هكذا وجد الإعلام البريطاني التفسير الأكثر واقعيةً وتبسيطاً لموجة الشغب العنصرية، التي امتدّت أسبوعاً في أنحاء البلاد، وحملت أشكالاً من العنف العنصري اللفظي والمادّي غير مألوفة أو حتّى مُتخيَّلة؛ إنّها وسائل التواصل الاجتماعي. لعبت منصّات الإعلام الحديث، ومنها “إكس” و”فيسبوك”، دوراً محورياً في ترويج الأخبار الزائفة في ما يتعلّق بجريمة الطعن التي راحت ضحيتها ثلاثُ فتياتٍ في بلدة ساوثبورت البريطانية. لكن الإعلام التقليدي البريطاني، قبل الجريمة وبعدها، لم يُقدّم أيَّ مقاربة لمسؤوليته في ترويج صورة المهاجر الغريب، الذي يمثّل “خطراً” على اقتصاد البلاد، وعلى ثقافتها المنتمية للحضارة الغربية.
الأمثلة من الصحافة الصفراء لا تُحصى، إذ يُشكّل التخويف من “اجتياح” الآخر “الهمجي” القادم من عالم آخر الخبزَ اليومي لهذه الصحف واسعة الانتشار. العناوين العريضة عن زحف الغريب “المستوطن” شبه يومية؛ كلفة استيعاب المهاجرين؛ ارتفاع نسبة الجرائم؛ الملايين يزحفون إلى بريطانيا لاحتلال المزيد من المدن؛ المرافق العمومية للخدمات تنهار تحت وطأة أعداد المهاجرين؛ العمال الأجانب يحصدون معظم فرص العمل؛ أزمة السكن وراءها المهاجرون…، وغيرها من المعلومات المغلوطة التي تُشكّل عدَّةَ العمل للصحافة الصفراء لاجتذاب القرّاء من الطبقات العمّالية، الذين يرون في “هجمة” الاغتراب تهديداً لوجودهم. لم يقارع الإعلام التقليدي هذه الأوهام عندما استخدمت بشكل رئيس في حملة التصويت للخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، بل على العكس، عملت هذه الوسائل في تعبئة الخطاب القومي المعادي للهجرة، عبر تخصيص مساحة كبيرة لشهادات مواطنين قالوا، على سبيل المثال، إنّهم لا يجدون سكناً شعبياً بسبب إعطاء الأولوية للمهاجرين، ما يجعلهم يضطرّون للتسجيل في لوائح الانتظار، وغيرها من الفرضيات، التي لم يُدقّق فيها الإعلام قبل تعميمها.
لم تتغيّر المُقاربة بشكل خاص للرجل الأسمر باعتباره مصدراً للخطر رغم التظاهرات المعادية للعنصرية التي احتلت الشوارع، وشكّلت الردَّ الأقوى والأكثر اعتباراً للشغب العنصري.
في تغطية جريمة طعن طفلة ووالدتها وسط لندن الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة الديلي ميل الشعبية عنواناً عريضاً يقول إنّ القاتل لم يكن يعرف الضحية ووالدتها، مرفقاً بصورة رجل الأمن الأسمر الذي تصدّى للقاتل. بعد تلقّي شكاوى، غيّرت الصحيفة عنوان التغطية لتضيف إليه بالبند الرفيع إشارةً إلى دور رجل الأمن في محاولته نزع السكين من يد القاتل. لربّما اعتقد مُحرّر التقرير أنّ شكل رجل الأمن يوحي بالجريمة، ولا ضرورة للتحقّق من الوقائع قبل نشرها. عدَّةُ الجريمة جاهزة؛ لون بشرة رجل الأمن.
تشكّل التغطية الإعلامية لتظاهرات الشغب والردّ عليها مثالاً بحدّ ذاته لقصور هذا الإعلام في التعاطي مع ظاهرة العنصرية المستشرية في المجتمع، التي لا يريد الإعلام الاعتراف بوجودها، أو أقلّه بحجم هذا الوجود. لعلّ المثال الأبرز إصرار الإعلام على استخدام تعبير “متظاهرين محتجّين” في وصف مثيري الشغب من اليمين المُتطرّف، الذين هاجموا مساجدَ وفنادقَ ومراكزَ إيواءٍ للاجئين، ومراكز للشرطة، فضلاً عن اقتحام مراكزَ تجاريةٍ وسرقة محتوياتها. رغم العنف الذي وُثّق، واصل الإعلام البريطاني وصف مثيري الشغب بالمحتجّين، ولم يغيّر التوصيف إلّا بعد أن نعت رئيس الوزراء كير ستارمر هؤلاء بـ”حثالات اليمين المُتطرّف”، وهو تعبير انتقده بعض الإعلام اليميني، معتبراً أنّ التوصيف يحول دون نقاش عقلاني بشأن هذه المجموعة. المثل الآخر جاء من المقابلة مع النائبة المسلمة من حزب العمّال زارا سلتانا، في البرنامج الصباحي لمحطة “آي تي في” (واسعة الانتشار)، إذ تعرَّضت للتهكّم بسبب انتقادها غياب الاعتراف بوجود مشكلة رُهاب المسلمين في الإعلام، وقالت بعد المقابلة إنّها شعرت بأنّها تعرَّضت لاستجواب مباشر على الهواء.
تعكس التغطية الإعلامية لقضايا العنصريّة ضدّ الهجرة، وصورة المهاجر والمسلم تحديداً، سياسات ما سمّيت “البيئة المعادية” للمهاجرين، التي أسّس لها المحافظون بشكل خاص في ظلّ رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي. منها على سبيل المثال حملة مواجهة الهجرة غير الشرعية، عبر تسيير فانات تحمل شعار “عد إلى ديارك أو واجه السجن”. الحملة التي لم تُسفر إلّا عن رحيل عدد قليل جداً من المهاجرين غير الشرعيين، باتت الشعار المفضل لحملة اليمين المُتطرّف وأعمال التحرُّش، التي غالباً ما تُردّد كلمتي “غو هوم” (عد إلى ديارك). الأثر الأكثر ضرراً لهذه الحملة هو التشديد على منح تأشيرات الدخول والإقامات للطلّاب الأجانب الذين يُشكّلون العمود الفقري للجامعات البريطانية، التي كانت تُعتبر، في وقت غير بعيد، أحدَ أبرزِ أركان القطاع الثقافي البريطاني، في حين أنّها تنوء حالياً تحت ضغوط أزمة مالية عاتية.
قد يكون الخجل الإعلامي من تناول قضية العنصرية ورُهاب الغريب، المسلم بشكل خاص، مستوحىً من الاعتقاد السائد أنّ ثمّة معاملة تمييزية للإسلاميين تجعل تعاطي الشرطة والمؤسّسات الرسمية مع قضاياهم أكثر لطفاً أو خجلاً. أظهرت أعمال الشغب الأخيرة لليمين المُتطرّف أنّ العكس هو الصحيح، كما أفادت دراسة للمعهد الملكي للخدمات المتّحدة، وهو مركز أبحاث يُعنى بالدفاع والأمن، بأنّ ردَّة الفعل على الاعتداءات التي يقوم بها اليمين المُتطرّف غالباً ما تصنَّف أعمال شغب لا تثير ردّة الفعل لدى الشرطة والطبقة السياسية والإعلام، مقارنةً بالتي تثيرها الجرائم التي تُرتكب باسم الجهاد الإسلامي، وذلك بسبب وجود تحيّز وعنصرية مؤسّساتية.
قد تكون موجة أعمال الشغب العنصرية مرّت من دون كلفة عالية إلى جانب المحاكمات القضائية للمرتكبين ، التي تلقى أيضاً انتقاداً بحُجَّة قسوتها. إلّا أنّ الردّ الأبرز عليها جاء من الناس العاديين الذين رفضوا أن يُشكّل هذا القبح عنواناً لثقافتهم، وأن يُسيطر على شوارعهم ويومياتهم. أمّا الإعلام، ففي الغالب أنّه لا يزال يعتقد أنّه لا بأس إن عبّر هؤلاء العنصريون عن “غضبهم” من “الآخر”، الذي لا يزال يستولي على حقوقهم، وأبرزها رغبتهم في استعادة يوتوبيا العيش في مجتمع صافي الهُويَّة.
المصدر: العربي الجديد