يبدو أن الجهات المعنية في طهران باتت أمام موقف دقيق وتشعر بالإحراج الكبير نتيجة مواقف موسكو التي لا تراعي مصالحها.
في كل هذه الملفات والأزمات هناك دور واضح للاعب الروسي الذي يحاول القضم من الحصة الإيرانية أو تضخيم حصته على حساب الحصة الإيرانية، إما عن طريق الابتزاز والتوظيف في الحاجة الإيرانية، وإما عن طريق الضغط للحصول على مزيد من المكاسب، سواء من إيران أو من المعسكر الغربي.
في أول تعليق له على حادثة سقوط المروحية التي كانت تقلّ رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، والذي كان بمثابة إعلان شبه رسمي عن وفاة الرئيس قبل 12 ساعة من الإعلان الرسمي، وجه المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي رسائل داخلية وخارجية، أكد في الجانب الخارجي منها ثبات الموقف الإيراني من العلاقات التي كانت قائمة في عهد الرئيس والاستمرار في مسار الانفتاح الذي بدأه باتجاه دول الجوار وتعميق العلاقات مع بعض الأطراف الإقليمية، وهي رسائل كان المستهدف فيها الحليف الروسي الذي بدا قلقاً من تطور الأحداث في إيران بعد مصرع الرئيس وما يمكن أن تتركه من آثار على العلاقات الثنائية بين الطرفين، خصوصاً أنها تحولت في تلك المرحلة الدقيقة إلى ما يشبه الطابع الاستراتيجي نتيجة ما يواجهه كلا الطرفين في محيطهما الإقليميين وعلى المستوى الدولي.
وعلى رغم حرص الجانب الإيراني على توصيف العلاقة التي تربط بين طهران وموسكو بالعلاقة الاستراتيجية، إلا أن الجانب الروسي لم يعتمد هذا التوصيف حتى في اللقاءات التي جمعت بين الرئيس الروسي والقيادات الإيرانية والتي كان أبرزها اللقاء الذي جمع فلاديمير بوتين مع القائم بأعمال رئاسة الجمهورية محمد مخبر على هامش قمة دول منظمة “شنغهاي” التي استضافتها العاصمة الكازاخستانية آستانا في الرابع من يوليو (تموز) 2024، ثم في اللقاء الذي جمع بين بوتين ورئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف في الـ11 من يوليو في مدينة سانت بطرسبورغ على هامش قمة رؤساء برلمانات دول مجموعة “بريكس”.
وعلى رغم تأكيد الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان في أول موقف له حول الأطر العامة للسياسات الخارجية للدولة الجديدة، على أهمية واستراتيجية العلاقة التي تربط بلاده مع كل من روسيا والصين، وحرصه على تمتينها ودفعها إلى مستويات جديدة، بمحورية المصالح الوطنية والقومية الإيرانية، وذلك في المقالة التي نشرتها له صحيفة “طهران تايمز” بتاريخ الـ13 من يوليو الماضي، إلا أن الموقف الروسي من هذه العلاقة لم يرقَ إلى وصفها بالاستراتيجية.
أربعة مواقف إيرانية من أعلى قمة الهرم إلى قيادتي السلطتين التنفيذية والتشريعية حول العلاقة الاستراتيجية بين إيران وموسكو، قوبلت في الأسبوع الماضي بموقف روسي صادم يتعلق بالأزمة القائمة حول المعابر البرية بين دولتي أذربيجان وأرمينيا، والتي تسعى باكو مدعومة من الدولة التركية إلى تنفيذ مشروعها الالتفافي بفتح معبر بري “زنكزور” عبر الأراضي الأرمينية للربط بين البرّ الأذربيجاني الرئيس ومقاطعة نخجوان التي تشكل مثلثاً حدودياً بين أذربيجان وتركيا وإيران.
هذا الطموح أو المشروع الأذربيجاني يعني إلغاء أو إسقاط الأهمية الاستراتيجية للممر البري “لاتشين” الذي استحدثته إيران داخل أراضيها للربط بين باكو ونخجوان، مما دفع طهران إلى التلويح بإمكان استخدام القوة العسكرية في حال قررت باكو القيام بذلك، خصوصاً بعدما حسمت الأخيرة نتائج حربها مع أرمينيا واستطاعت استعادة السيطرة على إقليم ناغورنو قره باغ عام 2023.
وأكدت طهران أنها لن تسمح أو تتساهل في أي محاولة لتغيير الخرائط الجيوسياسية في منطقة القوقاز الجنوبي، بخاصة ما يتعلق بالممرات البرية التي تربطها عبر أرمينيا بالشمال الأوروبي.
الموقف الروسي الذي صدر عن الرئيس بوتين خلال زيارته العاصمة الأذربيجانية باكو حول حق الأخيرة في امتلاك ممرّ بري يربط بين العاصمة وإقليم نخجوان، وحديث وزير الخارجية سيرغي لافروف عن عدم التزام أرمينيا تنفيذ اتفاق المعابر والممرات الذي تم الاتفاق عليه بعد حرب 2020 بين باكو ويريفان، استثار واستنفر القيادة السياسية والدبلوماسية الإيرانية التي رأت في هذا الموقف “طعنة” روسية في خاصرتها الشمالية لأن هذا الموقف يأتي في مرحلة من أكثر المراحل تعقيداً، خصوصاً أن العلاقة بين الطرفين من المفترض أن تنتقل في الأشهر المقبلة إلى مستوى جديد من التعاون في ظل الاستعداد للتوقيع على الصيغة النهائية لاتفاق التعاون الثنائي الشامل، فضلاً عن مزيد من الانغماس الإيراني في دعم موسكو عسكرياً وتزويدها بما تحتاج إليه من أسلحة وصواريخ ومسيّرات تستخدم في حربها ضد أوكرانيا.
