ثمة إشارات على فقدان نتنياهو لأعصابه الذي سيطر على أمس، جاءت صباحاً عندما ألغى جلسة الحكومة. الحكومة ليست صورة فوتوغرافية لـ “مرحباً، أيها الصف الأول”، بل هي مجلس إدارة الدولة، وليس من شأنها الذهاب إلى إجازة بوجود مأساة وطنية. هذا الحدث الغريب ذكر بغياب نتنياهو في الساعات التي أعقبت هجوم حماس صباح 7 أكتوبر، والدلائل على عدم القدرة على أداء مهمته.
أمس أيضاً، بتأخير كبير، بعد فترة طويلة من الرئيس الأمريكي ونائبته كامالا هاريس ورئيس الدولة ووزراء وسياسيين آخرين بارزين، نشر رئيس الحكومة فيلم فيديو. كان يمكن أن يقول مضمونه في بداية الجلسة، وحينها كان يمكن أن يطلب من الوزراء الوقوف دقيقة صمت، لكنه اختبأ.
سلوك نتنياهو يثير شكوكاً كبيرة بأن هذا الشخص لا يمكنه أداء وظيفته في لحظة الضغط. وحين يرجع إلى نفسه فهو يرجع أيضاً إلى ماكياجه الثقيل وشعاراته الفارغة وشره، إلى كذاب متحايل. “من يقتل مخطوفين لا يريد صفقة”، حسب تعبيره. وكالعادة، فإن كل ما يجب عليه فعله لتحريك حوار آخر في قاعدته هو عرض ادعاء مضاد يظهر فيه منطقاً داخلياً، وماكينة السم ستتولى ما تبقى.
الإشارة الثانية على ذعره اتضحت في وقت لاحق عندما نشر مكتب رئيس الحكومة إعلاناً بخصوص محادثته الهاتفية مع عائلة ألكسندر لوفنوف، وهو واحد من المخطوفين الستة الذين قتلوا. كانت هناك كلمات لم نفكر في سماعها منه “أعتذر”، “أطلب العفو” (لأنه لم ينجح في إعادة ابنهم إلى البيت). حسب التقديرات، فإن 27 مختطفاً قتلوا بشكل متعمد أو بسبب قصف الجيش الإسرائيلي منذ الصفقة الأولى قبل تسعة أشهر. ولم يتمكن من قول شيء يرمز إلى مسؤوليته عن مصير أشخاص وجدوا أنفسهم بسبب إخفاقاته في يد حماس، وقد امتنع عن ذلك بشكل متعمد، وحتى إنه لم يعمل على الاتصال. “عفواً، عفواً، هي الكلمة الأصعب”، كما غنى ألتون جون. الآن وجد الكلمات.
هاكم صفارة تهدئة لجميع الأبواق ومطفئي النار، المحاربون الذين يجدون الدعم في أحضانهم: لا توجد معجزة طبية، الشخص المنغلق والساخر وعديم القلب لم يظهر أي مرونة ولم يصبح شخصاً إنسانياً بين عشية وضحاها. ولكن جهاز قياس الزلازل السياسي خاصته ما زال حاداً. فقد اكتشف تحولاً كبيراً في الصفائح التكتونية – المظاهرات التي تم تنظيمها في شوارع البلاد، وعلى رأسها المظاهرة أمام وزارة الدفاع في تل أبيب، التي ظهرت كليلة غالنت في طور الإمكان، وإعلان رئيس الهستدروت عن إضراب عام في الاقتصاد، ومبادرات تلقائية لمصالح تجارية خاصة تنازلت عن الأرباح وأغلقت أبوابها، وهي اللحظة التي خافها كثيراً، والتي سيتحول فيها الألم إلى غضب، والتعب إلى طاقة، وستختفي اللامبالاة وسيشتعل شارع أيالون مرة أخرى… هذا المشهد قريب أكثر من أي وقت مضى.
خلال ذلك، ولدت حاجة ملحة لاستبدال المصطلحات. التعبير عن الأحاسيس ولفظ الكلمة التي يحظر قولها. لا شيء أصيلاً لديه، كل شيء مخطط له، وتمت هندسته بشفافية مقرفة. غرق صوته الفارغ في بحر الصراخ والاحتجاج والبكاء الذي ساد في البلاد. ورغم أن الستة مخطوفين قتلوا قبل عقد جلسة الكابنت التي ستبقى في الذاكرة إلى الأبد أو خلالها، فإن قتلهم لا ينبع من قراره الإجرامي بالبقاء في محور فيلادلفيا، إلا أن أغلبية ساحقة في أوساط الجمهور، بما في ذلك اليمين، كانت تغلي غضباً.
المظاهرة في تل أبيب كانت كبيرة جداً، الإضراب العام والجزئي، الذي بدأ صباح أمس انتهى في المساء. سيقول نتنياهو لنفسه: بقيتُ على قيد الحياة، سنواصل قدماً. ولكن محظور السماح بذلك. هذا هو الوقت المناسب للقيام بخطوات جذرية. عائلات المخطوفين ومساندوهم مستعدون لذلك. لقد يئسوا من هذا الزعيم الوحشي، الذي سمته عيناف تسنغاوكر “السيد موت”، وكانت دقيقة في التسمية. لكنها لن تستطيع التأثير وحدها. إذا بقيت أحداث أمس لمرة واحدة فسيستمر “كابنت الدماء” في العمل.
في كل الحالات، من الأفضل عدم زرع الكثير من الآمال. غضب الجمهور الذي تم التعبير عنه في “ليلة غالنت” السنة الماضية (إضافة إلى ضغط كبير من أمريكا)، أدى إلى إلغاء إقالة وزير الدفاع، لكن مصير الحكومة لم يكن في حينه على كفة الميزان. “ليلة غالنت 2” لن تدفع نتنياهو إلى الصفقة، لأن بقاءه الشخصي والسياسي أهم بالنسبة إليه ألف مرة أكثر من حياة المخطوفين.
وزير الدفاع على الجانب، وصراخه في الكابنيت وأمس أيضاً، من أجل تفضيل حياة المخطوفين الذين يقتلون في كل أسبوع، وقعت على من لا قلب لهم أو أذن. عدد من أصدقائه سخروا منه علناً. حتى قبل أن يستيقظ من مناورة التصويت على محور فيلادلفيا، فقد حصلنا نحن وهو على دليل آخر يفطر القلب من كثرة مصداقيته؛ تصعب المبالغة من خطورة الوضع، الجيش والوزير المسؤول عنه يتوسلون من أجل التوصل إلى الصفقة ووقف إطلاق النار. لم يكن هذا جراء الضعف أو بسبب الانهزامية، بل بسبب العقل والمسؤولية والقيم والإنسانية. الزعيم يرفض، وجوقة المنافقين في الكابنيت، الأقل وزناً وحكمة ومسؤولية في تاريخ الدولة، تدعم نتنياهو. يصعب إيجاد مثل هذا الوضع في كتب التاريخ وفي فصول ظلامية في تاريخ دول هستيرية. هم يعرفون أن المعادلة التي ساعدوا هم أنفسهم على تسويقها بخصوص المخطوفين تغيرت منذ زمن. فالضغط العسكري لا ينقذ المخطوفين، بل يقتلهم. هذا غير فظيع، سيجدون معادلة أخرى.
الاحتجاج الذي استيقظ أمس يعزز غالنت أيضاً بشكل غير مباشر. الأغلبية الساحقة من الشعب، التي تريد عقد الصفقة وتضع المخطوفين على رأس سلم أولوياتها، تقف من وراء الوزير وجهاز الأمن. لذلك، محظور على أي شخص، بدءاً بغالنت ومروراً بهرتسي هليفي وانتهاء بنيتسان الون، التزحزح عن منصبهم. في إسرائيل الآن مجلسان مصغران للوزراء: المجلس الموضوعي والعقلاني للأخيرين، والمجلس السياسي والدعائي لنتنياهو ومدمني السلطة. المشكلة أن الكابنت الثاني هو الذي يتخذ القرارات للعقلانيين، وفيه أصبع واحدة، أصبع غالنت، التي تمثل المجلس الأول.
الحكومة بالتشكيلة الحالية لن تصادق على الصفقة يوماً ما. بن غفير وسموتريتش وياريف لفين وميري ريغف وكل مجرمي الكابنيت، بدأوا أمس في وصف المتظاهرين بأنهم كابلانيين، ووصف أرنون بار دافيد، رئيس الهستدروت المريح جداً لأي حكومة في كل الأوقات، بأنه يساري. والهرب الفظ إلى منطقة الراحة، “نحن وهم”، كان متوقعاً منهم. هؤلاء الأشخاص الذين رغبوا في اغتيال ديمقراطية إسرائيل وفشلوا، يتسببون الآن بموت أشخاص من لحم ودم، وينجحون.
في خطابه عديم الفائدة في الكونغرس، استل نتنياهو بابتسامة متغطرسة نكتة مبتذلة نشرتها الشبكات منذ بداية الحرب، “رؤية المثليين وهم يتظاهرون من أجل حماس يشبه رؤية الدجاج وهو يتظاهر من أجل الدجاج المشوي في كنتاكي فرايد تشيكن”. وبنفس الوزن، يمكن القول إن ظهوره والتصريح بشكل مطول في إعلان التشهير والكذب وهو يضع الشريط الأصفر إشارة للمخطوفين، يشبه مشهد الرئيس التنفيذي لماكدونالدز، وهو يحتج من أجل إنقاذ الأبقار.
المصدر: هآرتس /القدس العربي