مُفترَض أنّ العلاقة بين الوطنية والمواطنة طردية، فكلّما ترسّخت المواطنة قانونيّاً ونظريّاً وتطبيقاً، ازداد الشعور بالوطنية. فالمواطنة، في أبسط تعريف، مجموعة الحقوق والواجبات التي تترتب من عيش الفرد في دولة ما، تنظّمها علاقة الدولة بالفرد في المجتمع الذي تديره. عندما تتحقّق الموازنة السليمة بين هذه الحقوق والواجبات، ويضمنها دستور الدولة وقوانينها، من دون تمييز بين الأفراد والجماعات، التي تعيش تحت سلطة الدولة، ويشعر الفرد بكرامته وأمنه وطمأنينة عيشه، فإنّ شعوره بالانتماء إلى هذه البقعة التي يعيش فيها، يقوى ويصبح أكثر مناعةً وتحصيناً.
لكن، عندما تختلّ هذه المعادلة، ويصبح الفرد يعاني انتقاصاً في حقوقه، أو تصبح فئات من الشعب أكثر حظوةً لدى الأنظمة، وتستحوذ على نصيب أكبر فيما يتعلّق بالحقوق، وبالمساهمة في صنع القرارات، وبغيرها، ممّا هو قضايا مشتركة لدى الجميع، أو عندما يُمارَس التضييق على مجموعات معيّنة بشّأن ما تعدّه ثقافةً تخصّها أو تعبيراً عن نفسها، فإنّ الوطنية تتراجع إلى خطوط خلفية لتحلّ محلّها في الوجدان الجمعي مشاعر أقوى تنمّي وتعزّز الانتماءات الأضيق، دينيةً كانت أو طائفيةً أو قوميةً أو عرقيةً أو جندريةً أو غيرها، ممّا يمكن أن يكون حالةَ ثراء للدولة والمجتمع، فيصبح عاملَ تفرقةٍ وتقسيمٍ وتبديدٍ لمقوّمات الحياة القادرة على النمو والاستدامة. هذا ما يمكن عدّه ملمحاً كبيراً من ملامح انتكاسات شعوب المنطقة، خاصّة في سورية ولبنان واليمن والعراق والسودان، وأكثر من ذلك في المنطقة العربية.
الواقع الحالي، خاصّةً لما يُعرف بمحور المقاومة والممانعة، يظهر هذا التهتك في المفاهيم والمجتمعات، فمنذ حرب أكتوبر 1973، ولدت وكبرت أجيال يملؤها شعور وطني عارم، يتفاقم حتّى يتماهى مع مشاعر قومية عاتية بأنّ هناك عدوّاً جبّاراً يهدّد أمن وأمان ومستقبل هذه الأمّة، ويحتل دولةً عربيةً، وأجزاء من دول أخرى، يضمر مشروعاً توسعياً هو إسرائيل، وهذا صحيح وليس كلاماً في الهواء، ولقد كانت هذه القضية “مواجهة هذا الكيان الغاصب والتصدّي له والممانعة في وجه المؤامرات والنيّات الإمبريالية في المنطقة” هي الهدف الأكبر الذي تشهره الأنظمة في وجه شعوبها، شمّاعةً تُلقِي عليها ما تمارسه من استبداد وقمع، وإقصاء شعوبها عن العمليات السياسية والمشاركة في صنع القرارات المتعلّقة بها. في المقابل، كانت هذه الشعوب تغرق اطراداً في حالة من الاستنقاع وانتهاك الحقوق وتضليل الوعي، متروكةً لمرجعيات ساهمت الأنظمة في تقويتها وتعزيزها، خاصّة المرجعيات الدينية، التي عزّزت ازدهارها، إن كان بإشرافها وقيادتها من طريق طبقة رجال الدين المتحالفين معها، تبسط سيطرتها على المجال العام وتغذّي في ضميره الولاء للحاكم، أو من طرق مواجهة الجماعات التي عارضتها، وفتحت جبهات معها، فكان العنف الممارس أداةً فعّالةً لاستيلاد وتنمية فئات من المجتمع راحت تزداد وتكبر ترى في النظام السياسي القائم عدوّها الأكبر، وازدادت بالتالي الفجوة بين المواطنة والوطنية، حتّى صار الشعب منقسماً بين طوائفَ وجماعاتٍ وفصائلَ تُحارب بعضها بعضاً، وتعقد تحالفاتها مع جهات خارجية وفق قواعد هي أبعد ما يكون من الوطنية، بل تحتكر الوطنية وتخوّن من يخالفها في انتمائها وولائها. هذا ما وقع في دول ما سُمِّي “محور الممانعة والمقاومة”، وأكبر مثال عليه سورية المقسّمة اليوم مناطقَ نفوذِ واحتلالاتٍ عدّة، والعجيب في الأمر أنّ الأطراف المتصارعة فيما بينها، من مكوّنات الشعب السوري، تجتمع على أنّ إسرائيل عدوّةً للأمّة العربية والإسلامية، لكنّ العداوات الأخرى لا تراها بالعين نفسها، فقسم من الشعب يرى في إيران السندَ الأكبر والحليفَ الأصدقَ في مواجهة العدوّ الإسرائيلي، ووجودها الفعلي في الأرض أو من طريق فصائل مسلّحة أو تنظيمات عسكرية وحزبية، وإدارة صراعاتها مع إسرائيل والولايات المتّحدة والغرب على تراب هذه الدول وعلى حساب شعوبها، لا يُعَدُّ انتقاصاً للسيادة أو مصادرةً للقرار، في المقابل ترى في تركيا مُحتلّاً يسيطر على جزء كبير من الأرض السورية، وتعدّ الوجود التركي احتلالاً. يقابل هذا الفريق فريقٌ آخر يرى في تركيا الضامنَ الوحيدَ لمصير الشعب السوري، والمناصرَ الوحيد لقضاياه، بل إنّ المناطق الواقعة تحت نفوذها ترى في الدولة التركية الوطنَ الحقيقي لها، فهي تخضع لإدارتها وعملتها ومشروعها السياسي، أمّا إيران بالنسبة إليها فهي مُحتلّ عدوّ للشعب السوري، من دون أن نُغفِل التوصيفات العنصرية والطائفية التي يردّدها جمهور كلّ طرف، فيرى في تركيا احتلالاً عثمانيّاً، ويرى غيرهم في إيران احتلالاً صفويّاً أو مجوسيّاً”. هذا إذا لم نتوسّع في وصف الواقع لنشمل مناطق الإدارة الذاتية والنفوذ الأميركي، أو النفوذ الروسي وهيمنة روسيا الاتحادية على القرار السوري.
الشعور بالسيادة وكرامة الوطن، والوطنية، تراجع إلى مواقعَ عميقةٍ في الوعي الجمعي أمام هول المصير المظلم الذي وصلت إليه أغلبية الشعب السوري
من محور “الممانعة والمقاومة” الذي تجرّعته الأجيال على مدى عقود من دون أن تعرف الشيء الكثير عنه، الذي بدأ بالتشكّل بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وارتبط بحرب بين الولايات المتّحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، وانتهى به الأمر بعد العام 2011 إلى أن أسّست إيران أذرعاً عسكرية لها في الشرق الأوسط، من حزب الله في لبنان، إلى فصائلَ مُحارِبة تابعة لها في سورية، إلى جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، فالحشد الشعبي في العراق، بالإضافة إلى دعمها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي في غزّة، وإدارة معركتها مع إسرائيل مواكبةً للحرب في غزّة، من بُعد، أو من طريق أذرعها في المنطقة، من دون أن يكون هناك وميض في نهاية أيّ نفق من الأنفاق المتوزّعة بين هذه الدول، من اليمن إلى سورية ولبنان، ثمّ فلسطين.
هذا ما كان شأن جبهة “المقاومة والممانعة”، لكن اليوم يطرح الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان طرحاً جديداً، هدفه المُعلَن قضية فلسطين، وأطلق دعوة إلى إنشاء تحالف إسلامي لوقف الغطرسة الإسرائيلية، لم يكشف عن تفاصيل التحالف الذي وصفه بالضروري، قال إنّه يتعيّن تشكيل تحالف ضدّ التوسّع الإسرائيلي المتزايد، حدّد التحالف بأنّه يبدأ بين تركيا ومصر وسورية ولبنان لوقف إرهاب إسرائيل، ووصف الخطوة بأنّها الوحيدة التي ستوقف الغطرسة الإسرائيلية.
تأتي هذه الدعوة مع التكثيف الإعلامي عن التقارب السوري التركي، ولقد صرّح وزير المصالحة الوطنية السابق في دمشق، علي حيدر، إنّ دمشق وأنقرة أقرب من أيّ وقت مضى لعقد اتّفاق بين الجانبين، مُستبعِداً لقاء الرئيسَين في الوقت الحالي، خصوصاً بالوجود العسكري التركي في الأراضي السورية إلى الآن. وهذا أمر واقع، مثّل واقعيةَ الوجود الإيراني، وهو من الأمور الخلافية بين البلدَين، تحتاج إلى ترتيب وربطها مع الأمور الأخرى.
لم يعد الانتماء إلى سورية مهمّاً، بل صارت هناك انتماءات أقوى طائفية ودينية وقومية تحدّد مفهوم الوطنية والمواطنة
ماذا يمكن القول عن “الانزياحات السياسية” وتغيير التحالفات، مع بقاء القضية الفلسطينية العنوان العريض لهذه التحالفات القديمة والجديدة؟ ما الذي يمكن توقّعه من مفاعيلَ سياسيةٍ وفي أرض الواقع، ما دام الشعب السوري تشظّى على مدى ما يقارب عقداً ونصف العقد من الاقتتال البيني، والتحالفات مع قوىً خارجية، لم تكن في يوم من الأيام صديقةً للشعب السوري، كما ادّعت، وغيرها الذي ادّعى الوقوف إلى جانب النظام الواقع تحت مؤامرة إمبريالية كونية؟
ما يحزّ في النفس أنّ الشعور بالسيادة وكرامة الوطن، والوطنية، تراجع إلى مواقعَ عميقةٍ في الوعي الجمعي أمام هول المصير المظلم الذي وصلت إليه أغلبية الشعب السوري، فصارت الاعتداءات الإسرائيلية المُتكرّرة، التي ازدادت وتيرتها في آخر أشهر (أشدّها وقعت ليل الأحد على مدينة مصياف في محافظة حماة) لا تُحرّك المشاعر الوطنية كما في السابق، فالشعب، في مناطق النفوذ وسلطات الأمر الواقع كلّها، يعاني أزمات حياتية قاهرة يلقي تبعاتها على أعداء موزّعين بين تركيا وإيران والولايات المتّحدة وروسيا من جهة، ومن جهة أخرى لم يعد الانتماء إلى سورية هو المهمّ، بل صارت هناك انتماءات أقوى، انتماءات طائفية ودينية وقومية تحدّد مفهوم الوطنية والمواطنة، أمّا سورية المستباحة أرضاً وبحراً وجوّاً، فلم يعد لديها، حتّى لو توفّرت النيّة الصادقة بتحرير أرضها من أشكال العدوان كلّه، القدرة على ضبط الأمور، بعد أن كانت هناك جبهة واحدة، فيما مضى، يقاتل عليها “الجيش العربي السوري” ضدّ عدو واضح خيضت معه حروب عدّة، لم تكن فيها سورية (ولا غيرها) منتصرة. اليوم تعدّدت الجبهات، خاصّة الداخلية منها، وازدادت الحروب بين مكوّنات الشعب، واستُنزِف “الجيش العربي السوري” في الجبهات الداخلية، واستُنزِفت طاقات الشباب السوري في الحروب الداخلية، وأصبحت المقادير في أيدي الأطراف الخارجية التي “تباري” الشعب السوري في وطنيّته وقوميته وحربه الوجودية مع إسرائيل. بينما المصالح هي الغاية والهدف لدى جبهة المقاومة والممانعة السابقة، وجبهة التحالف التي يدعو إليها الرئيس التركي أردوغان الجديدة، أمّا الشعب السوري فـ”مش عارف طريقه”.
المصدر: العربي الجديد