تتحدد استقلالية القرار السياسي بالوعي السياسي، ففي السياسة لا يوجد عناد أو ثبات بدون معنى أو بدون فعالية، والوعي السياسي وحده يفتح الطريق أمام الخيارات المتاحة، بل ويضيف عليها , وعدم امتلاك الوعي السياسي أو امتلاك وعي سياسي منخفض , يؤدي تلقائيا إلى الوصول لحائط مسدود سواء كان ذلك عاجلا أم بعد حين .
وعند الوصول لحائط مسدود يتعين على السياسة أن تنحني للقوى الأخرى , وأن تضحي ببعض الاستقلالية أو كلها لتتمكن من الاستمرارعلى قيد الحياة , ومهما كانت النوايا حسنة في البدء , فلابد من الإنحناء وفقدان شيء من الإستقلالية على أقل تقدير , فما أن يصبح الكيان السياسي فاعلا ضمن اللعبة حتى يبدأ بالخضوع لقوانين السياسة وأول تلك القوانين هي البقاء على قيد الحياة وسط عالم يشبه عالم الغابة .
الوعي السياسي هو كالسلاح بيد الجيش المقاتل , فبفضله فقط يمكن شق الطريق نحو الأمام , باعتبار أن من غير الممكن البقاء ساكنا وسط الطريق , فإما السير نحو الأمام أو الخروج خارج الطريق , وفي العادة لا أحد يرغب في الخروج خارج الطريق.
يشبه الوعي السياسي أيضا امتلاك مصدر للنور وسط الظلام , فعن طريقه يمكن تمييز مايحيط بنا من عقبات ومن أفخاخ وبمقدار مايكون الوعي السياسي مرتفعا بمقدار المسافة التي يصل إليها النور وتكون الرؤية ممكنة وواضحة .
لكن من أين يأتي الوعي السياسي ؟
الوعي السياسي ليس تابعا بسيطا للثقافة خاصة الثقافة المدرسية بما في ذلك الثقافة الأكاديمية , ذلك لايعني أن الثقافة المدرسية أو الأكاديمية غير ذات جدوى , لكنها لاتمنح تلقائيا الوعي السياسي , وفي الواقع نرى أفرادا بسطاء بتعليم محدود يمتلكون من الوعي السياسي أكثر مما يمتلكه من هم أعلى ثقافة وعلما .
فالوعي السياسي مصدره إضافة للثقافة العصرية الحكمة التي لابد أن تحتوي العقل النقدي , والخبرة السياسية التي تمر عبر التجربة السياسية والإغتناء بالتجارب السابقة .
أحد مصادر الوعي السياسي هو الفكر السياسي بالمعنى الكلي الانساني وبالمعنى المرتبط بتاريخ الفكر السياسي العربي والوطني السوري .
دراسة الفكر السياسي من مصادرعلمية موضوعية تمنح فرصة الإستفادة من التجارب السياسية السابقة وهكذا يمكن للجيل الجديد الدخول لحقل الممارسة السياسية بحد معين من الوعي السياسي يمكنه من تفادي الأخطاء الكبرى التي وقع بها من سبقه من ناحية ويمكنه أيضا من مراكمة تجربته السياسية الخاصة , فكما يقول السيد المسيح : ” من كان معه يعطى ويزاد ومن ليس معه يؤخذ منه ” .
وبالعودة لعلاقة الإستقلالية بالوعي السياسي , ففي عالم السياسة كما في عالم الحرب تبدأ الأمور تتغير بالنسبة لجميع الأطراف بمجرد البدء بالمعركة , فللحرب قوانينها الخاصة التي تبعدها شيئا فشيئا عن النقطة التي انطلقت منها , ففي الحرب العالمية الأولى بدأت الأمور بمواجهة بين صربيا والامبراطورية النمساوية المجرية وكل التقديرات كانت تشير إلى أن الامبراطورية النمساوية المجرية ستلقن صربيا درسا قاسيا نظرا لانعدام التوازن في القوى بين الدولتين ثم ينتهي الأمر , لكن ماحصل أن الامبراطورية النمساوية المجرية لم تتمكن من فعل ذلك بسرعة مما أسفر عن دخول روسيا الحرب لجانب صربيا ودخول المانيا الحرب إلى جانب الامبراطورية النمساوية المجرية وبدخول الدولة العثمانية وبلغاريا الحرب إلى جانب المانيا وكل من ايطاليا واليونان وبريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة الحرب مع روسيا وصربيا أصبحت الحرب حربا عالمية بكل مافي الكلمة من معنى .
والمهم أنه في السياسة كما في الحرب تنزلق الأحداث كل يوم لتبتعد عن النقطة التي كانت عندها وقت أن دخل الطرف المعني ” دولة أو ثورة أوحزب سياسي أوكيان سياسي ” معترك الميدان السياسي , وإذا كان حديثنا يدور حول الاستقلالية المطلوبة لقيادة الحراك الثوري فلابد لذلك الحراك من معرفة كيف يتمكن من الاحتفاظ باستقلالية قراره وسط ضغوط مختلف الأطراف مع المحافظة على هدفه النهائي بالطبع .
وببساطة لن يتمكن أي حراك ثوري من القيام بتلك المهمة الصعبة سوى بالجمع بين المرونة التكتيكية والصلابة الاستراتيجية , ومثل ذلك الجمع لايمكن تأسيسه سوى عبر وعي سياسي قادر على فهم توازن القوى وأهداف كل قوة من تلك القوى المؤثرة في الميدان .
في سورية الحالية يشبه العمل السياسي الثوري التقدم عبر حقول الألغام , وفي حقول الألغام لاتنفع العواطف ولا الحماس سوى كدافع للتضحية وتحمل الصعاب لكن النجاح والفشل يرتبط أولا وأخيرا بإجادة التنقل بين الألغام دون أن ينفجر تحت أقدامنا لغم يودي بكل المكتسبات السابقة ويعيدنا إلى نقطة الصفر أو ماتحت الصفر .
لن أتحدث عن عمل سياسي يفتقد استقلالية القرار , فذلك أصبح أمرا مفروغا منه في الوعي السوري الثوري الآن , لكن من أجل امتلاك تلك الاستقلالية التي أصبحت هدفا مركزيا وضرورة لابد منها يتعين امتلاك الوعي السياسي المناسب الذي يسمح وحده ببقاء تلك الاستقلالية حتى نهاية الطريق وتحقيق الهدف .
تتحدد استقلالية القرار السياسي بالوعي السياسي لأنه يفتح الطريق أمام الخيارات المتاحة، بل ويضيف عليها.