ندَّدت فيها بالوضع المُزرِي الذي آلت إليه الحرّيات في البلاد، وبالرجوع إلى مُربَّع البدايات من الاستبداد. ومهما كان الفائز فإنّ الوضع مُرشَّح لتعقيدات كثيرة، فالتركة ثقيلة، خصوصاً في مناخاتٍ انتخابيةٍ كانت عبثيةً ومخيفةً أحياناً.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى