تحلّ الذكرى الثامنة والستون لثورة ٢٣ يوليو على الأمة العربية وهي في أتعس حالاتها من تشرذم وضياع، واحتلالات غربية وشرقية تؤسس لتقسيمات جديدة ستكون أخطر من سايكس- بيكو وتداعياتها. وستكون الذكرى فرصة لحاملي الشعارات ورافعي الرايات الموسميين لوقفة يوم واحد، أشبه ما يكون بأيام الحداد، حيث يغلب الحنين وتتأجج العواطف وتتكرر على المسامع مقولات الثورة وإنجازاتها؛ وأكثر المحتفلين تراهم من فئة التجار الذين سلكوا درب الاستعطاء الذي بدأ منذ سبعينات القرن الماضي، وما زال سالكا ومجزيا، يستجدون أعداء الثورة وأشد الحاقدين على القائد جمال عبد الناصر. ومعظم أولئك التجار المستعطين يتكلمون باسم حركات وتنظيمات وأحزاب ناصرية، ويبدلون مقولات الثورة ومبادئها حسب متطلبات المرحلة وحسب أسواق النفط والغاز. وفي المقابل، سنرى الأقلام المأجورة لذوي النفوس المسعورة والمتحاملين على ثورة ٢٣يوليو، يخوضون معركة تهشيم جديدة، وبعضهم يرتبط بالمخابرات الغربية وآخرون من دعاة التكفير الإسلامي الذين يدّعون عداء عبد الناصر للإسلام، ومن رأسماليين أثروا في عهدي السادات ومبارك من انتهازيين يغلبون مصالحهم الشخصية على مصالح الأمة، في مقولات مجترة مكررة، وفي مواقع إعلامية تدفع بسخاء. وهؤلاء فاشلون لأن الناصرية باقية بقاء مصلحة المواطن العربي في الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية، كما هي باقية في وجدانه وانتمائه. وفي هذه المناسبة، حريٌ بنا أن نعترف أن التجربة باتت اليوم أحوج إلى المراجعة والنقد أكثر من أي وقت مضى لأن الجمود العقائدي للناصريين فرّق سبلهم ودروبهم، وصاروا أشبه بقطيع ماشية هاجمته الذئاب وشتت شمله؛ وكأنّ المراجعة لا تعني أصحاب التجربة لأن الصوت النفعي غلب على الصوت العقائدي، وكأنّ الثورة صارت من التراث، نتذكرها مرة كل سنة!! والسؤال المحيّر في عصرنا الحاضر، على أبواب العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، هو: أين هم الناصريون؟ والإجابة محزنة بلا شك! فالتفرق سمتهم الطاغية، والتناقض غلب على ممارساتهم، فهم مشتتون ويدعون للوحدة، وهم يؤيدون الطغاة والفاسدين وينظّرون للحرية وللديموقراطية، وتراهم أبعد الأحزاب العربية عن منطلقاتهم الفكرية؛ وليست مواقفهم من الحروب العربية العربية سوى تعبير أليم عن واقعهم، وتراهم شيعا يتوزعون الولاءات بين دول تحارب القومية العربية وتعتبر جمال عبد الناصر وثورة ٢٣ يوليو هاجسا لا يزال يقلقها بعد مرور ٥٠ عاما على رحيله. حتى أنهم ألبسوا عباءة جمال عبد الناصر لتيارات دينية ومذهبية تعمل ليل نهار على شق الصف العربي، وتحويل الدول العربية إلى أدوات صراع ونفوذ بين قوى متحاربة تحارب باسم العروبة والإسلام وليس لها ارتباط بهما إلا باللفظ وبالشكل فقط. وهنا نتساءل: هل من أمل؟ الخلاص يكمن في تصدي قيادات تحمل الهم القومي لمراجعة فكرية نقدية لثورة ٢٣يوليو، ومساراتها الفكرية والتنظيمية والسياسية، بمقاييس عصرية علمية غير متغربة عن الواقع العربي، بما فيها الفصل بين الثابت والمتغير، والاتفاق على ميثاق أخلاقي جامع؛ ثم الدعوة إلى مؤتمر قومي عام يناقش خلاصات المراجعة الشاملة في سعي لتوحيد الخطاب في كافة القضايا المصيرية؛ وإلا ستبقى الناصرية صرخة في واد، وجسر عبور لصيادي الفرص والمناصب.
381 2 دقائق