الدولة العميقة والعلويون في تركيا

ألتان تان

المجتمع “العلماني الحنفي” نظر إليهم على أنهم “شواذ” وتعرضوا لإقصاء وحظرت محافلهم وطقوسهم عند المراقد.

أيام العثمانيين حاولت الدولة جعل المواطنة هي الأساس في المجتمع بسبب تنوع الديانات والأعراق، لكن هذا التوجه فشل فلجأت إلى “الأسلمة” كي يكون الإسلام هوية تحافظ على التماسك وما لبث أن فشل هذا التوجه أيضاً، فلجأت في نهاية الأمر إلى القومية لتحديد هوية الدولة الجديدة.

خلال الأعوام الـ130-140 الماضية عاشت تركيا سلسلة من الأحداث المفصلية والتاريخية سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو العسكري، تلك الأحداث الكبرى لا يبدو أنها مرتبطة ببعضها بعضاً، لكن ثمة من لديه وجهة نظر تقول إن هناك عقلاً عميقاً “دولة عميقة” ربما تكون هي وراء كل ما جرى ولديها خطط استراتيجية بعيدة المدى.

خلال الأعوام الـ40 الماضية كانت القضية الأهم التي تشغل الأجندة التركية هي القضية الكردية وتداعياتها، ومن ثم الحروب التي جرت بين تركيا من جهة والمسلحين الذين يطالبون بدولة كردية مستقلة من جهة أخرى.

بداية هذا الصراع أو هذه القضية كانت خلال عام 1978 عندما بدأ بعض الأكراد في انتفاضة ضد الدولة التركية، وهذا تزامن مع فترة سميت في تركيا بـ”قتال اليمين واليسار” وهناك من أطلق عليها اسم “قتال العلويين والسنة”، هذه الفترة كانت حقبة سوداء ومرت على تركيا بعواقب ثقيلة ومؤلمة للغاية.

خلال ثمانينيات القرن الماضي كانت المناطق التي يعيش فيها العلويون بكثافة في تركيا مثل كهرمان مرعش وغوروم وملاطيا وسيواس وأديامان الواقعة عموماً في شمال نهر الفرات، كانت مناطق مغطاة بالدماء، فمن ناحية كان هناك صراع بين اليمين واليسار في المدن الكبرى، وكان هناك صراع دموي من ناحية أخرى تحت اسم الصراع العلوي-السني.

خيارات المواطنة والأسلمة

تركيا (الدولة العثمانية-الجمهورية التركية) خلال الـ150 عاماً الماضية كان تعاملها مع قضايا الأقليات مختلفاً بين حقبة وأخرى وكانت هناك مقترحات وآراء متعددة في هذا الشأن، بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية فهي كانت دولة كبرى متعددة الأعراق والأديان والطوائف وحتى اللغات، كان فيها عرب وأكراد وأتراك وغيرهم وكان فيها إضافة للأكثرية المسلمة عدد من الديانات والطوائف، وللتعامل مع هذا التنوع الهائل اقترح قانون أشبه ما يكون بقانون “المواطنة”، بحيث إنه إذا تم “إعطاء الجميع حقوقهم وقوانينهم وإجراء إصلاحات جذرية في السلطة، فيمكن في هذه الحال جمع كل هذه الشعوب والأديان والطوائف تحت سقف واحد من دون انقسام أو تشرذم”، لكن في حقيقة الأمر لم يحدث ذلك.

لم يكن خيار جمع الأديان والأعراق تحت سقف الإمبراطورية العثمانية ناجحاً وبخاصة في ما يتعلق بالمسيحيين، إذ سلك البلغار واليونانيون والرومانيون والهيروفيون والصرب والأرمن في الأناضول طريقاً مختلفاً تماماً عما كانت تريده السلطات العثمانية.

كما هو معروف فإن اليونان حصلت على استقلالها للمرة الأولى خلال عام 1828 وأنشئت أثناء هذا العام دولة جديدة خاصة باليونانيين، ومع تأسيس هذه الدولة التي اتخذت من أثينا عاصمة لها اختار المواطنون “العثمانيون اليونانيون” مغادرة الأناضول إلى اليونان الجديدة، لكن هذا الأمر لم ينطبق على كامل الأراضي التابعة لليونان إذ إن مدينة سالونيك ظلت تحت الحكم العثماني حتى عام 1913.

إذاً بالنتيجة، فإن مقترح “المواطنة” أو مساواة جميع الأعراق والطوائف بالمواطن العثماني الأصلي لم تسفر عن نتائج مرضية فتم الاتجاه إلى طريقة أخرى في محاولة لتماسك هوية الدولة، الطريقة الجديدة هي “الأسلمة” أو ما يطلق عليه اليوم اسم “الإسلام السياسي” وكان أول من سار على هذا النهج بصورة مباشرة هو السلطان عبدالحميد الثاني الذي تمكن من تجديد الخطاب الديني، واتجه لشرح الإسلام بصورة أوضح لمواطني الدولة العثمانية وكان يسير في سياسة تهدف إلى “تماسك المسلمين” بعيداً من العرق، وغالب المسلمين ممن هم رعايا الدولة العثمانية كانوا من العرب والأكراد والألبان، إلا أن سياسة السلطان عبدالحميد هذه لم تجد نفعاً وكان الألبان من أول من غادر الدولة العثمانية وطالب بالاستقلال.

القومية التركية “الحنفية”

إذاً لم تنفع سياسة “المواطنة” في تماسك الدولة وكذلك فشلت “الأسلمة” في ذلك، وبقي الأمل الوحيد هو “القومية” وعلى وجه التحديد القومية التركية.

بعد استقلال اليونان ورحيل المسلمين الألبان تم الاتجاه نحو مشروع جديد، مشروع دولة قومية جديدة تقوم على العناصر التركية وتستبعد العرب والأكراد ويبدو أن هذا المشروع قد نجح بالفعل.

بعد سقوط الخلافة وقيام “الثورة العربية” خرجت الجغرافيا العربية من سيطرة الدولة العثمانية، وبات الوطن العربي بـ22 دولة خارج حدود تركيا الجديدة، ثم تعرض الأرمن للنفي من الأناضول بطرق متعددة ولم يبق في تركيا مع الأتراك سوى الأكراد (من حيث العرق).

وبعيداً من العرب والأكراد فإن العنصر الآخر المهم في المجتمع التركي هم “العلويون”، فعلى رغم أن المبادئ التي قام عليها إعلان تأسيس “الجمهورية التركية” كانت تستبعد الدين من المجتمع والحياة الاجتماعية والحال السياسية فإنها في حقيقة الأمر كانت تستهدف بصورة أساس جمهوراً “علمانياً تركياً حنفياً”.

والمقصود بـ”حنفي” هو أن يكون المذهب المتبع في تركيا هو المذهب الحنفي السني.

عندما قامت الجمهورية التركية طُبقت الممارسات العلمانية بطريقة وحشية تذكرنا بـ”اليعقوبية الفرنسية” التي تعد واحدة من أبشع الطرق الوحشية، لكن في تركيا على رغم أن الدولة كانت تريد أن تكون علمانية فإنها كانت أيضاً تريد أن تكون تركية حنفية، ولم يكن القصد كـدين أو أيديولوجيا بل كـ”هوية” للدولة العرقية الجديدة، وهنا بات ينظر إلى العلويين على أنهم “شواذ” في هذا المجتمع “التركي العلماني الحنفي” وبذلك تم اتخاذ إجراءات عدة ضد العلويين، إذ حُظرت محافلهم والطقوس التي يمارسونها عند المراقد وكذلك طقوس “الآباء البكتاشيين” والعلويين.

وجود العلويين في المجتمع العثماني كان من أعراق مختلفة فمنهم العرب والتركمان والأكراد، وبدأوا بالاستقرار في الأناضول قبل فترة الحرب التي خاضها السلطان يافوز سليم مع الصفويين، وبعد مجيء العلويين استقروا في الأناضول لعدة قرون على رغم تعرضهم للقمع والإقصاء وعلى رغم أنهم كانوا منبوذين، وبعد تأسيس الجمهورية التركية الجديدة أعلنوا دعمهم لها باستثناء بعض الجماعات العلوية التي أرادت خوض تمرد، إلا أن الداعم الأكبر من العلويين للجمهورية التركية كانوا هم العلويون التركمان.

هجرة جماعية

بالنسبة إلى العلويين الأتراك واجهوا صرامة في التعامل من المجتمع السني، إذ كانوا في البداية يقيمون في القرى والجبال ثم بدأوا تدريجاً الانتقال إلى المدن والمشاركة في الحياة الاجتماعية وبدأوا أيضاً دخول المدارس والتعرف على التعليم، إلا أن “العقل العميق للدولة” كان يرى أن في ذلك خطراً على المدى البعيد، ولسوء الحظ كانت الفترة ما بين عامي 1970 و1980 فترة مؤلمة جداً بالنسبة للعلويين في تركيا فقد ظهر في هذا الفترة مشروع جديد حمل اسم “تطهير الأناضول من العلويين”، ولو أننا نتمكن من الوصول إلى البيانات والسجلات السابقة لوجدنا فرقاً في نسبة الوجود العلوي في تركيا إذ كانت البطاقات الشخصية في تركيا يكتب عليها المذهب الذي يتبعه حامل هذه البطاقة مثل “حنفي” أو “شافعي”… إلخ، إلا أنه اليوم لا يوجد بيانات طائفية على الهويات.

ليس من السهل الحديث عن العلويين في تركيا خلال القرن الماضي بالأرقام لأن ذلك يحتاج بحثاً استقصائياً مستقلاً، لكن إذا أردنا الحديث بصورة تقريبية فإن مقاطعات مثل سيواس وأرضروم وكهرمان مرعش وغوروم ودرسيم وتونجيلي وأديامان وملاطيا وتوكات كان ما لا يقل عن ثلث سكانها من العلويين، وبسبب القمع الطويل الذي تعرضوا له في هذه المناطق تغيرت نسبتهم فيها حتى إن هناك قرى كاملة لم يعد بها أي علوي.

وبعد الاستفزازات التي حصلت مع العلويين هاجر كثير منهم إلى المدن الكبرى أو حتى إلى خارج تركيا، واليوم على رغم أن العلويين في تركيا يدعمون حزب الشعب الجمهوري المعارض فإن تمثيلهم في البرلمان محدود وذلك لصعوبة إيجاد سياسي علوي في مدينة توكات على سبيل المثال، التي كان ثلثها من العلويين.

تدريجاً انخفض عدد العلويين في مناطق وسط تركيا خصوصاً في مقاطعة أرضروم وما حولها، واستقر جزء كبير منهم في مقاطعات أضنة ومرسين وأزمير وأنطاليا وإسطنبول، وجزء كبير آخر هاجر إلى خارج تركيا وبخاصة إلى ألمانيا وبريطانيا.

ليسوا علويي بلاد الشام

يذكر في هذا السياق أن العلويين في تركيا ليسوا نفس طائفة العلويين الموجودين في بلاد الشام، وكثيراً ما يتم الخلط بينهما.

العلويون الموجودون في سوريا ولبنان وبعض الموجودين في ولاية هاتاي قرب الحدود السورية التركية هم طائفة يمكن القول إنها نشأت من “الإسلام الشيعي”، فهم يقدسون الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب والذي يعد بالنسبة إلى الشيعة أول إمام للمدرسة الإثني عشرية وأول من أسس المذهب أو الطائفة العلوية هو محمد بن نصير وكان ذلك في القرن التاسع للميلاد، وابن نصير هذا كان من تلاميذ الإمام الاثنى عشري العاشر علي الهادي، وكذلك تتلمذ على يد الإمام الـ11 الحسن عسكر، لذلك يطلق البعض على العلويين اسم “النصيرية” وذلك نسبة إلى مؤسس الطائفة، وهؤلاء ليسوا العلويين في تركيا الذين نتحدث عنهم في هذا التقرير بل إن العلويين في تركيا هم طائفة أخرى مختلفة تتبع الطريقة البكتاشية، لكنها أيضاً تستمد تعاليمها من تعاليم الشيعة الإثني عشرية.

بالعودة إلى موضوعنا الأساس، فإن العقل “الوحدوي العميق” أراد للأناضول أن يكون قطعة واحدة بهوية عرقية واحدة، لكن هذا أدى إلى إلحاق ضرر كبير بغير الأتراك وغير المسلمين، وألحق ضرراً بالأكراد والعلويين، ولم يتم تدارك هذه العقلية إلا أخيراً بعد أن تساوى كل من يحمل “الجنسية التركية” أمام القانون، إلا أن تدارك هذا الأمر جاء بعد فوات الأوان.

ما جرى مع العلويين جعل كثيراً منهم يبتعد من التدين واليوم هناك كثير من العلويين لا يعتنقون العلوية وإنما فقط ورثوها وهناك كثير منهم ملحدون، وبطبيعة الحال لا يمكن تصنيف الملحد على أنه سني أو علوي.

وكما ذكرنا أعلاه فإن غالب العلويين في تركيا يدعمون حزب الشعب الجمهوري المعارض، إلا أن جزءاً لا بأس به منهم يدعم أيضاً حزب العدالة والتنمية الحاكم وهو حزب محافظ، وقد يكون هناك مشروع لاختراق العلويين سواء بالقوة أو بالإغراء لكن يمكن القول إن تركيا اليوم لم تعد كما كانت والناس اليوم يتعايشون كل بما يؤمن به.

نقلاً عن “اندبندنت التركية”

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى