قراءة في كتاب: امرأة في حضن العاصفة

أحمد العربي

صدر كتاب امرأة في حضن العاصفة للكاتبة السورية المتميزة والمنتمية للثورة السورية نور ملاح عن مكتبة الأسرة العربية في اسطنبول.

الكتاب هو السيرة الذاتية لـ نور ملاح. تعتمد في السرد على لغة المتكلم.

تبدأ السيرة ونور تعيش كابوسا بأنها متواجدة في بيتها في حلب في سنوات الثورة السورية الاولى حيث جاءتها اخبار ان المخابرات تبحث عنها وتريد اعتقالها. خافت كثيرا وادركت ماذا يعني الاعتقال وتمنت الموت ولا الاعتقال. لتصحو من كابوسها على واقع وجودها في المشفى في السويد حيث تعيش …

نحن هنا سنعيد سرد سيرة نور ملاح وفق تسلسل زمني لحياتها الممتلئة وما حصل معها. وننهي القراءة بتعقيب ختامي.

نور ابنة مدينة حلب كانت طفلة صغيرة ولم تعايش أحداث الثمانينات من القرن الماضي. حيث واجه النظام الشعب السوري ومن حاول الثورة عليه بالسلاح وحصلت مجزرة حماة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين، وكذلك في غيرها من المدن السورية.

كان والد نور مطلوبا للأمن في ذلك الوقت واستطاع الهروب بعائلته إلى العسير في السعودية. عاش مع عائلته فيها، حيث كبرت نور وتعلمت واحست هناك مع نضجها بكونها غريبة في أجواء عنصرية وأنه مطلوب منها أن تثبت ذاتها عبر تفوقها وتميزها. واستطاعت بفضل تشجيع بعض مدرساتها الفلسطينيات أن تثبت ذاتها وتتفوق كل الوقت.

أدركت عندما كبرت حال عائلتها وأنهم هربوا من ظلم النظام السوري وبطشه. وان سوريا يحكمها نظام مستبد ظالم . وانها عندما كبرت وصار لزاما ان تدخل الجامعة عادت إلى سوريا ودخلت الجامعة حتى تدرس الفلسفة وعلم النفس.

تشبعت نور منذ صغرها بحب القراءة والثقافة فكانت قارئة نهمة. جعل هذا أفقها يتوسع وآمالها تكبر بمقدار نضجها ونمو وعيها. كما كانت نور متشبعة بالانتماء الإسلامي العميق بعقلانية وكانت تجهد كل الوقت ان تكون متصالحة مع نفسها وربها ودينها وواجبها الاجتماعي والعائلي.

تزوجت نور في سن السابعة عشر. وعاشت في كنف زوج ظالم وعائلة متخلفة تعاملها بشكل سيئ كل الوقت. وكانت نور تتحمل عيشها ذلك خاصة أن المجتمع عموما يتقبل خضوع المرأة وظلمها ضمن معادلة خاطئة. تستند على التقاليد وعلى تفسير خاطئ للإسلام الذي في حقيقته يصون المرأة وكرامتها وحقوقها. وليس يظلمها كما واقع الحال الذي تعيشه المرأة المسلمة بتغطية من بعض رجال الدين بعقليتهم المتخلفة والبعيدة عن جوهر الاسلام…

استمرت نور صابرة على حياتها الاسرية وخاصة أنها أنجبت أولادها الثلاثة تباعا. حيث كانوا النور والامل في حياتها التي عاشتها. حتى جاءت الثورة السورية عام ٢٠١١م. وكانت نور منتمية نفسيا لها. فهي ومنذ طفولتها متشبعة بمعلوماتها ومعايشتها للظلم الذي يعيشه كل السوريين. لذلك وجدت نفسها منتمية قلبا وقالبا الثورة السورية. وهذا جعلها متصارعة مع بيئتها العائلية. مما ادى للصدام مع زوجها وطلبت طلاقها وحصلت عليه متحررة من ظلم استمر حوالي عقدين في حياتها. أخذت أطفالها وغادرت حلب وسوريا إلى تركيا أولا، حيث عاشت لفترة من الزمن هناك وعملت لتعيل نفسها وأطفالها. كان عملها في إحدى القنوات التلفزيونية المناصرة للثورة السورية. نجحت في دورها الإعلامي. لكنها ستختلف مع إدارة القناة بعد ذلك، فهي بعقليتها ورفضها الانصياع لما لا تقتنع به. وهم يريدونها ان تعمل حسب ارادتهم وتوجيههم،  تركت العمل معهم لانها رفضت ان تكون صوت غيرها. وهي اصرت ان تكون صوت السوريين في ثورتهم حيث لا صوت لهم.

 لذلك سعت بعد ذلك لتنتقل بعائلتها إلى السويد حيث أرادت أن تستقر هناك قناعتها بأنها دولة تحترم حقوق الإنسان وتؤمن حياة أفضل لها ولاولادها…

نعم كانت السويد كدولة وقوانين من افضل الدول الأوروبية في التعامل مع اللاجئين. حيث حضنت نور وأولادها وامنت لهم فرص العيش الكريم. ودخل اولادها بالمدارس وبدأوا رحلة الحياة فيها. وهي تعلمت اللغة السويدية بوقت قياسي وبعد سنتين انتقلت لتصبح معلمة للغة السويدية في ذات المدرسة التي تعلمت بها. وهذا نادر الحصول. كما كانت نور على موعد مع متغير قلب حياتها. واعاد انصافها. حيث التقت بذلك الرجل الذي سيكون زوجها. فهمها واحبها ورعاها وأعاد الوهج الى نفسها وقلبها.

لكن السويد ليست فقط بلد القوانين والاحترام الفعلي لحقوق الإنسان. هي ايضا الاختلاف الواقعي حول المرجعيات القيمية لسلوكيات الناس. والناس المشبعون بالعنصرية والنظرة الخاطئة للعرب والمسلمين وكل الآخرين غير الأوروبيين.

نور مسلمة متدينة وتلبس الحجاب وهذا لم يتم تقبله حيث تتواجد. وظهرت حالات التنمر اتجاهها. وكذلك التنمر عليها لكونها لاجئة. مع عدم استيعاب البعض لماذا هرب السوريين من بلادهم تاركين كل شيء وراءهم للحفاظ على حياتهم. يتهمون السوريين بأنهم لم يقاوموا النظام وفي ذهنهم مقاومتهم في بلادهم عبر الممارسات الديمقراطية العادية.

قررت نور أن تعمل على مواجهة هذه العقلية العنصرية تجاه الإسلام واللاجئين والغير أوروبيين كعرق. لذلك التحقت بحزب سويدي يدعم اللاجئين وقررت ان تترشح للبرلمان على لوائحه لتتابع نضالها الإنساني لتحصل على مزيد من الحقوق المجتمعية للمسلمين واللاجئين. حيث طالبت أن يتم النظر للحجاب عند المرأة بصفته حرية شخصية، وأن المرأة التي تلبسه ترى انها تعمل ما يريد الله منها، أنه التزام ذاتي بالدين، وليس بكونها مضطهدة ومجبورة من المجتمع الذكوري المهيمن عند المسلمين، كما يعتقد الأوروبيين.

في الحقيقة كانت معركة نور ذات وجهين اولها تجاه السويديين الذين ينظرون للاسلام والمرأة المسلمة الملتزمة بكونها ضحية وكون الإسلام دين عنف، وقد ساعد في تعميم هذا الرأي أفعال داعش الارهابية. كما كان مطلوب من نور ان تعيد قراءة الإسلام وفق المضمون الإنساني والخيّر العادل والمنصف للإنسان: المرأة والرجل. وأوضحت أن محاولة جعل المرأة “دون” وتابعة للرجل من قبل بعض رجال الدين لا يعبر عن جوهر الإسلام الذي يدعم الانتصار لإنسانية المرأة وكمال عقلها وحقها الكامل أن تقود حياتها. وأن ذلك يحصل في الغرب ولكن بخلفية علمانية تبعد الدين عن الحياة. أما هي فإنها ترى أن الإسلام دين حياة تعيشه في نفسها وسلوكها وتريد أن يحصل ذلك لكل المسلمين القادمين كلاجئين الى السويد، لان العلمانية وإبعاد الدين عن أي دور حياتي يجعل القادمين الجدد يخسرون هويتهم الاسلامية مع الوقت.

لقد كان نضال نور ينصب على مواجهة موضوع التأقلم الاجتماعي. حيث يراقبون كدولة العائلات اللاجئة القادمة مع أطفالها. وتحت حجج العنف والتربية القاسية يتم سحب الأبناء من حضانة اهلهم. ليكونوا تحت رعاية أسر سويدية أخرى. وفي أسوأ الأحوال قد يضيع الأولاد في الشذوذ الجنسي والمخدرات وكثير من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في السويد. وفي أحسن الأحوال ينشأ الطفل وقد نسي اهله ولغته ودينه واصبح انسانا آخر…

واجهت نور كل ذلك بطاقة جبارة يدعمها زوجها “الفارس” الذي دعمها كل الوقت. لقد واجهت الكثير من العداء واصبحت ضحية تهكم مجتمعي ومن وسائل الإعلام. ووجدت انها – في وقت ما – غير قادرة لوحدها على خوض هذه المعركة التي تحتاج جهود مؤسسية وعمل جماعي وامكانيات كبيرة على المستوى الثقافي و الإعلامي والمجتمعي…

