القانون والدين والدولة فى العالم العربي

نبيل عبد الفتاح

الدين والقانون فى مصر والعالم العربى حالة تاريخية قديمة قبل الأديان السماوية، والتحول التاريخى للمجتمعات الإسلامية متعددة الأديان إلى الإسلام. فى العصور القديمة فى مصر الفرعونية، وبلاد الرافدين -ميزوبوتاميا- كان الدين والقانون فى حالة من التوافق والاندماج النسبى مع أوامر الحكام -أشباه الآلهة- على مثال لائحة حمورابى، وتصوراتهم للضبط الاجتماعى، من أعلى لأسفل الهرم الاجتماعى، وأيضا ثمة دور لا يمكن إغفاله للأعراف وأدوارها فى التنظيم الاجتماعى لهذه المجتمعات، التى كان عنوانها الحضارى، القانون والدين. مع الاحتلال الرومانى والحضارة الهيلنية، أثر الفكر القانونى الرومانى على مفهوم القانون، فلسفيا و”نظريا”، وعلى وضع قواعده، وهو ما شكل نمط جديد من التقاليد والخبرات القانونية أكثر تقدما، وجعل القانون أكثر ارتباطا بالحكم، وتنظيم المجتمع!

لا شك أن مصر فى المرحلة التاريخية القبطية كان نظام الزواج، والأسرة يتبع بعض القواعد الدينية المسيحية، والأحرى اللاهوت الأرثوذكسى ،والتى تأثرت بعض قواعده بالتقاليد القانونية الفرعونية، والرومانية، التى ائتلف بعضها مع القواعد الدينية، واللاهوتية، والأعراف المصرية ومحمولاتها. وعلى صعيد تنظيم المعاملات المدنية/ المالية كانت ايضا القواعد العرفية، هى أساس تنظيم هذه العلاقات فى البيع والشراء والملكية..الخ.

مع دخول الإسلام إلى مصر، والبلدان العربية، استمرت التقاليد القانونية الموروثة وقواعدها، وخاصة الأعراف فى التنظيم القانونى للعلاقات الاجتماعية لفترات تاريخية طويلة – وهو أمر موثق في العقود المدنية التي كانت تكتب باللغة الهيراطيقية-حتى مع تبلور القواعد القانونية لنظام الشريعة، التى تعتمد على عديد المصادر -القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، والعرف، والمصالح المرسلة ..الخ-، ومن ثم أعطى ذلك حركية وتكيفا مع حالات المجتمعات، وتقاليدها وظروفها المتغيرة. لا شك أن تطبيق نظام الشريعة القانوني، تأثر بظروف كل مجتمع وتركيباته، وتوجهات الولاة والحكام، وبعد ذلك الدول. المراحل التاريخية المختلفة لا تزال الدراسات التاريخية حول النظم القانونية العربية الفعلية محدودة وشحيحة تلك التى كانت سائدة قبل الاستعمار الغربى البريطانى، والفرنسى، والإيطالى. إلا أن الملاحظ دور الأعراف البارزة ، والموروثات الخاصة بالحرف والصنائع في التنظيم القانوني للعلاقات بين الجمهور، وذلك فيما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، وفى ظل تطبيق نظام الحدود والتعازير وفق مواقف الولاة والحكام والحالات التي تطبق فيها . استمرت حركية القواعد الكلية للشريعة فى التطبيق، وخاصة فى مجال المعاملات، وفى مجال نظام الأحوال الشخصية -الزواج والطلاق،  والمواريث ، وما يتفرع عنهما.

مع دولة محمد على، بدأ بعض الخروج عن نظام الشريعة فى مجال الحدود، فى مجال جرائم السرقة للمحصولات الزراعية، واستبدال العقوبة الحدودية بالنفى إلى فيزاأوغلى بالسودان، وتبنى مفهوم الاتفاق الجنائى نقلاً عن القانون الجنائى الفرنسى. تم إعادة بناء أجهزة إدارية جديدة لجهاز الدولة، مع تأسيس الجيش المصري مع إبراهيم باشا .

مع حكم إسماعيل باشا، تم أحداث تطويرات واسعة، مع حركة البعثات، وبدأت عمليات استعارة القوانين الغربية الحديثة، من خلال المصادر الإيطالية، والبلجيكية، والفرنسية – علي أيدي المحامي السكندري الإيطالي مانوري -، وذلك للتطبيق فى المحاكم المختلطة، ثم فى المحاكم الوطنية/ الأهلية. هذا التغير مرجعه دمج الاقتصاد المصرى فى النظام الرأسمالى الدولى من خلال تجارة القطن، على نحو تطلب أن تكون القوانين المصرية،  في حالة توافق مع الأنظمة القانونية الغربية. من هنا بدأت بعض الانقطاع عن نظام الشريعة فى المجال الجنائى، وفى المعاملات المدنية، وذلك الرغم من أن الشيخ خليفة المنياوى الأزهرى قام بوضع تقنين مدنى إسلامى، إلا أن هذا المشروع وضع جانبا على الرغم من أنه كان قد وضع على النسق الفرنسى للقانون المدنى، ومرجع ذلك وضعية الاقتصاد المصرى التابع للنظام الرأسمالى الدولى، وطبيعة توجهات إسماعيل باشا الفكرية والثقافية ، وولعه بالنموذج الفرنسى، فى عديد المجالات، وفى التخطيط العمرانى، ونمط البناء.

مع تشكيل الجماعات السلفية، وجماعة الإخوان كانت مسألة القانون والشريعة أحد مطالبهم الأساسية طيلة القرن من المرحلة شبه الليبرالية، وحتى نظام يوليو 1952، وحتى الآن. كان الصراع بين القانون الحديث، ونظام الشريعة، أبرز علامات الصراع السياسى والاجتماعى، بين النظام السياسى، والطبقة السياسية الحاكمة، والجماعات الإسلامية السياسية، وغالبية علماء الأزهر، ودعاة الطرق وفق تعبير العميد طه حسين .

من الملاحظ أن غالب أنظمة القانون المصرى، والقوانين العربية الأخرى، هى جزء من عمليات التغير الاجتماعى والسياسى والاقتصادى والتكنولوجي. من ناحية أخرى غالب هذه الهندسات القانونية والاجتماعية لا تتنافي مع المبادئ الكلية للشريعة فى مجال المعاملات المدنية -والاستثناءات محدودة جدا، اما قوانين التجارة، والصناعة، وغيرها هى أنظمة ارتبطت بتطورات الاقتصادات العربية، وتبعيتها للنظام الاقتصادى الرأسمالى العالمى.

قام عميد القانون المدنى المصرى والعربى عبدالرزاق السنهورى باستخدام المبادئ العامة للشريعة الإسلامية، فى نظرية سوء استعمال الحقوق فى القانون المدنى المصرى، وأيضا كأحد مصادر هذا القانون.

نظم الأحوال الشخصية المصرية والعربية، اعتمدت على الشريعة الإسلامية، والشرائع المسيحية على اختلاف مذاهبها، وأيضا الشريعة اليهودية، وفق المذهبين داخلها.

تصاعد الصراع السياسى على القانون والدين فى ظل حكم الرئيس السادات، فى خلافاته السياسية مع الناصريين، والماركسيين، وبعض الليبراليين المستقلين، وتعاون مع جماعة الإخوان لفترة فى مواجهة خصومه السياسيين.

تزايدت معدلات التوتر السياسى، مع تعديل نص المادة الثانية من دستور 1971، من “الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع” إلى المصدر الرئيسى” . هذا التعديل كان محاولة لتمرير رفع القيد عن مدد ولاية رئيس الجمهورية، من مدتين متتاليتين إلى مدد غير محددة.

لا شك أن ذلك أدى إلى تمسك الجماعات الإسلامية السياسية بضرورة التطبيق الكامل للشريعة، فى كافة المجالات بقطع النظر عن توافق غالبُ هذه القوانين الحديثة والمبادئ الكلية للشريعة، ومع تحولات النظم الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية الحديثة، لأن هذه الجماعات استخدمت المادة الثانية من الدستور، سياسياً فى مواجهة النظام السياسى والسلطة الحاكمة، وتوظيف هذا المطلب السياسى، فى تحريض بعض القواعد الاجتماعية لهذه الجماعات ضد السلطة السياسية، وأجهزة الدولة، وأيضا فى التجنيد الإيديولوجى، والتظيمى للإخوان المسلمين، أو للجماعات السلفية والجماعات الإسلامية الراديكالية على نحو أدى إلى توترات دينية، وإلى مشاكل طائفية عديدة.

لا شك أن إثارة الصراع بين الإسلام، وبين القانون الوضعى، كان من أبرز أدوات الجماعات الإسلامية فى مواجهة النظام السياسى، وأجهزة الدولة، ومحاولة جحد ونفي الشرعية الدينية عنهم.

قامت هذه الجماعات السياسية الإسلامية، فى ظل الصراع مع السلطة الحاكمة، وأجهزة الدولة، فى التمدد داخل النظام الاجتماعى، فى الأرياف والحضر المريف فى المدن، من خلال التركيز على الترميز الدينى للمجال العام من خلال نظام الزى، والعلامات الدينية، وفى اختراق بعض النقابات العامة.

أن التوظيف السياسى للدين فى المجال القانونى، وفى الصراع السياسى مع السلطة الحاكمة -فى مصر- أدي إلى المزيد من الجمود فى الفكر القانونى المصرى، والعربى، وانكسار وكمون الاتجاهات التى كانت تحاول تقديم جسور بين الفقه الإسلامى، وبين الفقه والنظريات القانونية الغربية، على الرغم من التغيرات الكبرى فى النظم القانونية المقارنة، كنتاج للتطور العلمى، وفى مجال الأنظمة التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية.

من الملاحظ أيضا أن الضغوط السياسية الدينية على المؤسسات الدينية الرسمية وتوظيفها لصالح السلطة الحاكمة، أدى إلى هيمنة النزاعات النقلية المحافظة وسط غالبُ رجال الدين، على نحو أدى إلى تراجع الاتجاهات الاجتهادية فى الفكر الدينى، وانزواء الاتجاه التجديدى التاريخى الذى راده علماء الأزهر، منذ الإمام محمد عبده حتى مشايخ الأزهر الكبار، مولانا الشيخ محمد مصطفي المراغي، والشيخ محمود شلتوت الأمام الأكبر ، وعبد المتعال الصعيدى، ومحمد عبدالله دراز وآخرين، وهو ما يحاوله الآن مولانا الإمام الأكبر د. أحمد الطيب . من الملاحظ أن الاقتصاد النيوليبرالى المسيطر عالميا يزيد من تعقيدات الأوضاع الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية فى العالم العربى، فضلا عن مشاكل عمليات التحول إلى الذكاء الإصطناعي، وعالم الروبوتات، وكلها تحولات ستؤدى إلى تحديات ستواجه رجال الدين الرسميين فى مهامهم ووظائفهم، وأيضا على مسألة العلاقة بين الدين والقانون فى عالم يشهد تحولات ستمثل قطيعة مع الحياة والشرط الإنسانى فى ظل عالم فى طريقه إلي مرحلة مابعد الإنسان.

المصدر: الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى