لابد أن نفترض مسبقا أننا نمتلك في المنطقة عددا من الأفكار، التي نسير وفقها ونستمد منها مواقفنا في السياسة والثقافة والدين والمجتمع. ولن نرضى أن نفترض عدم امتلاكنا لمجموعة من الأفكار، فإن هذا الأمر سوف يجعلنا مثار سخرية أو أقرب إلى حالة الجهل والتيه العام. والحاصل أن العمليات والتفاعلات الشعورية في المنطقة، تحدث بدرجة تفوق بكثير ما يتطلبه الواقع من عمليات التفكير المتواصلة.
إن كثافة وحجم ”الدعاء” المرتفع من المنطقة صوب السماء، لا توازيه كثافة في حجم الأفكار المقترحة فوق الأرض. هنالك أيها السادة فرق كبير بين أن نتصور عملية التحرير العام باعتبارها مشاعر ورغبات، وبين تصورها من الناحية الفكرية، وما يترتب على ذلك من حيث بناء نموذج ثقافي يؤطر عملية التحرر. وترتكب النخب العربية خطأ فادحا، إذ تبالغ في تركيز أفكارها حول إسرائيل وطبيعتها واتجاهات قادتها، وتمنح ذلك اهتماما كبيرا، سوف يحرم قضية فلسطين من الاستفادة من أي جهد فكري، هي في أمس الحاجة إليه بعد سكوت المدافع.
المشاعر حلّت عوض الأفكار
أبحث بإصرار لكي أعثر على إطار فكري لتحولات الموضوع الفلسطيني، فلا أجد ما يمكن اعتباره نموذجا فكريا لتصور مستقبل هذه القضية. هناك الكثير من المشاعر مع قليل من الأفكار، وتبدو النزعات النفسية والشعورية أكثر انتشارا من أي نزعات فكرية. إن الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبرى التي تمر منها المنطقة، تلقى أجوبة وتفاعلا نفسيا، أكثر مما تلقاه من أجوبة وتفاعل فكري. وفي العادة فإن توالد الأفكار يجد البيئة المناسبة أثناء الصراعات والأزمات، لكن الحاصل أن غلبة التفاعل الشعوري، يحرمنا من التفاعل الفكري مع التحولات الجارية.
في مرحلة الاستعمار ولدت أفكار ومفاهيم عديدة تتعلق بقضايا التحرر والتبعية وبناء الدولة والمواطنة. بالمقابل فإن التحولات الضخمة في المنطقة حاليا، تلد المزيد من المشاعر. إن القضية الفلسطينية في الحقيقة المرة، تخوض صراعا عسكريا وسياسيا، عاريا عن الدعم المفاهيمي والإسناد الفكري من طرف النخب، التي تشتغل خطأ بتوقع النتائج والسيناريوهات المحتملة، أكثر من حرصها على تنمية الجهاز المفاهيمي العربي وتجديده، وتزويده بالأدوات المواكبة لإدارة الصراع والمراحل التي تعقبه، بكل ما تحتاجه من زاد فكري.
محاولات فكرية محدودة
هنالك محاولات فكرية محدودة لتأطير الوضع العربي من الناحية الفكرية. ونجد مساهمة في هذا الباب قام بها طه عبد الرحمن، لكنها قد أوغلت في عالم التجريد، وابتعدت عن الصيغة العملية، فالرجل لم يعد يتفلسف كما في السابق، بقدر ما أصبح مهتما بتوليد المصطلحات، التي لا تتضمن محتويات مفاهيمية عملية.
وإذ يجب تقدير مبادرته إلى سد الفراغ الفكري في هذه القضية، فإني أختلف مع طه عبد الرحمن في أن ما يمكن توليده من القضية الفلسطينية، أبعد وأكبر من أن يقتصر على وضع مفهوم مثل ”الشر المطلق” الذي تحدث عنه مؤخرا.
إن المشكلة الأولى هي أن بناء الأفكار الجديدة ينبغي أن يتمحور حول فلسطين، لا حول الجانب الإسرائيلي، أما المشكلة الثانية فهي أن مفاهيم مقترحة مثل الشر الإسرائيلي المطلق، تجريدي غير عملي. إذ لا يمكن تحويل مثل هذه الأفكار إلى برامج ومشاريع فكرية.
تبدو الأفكار والمفاهيم العملية، التي يمكن تزويد الجهاز المفاهيمي العربي بها، مثل الفاعلية والاستماتة أكثر أهمية. بالإضافة إلى إعادة تذكير وتحفيز الوعي العربي والإسلامي بفكرة التيار. إن فكرة بناء صورة المسلمين في العالم، مفهوم أساسي في تصور مرحلة ما بعد الحرب. أما مفهوم” المظلومية” فينبغي حقنه في الجهاز المفاهيمي العربي، لكي يصبح مصطلحا عالميا منتشرا.
إن الكثيرين مازالوا غير مدركين حجم وتأثير استثمار كلمة وفكرة ”المظلومية” في العالم. فقد تأسست على المظلومية الإسرائيلية وجهة نظر ودعم عالمي تاريخي واستثنائي. أجل، هناك مظلومية إسلامية فلسطينية، تحتاج أن تصبح مصطلحا عالميا.
غياب الإشكالات الفكرية
يساوي الحديث عن الأفكار الحديث عن المشكلات الفكرية. وإذا تساءلنا هل لدينا مشكلات فكرية فسوف نصدم بشدة. ذلك أن أقرب الإشكالات الفكرية الكبيرة، التي كانت تستحق الاختلاف حولها ونشوء المواقف نتيجة عنها، تعود إلى منتصف القرن العشرين، عندما بدأ اليسار والتيارات الإسلامية يتناقضان بجدية حول الدين والدولة والديمقراطية والمرأة والحقوق والحريات.
لسنا منشغلين في الوقت الحالي بمشكلات فكرية عميقة، توحي بوجود آراء واتجاهات تدافع عن أفكارها وتفسيراتها للقضايا والأحداث. وقد قدمت التجربة أجوبة عن موضوع اليسار والإسلاميين والسلطة. وكشفت عن درجة واقعية الطروحات النظرية لتلك المكونات، وحدودها الممكنة في العالم. كما أصبح النقاش حول قضايا الحريات الفردية الشائكة، أكثر ابتعادا عن الأطر الفكرية والتنظيمية. وباتت المقاربات القانونية الرسمية للسلطة، تتكفل بإيجاد الترتيبات والحلول الخاصة بتنظيم الحريات في المجتمعات العربية.
لقد سقطت من جدول أفكارنا الحالية، موضوعات أساسية مثل النهضة والإحياء والتجديد ومستقبل الديمقراطية. ويبدو أن “التدبير” في المنطقة يتفوق على “التفكير”. ذلك أن مهنة التفكير تبدو متعبة جدا، بالنظر للخصائص النفسية التي يمتلكها الفرد العربي الحالي. وهي خصائص أصبحت متأثرة بعملية الإدارة للشؤون العامة، بعيدا عن الأطر الثقافية. وعندما نتعامل مع السياسة أو الرياضة أو المجتمع والدين، فإن آلية التدبير هي التي تتحكم في الموضوع. بل إن تدبير الثقافة نفسها لا يتوقف بالضرورة على الثقافة.
المحتوى الثقافي العربي
يتكون المحتوى الثقافي في المنطقة من سلسلة من التدابير، التي تكتفي بتنظيم وإدارة المعطيات الثقافية الموجودة حاليا، لا الأفكار التي هي في حكم الغائب. إن وزارة الثقافة العربية لا يمكنها أن تشجع على إبداع فكري مفقود أساسا.
لقد أصبح البحث عن إشكالية ثقافية من أجل تحليلها، أو الاستمتاع بمشاهدة قدرات وإمكانات المثقف والعقل العربي على تفكيكها ومناقشتها مطلبا صعبا. والواقع أن المنابر الثقافية العربية الرسمية والخاصة، باتت تعاني من شح المحتوى العربي وفقره، فتختار أن تبعث مشكلات الماضي الفكرية، لجعلها مادة اليوم، أو تستنجد بما ينجزه الغرب من أطروحات وأفكار.
هناك مفارقة كبيرة تدعو للاهتمام والملاحظة، وهي أن المنطقة العربية لم تعد تنقسم مثل السابق، حول الأفكار الآتية من الغرب بالحدة نفسها. ففي القرن الماضي كانت النظريات والأفكار الغربية تحدث انقساما اجتماعيا وسياسيا وثقافيا بين مكونات المنطقة. وبالمقابل فقد تراجعت حدة الانقسام.
ويمكن أن نلاحظ أن الذهنية العامة، باتت تستثقل عددا من القضايا مثل العلمانية والحداثة. أما قضية مثل تنامي اليمين المتطرف في أوروبا، فلا يخلق في المنطقة نقاشا فكريا عميقا، بقدر ما يمثل حالة سياسية فقط. بينما يمثل الشذوذ الجنسي المتنامي نقاشا مجتمعيا دينيا، لكنه مفتقر بشكل كبير لإطار فكري عربي معاصر.
لقد أزاح السياق العام السائد منذ التحولات في المنطقة عام 2011، حتى النقاشات الفكرية السابقة على تلك المرحلة ووضعها جانبا. وأنهت هزيمة الإسلاميين مفعول أفكار عديدة كانت ترتبط بهم.
أضيف ملاحظة أساسية حول المنطقة، وهي تنامي الرغبة والميل نحو التاريخ وموضوعاته، التي باتت تشكل مادة أساسية في مختلف أدوات التواصل. إن اختفاء الأفكار يجعل المجتمعات تتجه نحو التاريخ بكثافة، لكن التاريخ يقدم التجارب، ولا يقدم الأفكار. أما الخطورة فهي أن يتحول المفكر والمثقف إلى راوية وحكواتي، يستقطب الناس برواية الأحداث لا بإبداع الأفكار.
وقد وجدت نفسي في كثير من المناسبات الفكرية، يتم استدراجي نحو الحديث عن التاريخ، وما يقوله عن الوقع والمستقبل، لا عن الأفكار وما تقوله عن الحاضر والآتي من الأيام. إننا سوف نجد صعوبات بالغة إذا أردنا أن نبدع أفكارا، انطلاقا من طبيعة النقاشات الجارية في المنطقة.
وأيّ أفكار يمكن استخلاصها من حالة الضجيج؟ فلا يمكن اعتبار الضجات التي تثور بين الفينة والأخرى حول البخاري والسنة، نقاشا فكريا علميا عميقا ذا جدوى. إن هذا الأمر يدل على حالة التيه أكثر من دلالته على اجتهاد فكري في اتجاه معين.
إن غياب المشكلات الفكرية العميقة، هو الوجه الآخر لغياب الأفكار في المنطقة. وعندما لا يجد الكثيرون قضايا ذات أهمية يمكن أن تكون محور حراك ثقافي، ينشأ عن ذلك نزوع نحو استهلاك المحتويات الثقافية السابقة، واستنزافها وإعادة صياغتها في قوالب إشكالية انقسامية، بعد أن كانت تنتمي في الماضي إلى قوالب اتفاقية، تحترم العقل والإنسان.
كاتب مغربي
المصدر: القدس العربي