يحزن الكثير من الناس الآن على وفاة نصر الله، في لبنان وأماكن أخرى. لكن وجود حزب الله ليس في أي مكان قريب من الشك.
ربما تكون الآن قد سمعت مباشرة، أو سمعت عن خطاب الكراهية المليء بالقدح الشرس الذي ألقاه بيبي نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي. في الخطاب، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه يكره الجميع بشكل أو بآخر، وليس أقلهم أعضاء المنظمة الدولية التي تستضيفه.
هم، ونحن، كلنا معادون للسامية، كما ترون. والاستثناءات هي الأميركيون. و”بيبي” يحتقر الأميركيين، كما أوضح في مناسبات عديدة، لكنه لا يستطيع أن يتحمل كلفة كراهيتهم لأن الأميركيين يكتبون الشيكات ويرسلون القنابل التي تبلغ زنة الواحدة منها 2.000 رطل.
”ولدي رسالة أخرى لهذا التجمع وللعالم خارج هذه القاعة”، صرخ نتنياهو قرب نهاية الدقيقة 13 من وجوده على المنصة، ونصها هنا. “نحن ننتصر”. ومع هذا الإعلان، جاء ضرب بيبي –الذي أصبح مألوفا الآن- على المنصة بالقبضة اليسرى.
هنا تصل مذكرة موجزة من الدكتور لورانس، ويسأل: “هل من الضروري أن تقول أنك عندما تكون بصدد الانتصار حقًا؟ أم أنه يصبح من الضروري أن تقول أنك تنتصر عندما لا تكون كذلك”؟
تحدث نتنياهو في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الإسرائيلية تحلق في مهمة فوق بيروت، حيث أسقطت 80 قنبلة، أميركية الصنع ومن زنة الألفي رطل، اغتالت حسن نصر الله، زعيم حزب الله الذي ظل يحترمه ويحبه الكثيرون على مدى السنوات الـ 32 الماضية. وذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” يوم الجمعة أن نتنياهو أذن بتنفيذ العملية من فندقه في نيويورك قبل وقت قصير من إلقاء عظاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لكن شيئا آخر حدث بينما كان بيبي يتفاخر بأن إسرائيل تكسب حربها على سبع جبهات، كما يسمي اعتداءات الدولة الإرهابية التي يحكمها على جيرانها. خفضت وكالة “موديز” لتقييم الديون التصنيف الائتماني لإسرائيل من (أ.1) إلى (ب- أ.أ.1). وهذا قطع لقطبتين، تخفيض ليس غير جاد على الإطلاق.
تعتبر الديون ذات التصنيف (أ) ذات جودة عالية ومخاطر منخفضة؛ وتصنف الديون من الفئة (ب) على أنها “متوسطة الدرجة”، وتحمل المزيد من المخاطر، و”قد تمتلك خصائص المضاربة”، على حد تعبير موديز. وتضيف الوكالة: “التوقعات ما تزال سلبية”.
ثم تقرأ كل أنواع الأشياء في صحافة الشركات حول العواقب؛ من ربح ومن خسر من قتل إسرائيل نصر الله يوم الجمعة الماضي: انتصار حاسم للإسرائيليين؛ تخفيض قدرة حزب الله؛ تدهور حزب الله؛ إسرائيل قلبت وجهة المد في حربها على طول حدودها الشمالية.
كل هذا “بلا دليل”، هذه العبارة البغيضة التي تسوقها صحيفة “نيويورك تايمز” كلما أرادت التشكيك في شيء غالبا ما يكون غير صحيح، لكنه غير مريح لأنه كذلك.
جاء المقال المفضل لديَّ من هذا الخط من Unherd، المجلة الإلكترونية التي تُنشر في لندن. “موت حسن نصر الله يمكن أن يمثل نهاية حزب الله”، هو العنوان الرئيسي فوق مقال كتبه كايل أورتن، الذي يعمل في “جمعية هنري جاكسون”، عش كارهي الإسلام المصابين بجنون الارتياب، الذين يتظاهرون بأنهم مركز أبحاث ويعملون أيضًا في لندن. وسيكون موقع”Unhinged” أكثر قربا إلى هذه النقطة.
مستقبل قاتم
أنا مع وكالة “موديز” وسط كل هذه الانتصارية المختلطة. إن النظرة المستقبلية لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي سلبية إلى أقصى الحدود بينما يمضي قدمًا في طريقه المتهور. وبينما أنتقلُ إلى الأزمة في غرب آسيا التي خلقتها الدولة الصهيونية بهذه الطريقة أو تلك، لا يمكنني التفكير في شيء واحد يشير إلى أن الإسرائيليين يربحون أي شيء.
يجب أن يكون واضحًا الآن أن الإسرائيليين، أو أي أحد آخر منخرط هذا الشأن، يمكن أن يقتل الخصوم، لكنه لن يتمكن من إخماد الحركات التي يقودونها أو الروح التي تحفز مثل هذه الحركات. هذه حالة بسيطة من فهم -أو الفشل في فهم- النفسية البشرية الأساسية. وإسرائيل، بعد أن تخلت عن إنسانيتها، لا يمكنها أن تفهم ذلك، ببساطة.
تأسس حزب الله ردًا على الوجود الإسرائيلي في لبنان قبل 42 عامًا، ولكنه يمثل -إذا شئت- هوية وطموحًا يمتدان إلى وراءً في الزمن قرونًا عديدة. وثمة الكثير من الناس الذين يحزنون الآن على وفاة نصر الله، في لبنان وأماكن أخرى، لكن وجود حزب الله ليس حتى قريبًا من الشك.
في الأسبوع الماضي، أجرى أندرو نابوليتانو مع أليستر كروك مقابلة مثيرة للاهتمام في برنامج الأول “الحكم على الحرية” Judging Freedom. وهناك نقطتان أثارهما كروك تستحقان الذكر أكثر من غيرهما.
أولاً، كان نصر الله قد ألزم جميع قادة حزب الله لسنوات برعاية خلفائهم بتزويدهم بنظرة في الكوارث غير المتوقعة، مثل التي حلت به هو نفسه للتو. ألا يمكننا أن نكون واثقين من أن نصر الله طبق أوامره الخاصة؟ ثانيًا، لم تقترب الهجمات الجوية الإسرائيلية على منشآت الصواريخ والقذائف التابعة لحزب الله في جنوب لبنان مجرد اقتراب من إضعاف القدرات العسكرية للجماعة.
ثمة نقطة أخرى في هذا الإطار: كان نصر الله قائدا حكيما، اشتهر، من بين أمور أخرى، بمراجعة ميثاق حزب الله في العام 2009 في اتجاه الاعتدال. (“لقد تغير الزمن وكذلك يجب أن نفعل نحن”). وهنا تنشأ الحجة القائلة بأن المنظمة ستتخذ الآن -أو تعيد اتخاذ- طابع أكثر راديكالية.
ويبدو أن جوناثان كوك اقترح ذلك في مقال مقتضب نشر يوم الأحد على منصة “إكس” تحت عنوان: “بقتل نصر الله، اختارت إسرائيل فتح أبواب الجحيم. وسندفع جميعًا الثمن”. ويعرف كوك غرب آسيا وشعبها أفضل مني بكثير، لكنني أشكك في وجاهة هذا الحكم.
منذ أن اغتال الإسرائيليون إسماعيل هنية، زعيم حماس، في طهران في اليوم الأخير من شهر تموز (يوليو)، كان لدينا دليل واضح وبسيط على ما يسميه الإيرانيون “الصبر الاستراتيجي”. (رأيت أيضا أنه مذكور على أنه “الصبر الثوري”، وهو المصطلح الذي أفضله).
وهذا يعني، إذا لم أكن أبالغ في التبسيط، تنمية نقاط القوة مع الحفاظ على السيطرة على دينامية الصراع وتجنب الاستجابات التي تنطوي على فرصة جيدة للتعجيل بالهزيمة.
إنني أبني تصوري لمرحلة ما بعد نصر الله آخذًا مثال الإيرانيين في الاعتبار: لن يتخلى قادة حزب الله الجدد عن حربهم ضد إسرائيل، لكنهم سيبقون محتفظين بالدهاء الذي ميزهم وأثبتوه في عهد نصر الله. لن يفقدوا رشدهم ويلجأوا إلى ذلك النوع من العنف الخاطئ أو غير الموجه الذي يعكف الجيش الصهيوني على استفزازه بوضوح.
وهناك عامل آخر قيد العمل هنا والذي يجب ألا نفوته. بعبارة بسيطة جدًا، في رأيي، من المرجح أن يرى حزب الله الأشياء كما يبدو أن الإيرانيين يرونها: أن إسرائيل الصهيونية تدمر نفسها بنفسها، وأن السماح لها بالقيام بذلك هو جزء من أي استراتيجية جيدة.
وهذا يعني أن الواقع في غرب آسيا هو أن إسرائيل ليس لديها مسار بديل تحت تصرفها لا ينطوي على التدمير الذاتي.
إن الاستراتيجيات والأهداف التي حددتها لنفسها، لا سيما منذ أن جلب نظام نتنياهو قادة اليمين الإسرائيلي المتعصب إلى الحكومة، ستؤدي حتما إلى زوال الدولة الإسرائيلية.
لا يبدو أن هناك نتيجة أخرى ممكنة طالما أن نتنياهو يسمح لأشخاص مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وزيري الأمن والمالية على التوالي، بالتأثير على السياسة بالقدر الذي سمح لهما به رئيس الوزراء حتى الآن.
كان إيلان بابيه قد كتب مقالاً ممتازا حول هذه المسألة في طبعة 21 حزيران (يونيو) في قسم “سايدكار” من مطبوعة “نيو ليفت ريفيو”. في مقاله “انهيار الصهيونية”، يجادل الباحث الإسرائيلي الذي يعيش الآن في المنفى بأن المشروع الصهيوني دخل بداية نهايته برد إسرائيل على أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وفي حين يمكن للمرء أن يشيد بهذا التقدم، فإن بابيه لا يرسم صورة جميلة:
”نحن نشهد عملية تاريخية -أو بشكل أكثر دقة، بدايات عملية- من المرجح أن تتوج بسقوط الصهيونية. وإذا كان تشخيصي صحيحا، فإننا ندخل أيضا في ظرف خطير بشكل خاص. لأنه بمجرد أن تدرك إسرائيل حجم الأزمة، فإنها ستطلق العنان لقوة شرسة وغير مقيدة لمحاولة احتوائها، كما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا خلال أيامه الأخيرة”.
يشير بابيه إلى تطورين عريضين، الأول يؤثر مباشرة على الثاني. عندما عين نتنياهو حكومة العرض الغرائبي من المتعصبين في نهاية العام 2022، كان ذلك فعليا انتصارا لأولئك الذين ينظرون إلى إسرائيل كمشروع ديني، “دولة يهودا”، على حد تعبير بابيه، على أولئك الذين يرون أنها في الأساس مسعى قومي، “دولة إسرائيل”.
كتب بابيه: “في حين أن الهوية اليهودية في إسرائيل بدت في بعض الأحيان ليس أكثر كثيرًا من موضوع نقاش نظري بين الفصائل الدينية والعلمانية، فإنها أصبحت الآن صراعا على طبيعة المجال العام والدولة نفسها. ولا يُخاض هذا الصراع في وسائل الإعلام فقط، ولكن في الشوارع أيضا”.
وكما غطته جيدا وسائل الإعلام، كان فساد المحاكم الإسرائيلية أحد المسارح في هذا الصراع. وعلى الرغم من أن التقارير عن ذلك الجودة، فإن هناك البعض الجيد إذا بحثنا عنه: إن نسبة كبيرة جدا من الإسرائيليين يصفقون الآن، على أساس التفسيرات الأكثر عنصرية للصهيونية، للهجمات الوحشية غير المعقولة التي يشنها جيش الدفاع الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
يبدو أن بابيه يعتقد بأنها ليس ثمة عودة إلى الوراء عن البشاعات -الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، وبالطبع العسكرية- التي أصبحت تميز إسرائيل ما بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر). وإذا قرأتُه بشكل صحيح حول هذه النقطة، فإنني أوافق معه من دون تحفظ. يبدو أنها مسألة وقت قبل أن ينهار هذا المشروع المروع.
يعتقد بابيه، الذي يحاضر ويكتب الآن في جامعة إكستر في جنوب غرب إنجلترا، أن “انهيار المؤسسات العامة، التي تصبح غير قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين”، سوف يتسبب –وهو يتسبب مسبقًا- في انهيار الاقتصاد. هذا ما ينظر إليه الآن الناس في “موديز” الذين يضعون أقلام الرصاص خلف آذانهم.
اقتصاد في خطر
تراجع النمو الاقتصادي بمجرد أن بدأت إسرائيل هجومها على غزة في 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. انخفض الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 21 بالمائة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي. وفي تموز (يوليو)، خفض بنك إسرائيل توقعاته للنمو للعام 2024 إلى النصف تقريبا، إلى 1.5 في المائة. وبعد شهر وضع “جيه. بي. مورغان” الرقم عند 1.4 في المائة. ويكاد يكون من المؤكد أن هذه التوقعات متفائلة.
جف الاستثمار الأجنبي، وأصبح الإنفاق الدفاعي خارج نطاق السيطرة تقريبًا، وأغلقت عشرات الآلاف من الشركات أبوابها بسبب: (1) قلة الأعمال التي يتعين القيام بها؛ و(2) استدعاء الجيش الإسرائيلي عددا كبيرا جدا من العاملين للخدمة في غزة.
نشرت صحيفة “الواشنطن بوست” مقالا جيدا عن البؤس الناجم عن ذلك في طبعتها في 26 أيلول (سبتمبر). وفي المقال، قالت شيلي لوتان، التي تمتلك شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا في إسرائيل، لراشيل تشاسون من ”الواشنطن بوست”: “يبدو الأمر كما لو أنه إذا لم يحدث تغيير كبير قريبًا، فسوف ينهار الاقتصاد”.
وهنا نأتي إلى عدم كفاءة قيادة نظام نتنياهو في الجانب الاقتصادي. يبدو أن سموتريتش –وهو صهيوني تعلم في مدرسة دينية، ومنظر مهووس بتوسيع المستوطنات غير القانونية وجعل “أرض إسرائيل” حقيقة واقعة– يفهم الاقتصاد ومسائل التمويل مثل مدير مبتدئ في كليفلاند مع اشتراك في مجلة “فوربس”.
وكما قال لتشاسون باحث في مركز أبحاث يدعى دان بن ديفيد، فإن “الاقتصاد في خطر شديد ما لم تستيقظ الحكومة. في الوقت الحالي هم منفصلون تمامًا عن أي شيء ليس حربًا، وليست هناك نهاية في الأفق”.
أو كما يقول إيلان بابيه:
”تزداد الأزمة تفاقًا بسبب عدم كفاءة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يقوم باستمرار بتوجيه الأموال إلى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، لكنه يبدو بخلاف ذلك غير قادر على إدارة وزارته. الآن، يبدو أن الصراع بين ’دولة إسرائيل‘ و’دولة يهودا‘، إلى جانب أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، يدفع بعض أعضاء النخبة الاقتصادية والمالية إلى نقل رؤوس أموالهم خارج الدولة. ويشكل أولئك الذين يفكرون في نقل استثماراتهم جزءًا كبيرًا من الـ20 في المائة من الإسرائيليين الذين يدفعون 80 في المائة من الضرائب”.
وقالت شيلي لوتان، صاحبة العمل في إسرائيل، عندما أجرت صحيفة “الواشنطن بوست” مقابلة معها: “الشيء الأكثر مسؤولية الذي يجب القيام به هو البدء في التخطيط للعثور على طريقة للخروج”. وليست هذه فكرة أصلية بالضبط. كان بابيه قد قدّر في الربيع الماضي أن نصف مليون إسرائيلي، معظمهم من الشباب، ومعظمهم من المهنيين، والكثير منهم من التكنوقراط– قد هاجروا بالفعل.
إننا نتحدث 500.000 من أصل 9.5 مليون نسمة؛ كان هذا رقم بابيه قبل بضعة أشهر. وليس من الصعب أن نتخيل أن إسرائيل في المستقبل غير البعيد ستكون خالية إلى حد كبير من الخبرة، تاركة الصهاينة الأرثوذكس المتطرفين غير المدربين ليقوموا بإدارة الوزارات والإدارات الحكومية. دولة فاشلة، باختصار.
لا أعرف ما الذي يقولونه، مع رحيل حسن نصر الله، داخل المجالس السياسية والعسكرية لحزب الله. من المستحيل أن نتوقع بيقين كيف سيكون رد فعل المنظمة في ما ترقى إلى حقبة جديدة في قصتها.
لكن الإسرائيليين لا يكسبون شيئا بعد عام من حرب نتنياهو على سبع جبهات. بشأن هذا يمكن أن يكون المرء أكثر يقينًا.
سوف يكون الوقت في صالح أولئك الذين جعلتهم إسرائيل خصومها: في هذا أيضًا يمكن اليقين.
*باتريك لورانس Patrick Lawrence: صحفي عمل في الخارج لسنوات عديدة، بشكل رئيسي لصحيفة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون”، وهو كاتب عمود وكاتب مقالات ومحاضر ومؤلف، كان آخر كتبه “الصحفيون وظلالهم” Journalists and Their Shadows (مطبعة كلاريتي). ومن كتبه الأخرى “لم يعد هناك وقت: الأميركيون بعد القرن الأميركي” Time No Longer: Americans After the American Century.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: PATRICK LAWRENCE: Nasrallah Is Dead But Bibi Hasn’t Won
المصدر: الغد الأردنية/– (كونسورتيوم نيوز)