ويبدو أن الجهات المعنية في العاصمة الإيرانية باتت أمام موقف دقيق وتشعر بالإحراج الكبير نتيجة المواقف الروسية التي لا تراعي المصالح الإيرانية، بخاصة أن الموقف من الموضوع الجيوسياسي على الحدود الشمالية لإيران مع القوقاز الجنوبي وما يمثله من أهمية جيواقتصادية لم يكن الأول من نوعه، فسبق أن تعرضت طهران لإحراج عام 2023 نتيجة البيان الروسي – الخليجي الداعم لحق دولة الإمارات في الجزر الثلاث، وهو الموقف الذي دفع كثيرين من السياسيين الإيرانيين إلى رفع الصوت وانتقاد الصمت الرسمي إزاء الانتهاكات الروسية لما يسمى السيادة الإيرانية.
ولا شك في أن هذا الموقف الروسي الداعم للمشروع الأذربيجاني في الممر البري عبر الأراضي الأرمينية، قد يسهم في تعقيد المشهد بالنسبة إلى اللقاء الأول الذي من المفترض أن يجمع الرئيس الإيراني الجديد مع نظيره الروسي على هامش قمة “بريكس” المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل في مدينة قازان الروسية، خصوصاً أن طهران لم تعُد قادرة على التزام الصمت والتفتيش عن مسوغات استراتيجية وجيوستراتيجية للجانب الروسي الذي يحاول أن يعيد ترميم علاقاته مع أذربيجان التي تعتبر المعبر والممر البري الأخير لموسكو باتجاه أوروبا بعد إقفال الممر الأوكراني، وأن هذا الصمت سينعكس سلباً على المصالح الاستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية لإيران.
من هنا يمكن فهم الإجراء الذي قامت به الخارجية الإيرانية باستدعاء السفير الروسي في طهران ألكسي دافيدوف، وتحميله رسالة واضحة ومباشرة إلى القيادة الروسية تتعلق بالهواجس والمخاوف الإيرانية من أي تغيير في الجانب الجيوسياسي قد يحصل على حدودها مع منطقة القوقاز الجنوبي، وأنها ستتصدى لأي محاولة لفرض أمر واقع كما سبق أن أعلنت استعدادها قبل أكثر من عام للدخول في حرب من أجل الحفاظ على الواقع القائم، إضافة إلى أن هذه المخاوف تتجاوز المخاوف الجيوسياسية في هذه المنطقة الحيوية، لتشمل المخاوف الجيوستراتيجية، خصوصاً أن هذا التغيير المطلوب سيسمح بإعادة تنشيط الطموحات التركية بإحياء مشروع “الهلال التركي” الذي يربط أنقرة بدول وسط آسيا وتشكيل اتحاد الدول الناطقة بالتركية ومحاصرة الدور الإيراني في منطقة أوراسيا، لا سيما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن صراحة رغبة بلاده في الانضمام إلى مجموعة “بريكس” وما يعنيه ذلك من دخوله في المنافسة مع طهران في العلاقة مع موسكو وبناء التوازنات والمعادلات السياسية والأمنية ليس فقط في منطقة أوراسيا، بل في منطقة الشرق الأوسط أيضاً، بالتالي فإن تصاعد الدور التركي قد يسمح لأنقرة بعرقلة الجهود التي تبذلها طهران في المسائل المتعلقة بالحل السياسي في سوريا وأيضاً في التوصل إلى صيغة تفاهم حول الدور التركي في العراق، بالتالي تهديد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، تحديداً ما يتعلق بالدور الذي تسعى إلى أن تكون محوراً أساسياً فيه والمرتبط بطرق المواصلات بين الشرق والغرب من جهة، وبين الشمال والجنوب من جهة أخرى.
إيران التي تواجه صعوبات في الحفاظ على موقعها ومصالحها ودورها في معادلات الشرق الأوسط في ظل الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد قطاع غزة ومآلات هذه الحرب وما ستسفر عنه من معادلات، إضافة إلى مساعيها لإعادة إحياء المفاوضات النووية والتوصل إلى تسوية حول أزمة برنامجها النووي تؤدي إلى رفع العقوبات عنها، باتت الآن في مواجهة إعادة فتح ملف مصالحها في أوراسيا والقوقاز الجنوبي، وفي كل هذه الملفات والأزمات هناك دور واضح للاعب الروسي الذي يحاول القضم من الحصة الإيرانية أو تضخيم حصته على حساب الحصة الإيرانية، إما عن طريق الابتزاز والتوظيف في الحاجة الإيرانية، وإما عن طريق الضغط للحصول على مزيد من المكاسب، سواء من إيران أو من المعسكر الغربي.
المصدر: اندبندنت عربية