حصل متغير في حياة نور جعلها تنكفئ على ذاتها. لقد أنجبت من زواجها الجديد طفلة ملأت عليها وعلى زوجها الحياة حبا وحنانا واملا. وبعد ذلك حملت ابنها الثاني وفي وبعد مضي ثلاثة أشهر على حملها. حصلت معها متغيرات جسدية أدت لإجهاضها من حملها…

لقد قلب اجهاض نور لطفلها الى انقلاب نفسي ومعنوي عند نور. ظهر الاجهاض عندها على أنه نكبة في حياتها. فبعد معاناة الاجهاض والعلاج من تبعاته و تجريف رحمها. استمرت تحلم بابنها الذي خسرته. طفلا او طفلة وبقيت لوقت طويل جدا تستحضره وتتحدث معه وتناجيه. أخذ ذلك الكثير من ذاتها وجعلها تدخل في حالة اكتئاب بالكاد خرجت منه. كانت طفلتها الصغيرة تقدم لها بعض العزاء النفسي. وكذلك احتضان زوجها لها واستيعابها ومراعاتها وتلبية جميع احتياجاتها، دورا في تجاوز ما عاشته. بالطبع نسبيا. ولم يجعلها تعود إلى نفسها وتقبل بالذي عاشته. الا عندما تذكرت واقع السوريين وان الكثير منهم قد استشهد يعني فقد حياته. وهناك من خسر اسرته او بعض عائلته أو من اطرافه او دخل المعتقل ولم يعرف مصيره. كما أخبرها الطبيب أنه قد يكون سبب الاجهاض عندها مشكلة في تكوين الجنين جعلت اجهاضه افضل من ان يولد بعاهة تجعله يعيش عمره في مأساة مستمرة. وكان ختام صبرها وتقبلها لإجهاضها وخسارة طفلها قبولها بقضاء الله وقدره. فالله المعطي والآخذ وليس علينا إلا القبول ولسان حالنا يقول : الحمد لله رب العالمين.

تنتهي السيرة عندما تصل نور الى قناعة أنها عاشت حياتها وكانت ممتلئة وراضية عن نفسها بما فعلت، وإن في الحياة سلبيات وايجابيات وأنها عاشت في حياتها كسفينة نوح عانت من الصعاب واستقرت أخيرا في حياتها الراضية عنها الآن مع زوجها وطفلتها الصغيرة واولادها الذين كبروا وبدؤوا يشقون طريقهم في الحياة…

في التعقيب على سيرة . امرأة في حضن العاصفة ل نور ملاح اقول :

اننا امام امرأة انتصرت إنسانيتها في كل مافعلته ونجحت بكل المقاييس. رفضت أن تكون ضحية النظرة المتخلفة للمرأة. التابعة للرجل والتي مهمتها المنزل والإنجاب والطاعة. تعلمت وحصلت على الشهادة الجامعية. و تثقفت بحيث أصبحت مطّلعة على أحوال العالم والعلم والتغيرات في الدنيا. كانت متصالحة مع نفسها ومع اسلامها. رفضت ان تقبل التأطير المجتمعي ولبعض رجال الدين للإسلام وللمرأة ودورها. كانت منتصرة لتضافر فهم الإسلام المتوائم مع العلم بتطوراته المعاصرة. وكذلك تجاه موضوع المرأة وان تأخذ دورها الإنساني المجتمعي كاملا وعلى كل المستويات. لقد كانت معاناة نور تعطيها القوة لتنطلق من جديد. غربتها وهي طفلة وإصرارها على التفوق. زواجها وقمعه لها وظلم عائلته وصبرها عليهم لأجل أطفالها. ومن ثم ثورتها على ظلم زوجها التي واكبت الثورة السورية، وادت لطلاقها من زوجها واحتضنت أولادها وعملت في مناشط الثورة إعلاميا. وبعد ذلك غربتها الى السويد و لقائها الرجل الشهم الذي سيكون زوجها مرة اخرى، يعوضها نفسيا وحياتيا وعلى كل المستويات عن كل خساراتها السابقة. جاء وكأنه هدية الله لها على صبرها وما عانته ونضالها في حياتها…

انتصرت لاسلامها ولكونها امرأة ولإنسانيتها. ورفضت العنصرية والتنمر حيث وصلت في السويد. عاشت حياتها كل الوقت راضية بعطاء الله لها…

نور ملاح هي المرأة النموذج القدوة التي يجب ان تتعلم منها نسائنا العربيات المسلمات …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى