مرحلة الحروب الصّغيرة الرمزيّة في زمن الاحتواء والإعداد للصّفقات

راغدة درغام

بغضّ النظر عما إذا أثمرت محادثات الدوحة على مستوى مدراء ورؤساء الاستخبارات في الدول المشاركة في المفاوضات أو تعثرت، يبقى شبح الضربات العسكرية بين إسرائيل وإيران وأذرعها مرافقاً للاحتمالين. لماذا؟ لأن تدوين ما يتم الاتفاق عليه شفهياً في أوراق رسمية تفصّل الالتزامات ليس عملية سهلة ولا سريعة، وقد تكون التفاهمات الجانبية قد أخذت في الاعتبار ضرورة السماح بعمليات عسكرية انتقامية ذات قواعد اشتباك محددة ومضبوطة لجميع الأطراف المتحاربة، ريثما تصاغ لغة الضمانات وتُدوَّن بالتزامات خطية. هذه المناوشات العسكرية قد تكون جديدة نوعياً، لكنها لن تتحول إلى حرب موسّعة لأن ذلك سيكون جزءاً من نجاح المفاوضات التي تعقد في الدوحة. أما إذا انهارت تلك المباحثات مع صدور هذه المقالة، فصوت الحرب الجديّة سيدوّي. وحتى حينذاك، لن تكون الحرب موسّعة ولن تطول مهما كانت الضربات جسيمة وهائلة. ستكون مقدمة لصفقات كبرى بعد الدمار ولبنان في فوهة البركان. فماذا تنطوي عليه سيناريوهات النجاح من مقايضات؟ وما هو المشهد العسكري إذا فشلت مفاوضات وقف النار في حرب غزة؟

تعزّز وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وتوسّع الحضور العسكري في المنطقة بأساطيل وقوات، ورسائلها واضحة لكل المعنيين وهي: إن أميركا لن تهرول هرباً في زمن الحرب في الشرق الأوسط، بل ستدخل طرفاً بجانب إسرائيل إذا أحبطتها إيران أو إذا أفلتت الأمور من السيطرة بقرار أو بخطأ من “حزب الله” في لبنان، و”الحوثي” في اليمن، و”الحشد الشعبي” وفصائل أخرى في العراق.

سمع العراق الرسالة جيداً، وقرر على لسان وزير خارجيته فؤاد حسين تأجيل موعد إعلان انتهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة أميركا من البلاد، بسبب التطورات الأخيرة في المنطقة. وقال في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره التركي هاكان فيدان في أنقرة إن العراق يقف بالضد من أي حروب في المنطقة. وبذلك، يكون العراق قد التحق بمصر والأردن بتحييد نفسه عن حرب غزة، واكتفى بدعم الفلسطينيين المدنيين وبدعم وقف النار في غزة. خلاصة الأمر، العراق ليس جاهزاً في هذه الدقيقة الحرجة ليحدد موعداً لانسحاب القوات الأميركية من العراق… ولهذا الأمر أهمية.

وحدها الدولة اللبنانية وافقت على مصادرة “حزب الله” وإيران قرارها السيادي، وأذعنت لربط مصير لبنان بحرب غزة. في البدء راعى فريق إدارة الرئيس جو بايدن هذا الربط بدلاً من أن يتصدى له، وبذلك بدا أنه بدوره يذعن للأمر الواقع الذي فرضه “حزب الله” بتعليمات وتنسيق مع الحرس الثوري الحاكم الفعلي في إيران. فجبهة الإسناد لحركة “حماس” في غزة ليست جبهة الدول المجاورة لإسرائيل، بل هي جبهة محور إيران الذي تسميه “محور المقاومة” عبر الأذرع التي تسيطر عليها في لبنان واليمن والعراق وسوريا.

لا الحرس الثوري ولا “حزب الله” ولا “الحوثي” يجلس إلى طاولة المفاوضات في الدوحة. “حماس” موجودة من خلال قطر ومصر، وهي طرف معني مباشرة بحرب غزة التي أظهرت إسرائيل فيها فشلها العسكري والأخلاقي والإنساني. الفيل في الغرفة في الدوحة هو إيران، ممثلة بالحرس الثوري وليس بالرئاسة الجديدة التي تقاوم هيمنة الحرس الثوري على القرار.

يبذل فريق الرئيس بايدن قصارى جهده للتوصل إلى وقف النار وما يرافقه من ضمانات لكل الأطراف، لأنه لا يريد توريط الولايات المتحدة في حرب ضد إيران وأذرعها، يجرها إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والمزاج الشعبي في إسرائيل. في الأساس، هذا فريق بايدن – أوباما الذي سعى دائماً إلى التفاهم مع إيران وليس إلى مواجهتها أو معاقبتها كما فعل الرئيس الأسبق دونالد ترامب.

لكن مهما وصل الغضب من نتنياهو وحكومته والمزاج الشعبي الإسرائيلي، ما زالت المساعدات العسكرية الضخمة لإسرائيل تأتي بقرار من إدارة الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس، ولن تتوقف بل ستزداد. يتوقع فريق بايدن من حكام الشرق الأوسط أن يفهموا ويتفهموا ما يقتضيه التحالف الإستراتيجي بين أميركا وإسرائيل. يريد منهم أن يساهموا في قيادة كامالا هاريس إلى الرئاسة الأميركية وقطع الطريق على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

هذا الفريق، برغم ذكاء أعضائه وخبرتهم، ما زال يرتكب الأخطاء الناتجة من افتقاده حسّ القيادة الأميركية الصارمة، وخضوعه للابتزاز طوعاً باسم فن المقايضات الضرورية التي لا مناص منها. من جهة، إنه يتبنى البراغماتية على المدى القصير بحيث يدفع باللاعبين إلى اتفاق تكتيكي وليس إلى اتفاق سياسي، أي إن ما يريده هو وقف النار وتبادل الأسرى والمحتجزين باستبعاد للنواحي السياسية من إلقاء اللوم على طرف دون الآخر، إلى استبعاد الحديث عن دولة فلسطينية وتسوية شاملة.

يفهم فريق بايدن مركزية إيران في قرار “حماس”، لأن طهران تملك مفاتيح جبهة الإسناد ومفاتيح توسيع رقعة الحرب. لذلك، تجري المقايضات والتفاهمات معها عبر أطراف ثالثة وعنوانها: “سَهّلوا التوصل إلى إنجاح مفاوضات الدوحة ووقف النار، ونحن سنفتح صفحة جديدة في العلاقات الأميركية – الإيرانية”.

فريق بايدن يتفهم أيضاً الحاجة إلى إنقاذ ماء الوجه لكل من إيران و”حزب الله” كما لإسرائيل كي تمر ضربات عسكرية شبه متفق عليها مسبقاً ذات ضوابط، رمزية أكثر مما هي نوعية. تأجيل الانتقام والردّ على الانتقام هو جزء من عمليات إنقاذ ماء الوجه المحصورة والرمزية، وليس جزءاً من حرب موسعة حقيقية تؤدي إلى تحطيم الوجه بدلاً من إنقاذ ماء الوجه.

إذا لم تفلت الأمور وتتحوّل إلى حرب كبرى مستبعدة، فإن عمليات الانتقام للشرف والهيبة قد تطال مرفأ حيفا وتدمّر بعض المحتويات، لكنها لن تستهدف مطار بن غوريون على سبيل المثال. كذلك الأمر بالنسبة إلى الردّ الإسرائيلي على الانتقام، فإنه يبقى بعيداً عن استهداف مطار رفيق الحريري في بيروت، وإن استهدفه فإنه سيحصر ذلك في بضع مدارجه.

الخطير هو في استمرار إسرائيل في ملاحقة عناصر قيادية في “حزب الله”، أو “حماس”، تؤدي إلى فلتان في الحرب الأمنية وفي قواعد الاشتباك التي تحكم العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل أو “حزب الله”. فإذا قرر أحد الطرفين المغامرة الجديّة بإلغاء قواعد الاشتباك، فإن الحرب الجديّة ستأتي على لبنان بالدمار لأن الولايات المتحدة لن تردع إسرائيل إذا قرر “حزب الله” عدم التزام قواعد الاشتباك بل ستساعدها. وهذا ما أبلغه مبعوث الرئيس الأميركي المكلف ملف لبنان وإسرائيل آموس هوكشتاين إلى الحكومة اللبنانية أثناء زيارته الأخيرة. فقد حضّ على فصل لبنان عن غزة، والعمل على تحييد لبنان، خصوصاً أن المفاوضات في الدوحة تنصبّ حصراً على غزة، فيما المباحثات السريّة بين فريق بايدن والقادة في إيران، كما مع الدول العربية الخليجية ومصر والأردن، ترمي إلى تحقيق تلك الصفقة الكبرى التي تحلم بها إدارة بايدن.

مثل هذه الصفقة ستترك بصمات الإنجاز الكبير على السيرة الذاتية (Legacy) للرئيس جو بايدن، كما ستشكل ذخيرة مهمة للمرشحة للرئاسة كامالا هاريس في حملتها الانتخابية. حتى وإن تم مجرد احتواء حرب غزة، فهذا نصف إنجاز مفيد للديموقراطيين بالرغم من خطورة الاكتفاء بالمعالجات الانتقالية والمؤقتة، وبتقطير الحلول والمعارك على السواء، ضمن استراتيجية الاحتواء التي تمليها الحاجة البراغماتية بحسب تفكير فريق بايدن.

اعتمدت مباحثات الدوحة البراغماتية كما ينظر إليها رجال الاستخبارات وهدفها وقف النزاع في غزة. تولّي يحيى السنوار مهمات إسماعيل هنية بعد اغتياله في طهران لم يثنِ الجانب الأميركي عن المضي قدماً في المفاوضات، بل اعتبر أن تولّي السنوار وحده مهمات قيادة حركة “حماس” عسكرياً وسياسياً يجعله المحطة المركزية الوحيدة لاتخاذ القرار بدلاً من ضياع القرار في الانقسامات الفلسطينية، حتى داخل حركة “حماس”.

الوفود الاستخبارية إلى مباحثات الدوحة ضمّت مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، يرافقه المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط بريت ماكغورك، رئيس المخابرات الإسرائيلية دافيد برنياع ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار، ومنسق ملف الرهائن في الجيش الإسرائيلي نيتسان ألون. أما الجانب المصري فترأسه عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات العامة. ودعا إلى المباحثات في الدوحة رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ووجود قادة في الاستخبارات فيها. وتمثلت “حماس” في المفاوضات عبر كل من قطر ومصر اللتين بذلتا أقصى الجهود لإنجاح المفاوضات.

قد يكون مبدأ الاحتواء ضرورياً كخطوة براغماتية نحو وقف النار وتبادل السجناء والتوصل إلى ورقة تقنية وليس سياسية تطفئ الحريق وتجمّد الاستنزاف، فيما يُعاد خلط الأوراق على ضوء الواقع الميداني في حرب غزة. معنى ذلك أن نتنياهو سيحصل على ورقة إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين لتساعده في انتخابات جديدة في إسرائيل وترحمه من المحاكمات. لكن معنى ذلك أيضاً هو أن نتنياهو سيأكل كلامه وسيضطر للقبول بالسنوار وقيادته لحركة “حماس” في غزة.

في هذه الأثناء، يعمل فريق بايدن على تلك الصفقة – الحلم التي تؤدي بالسعودية إلى التطبيع مع إسرائيل، لكنه لا يضع الإستراتيجية الحازمة الضرورية للفرض على إسرائيل القبول بحلّ الدولتين. قد يعتقد هذا الفريق أن القرار بيد ولي العهد ورئيس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهو قادر بجرأته على اتخاذ قرارات تاريخية ومصيرية. لكنه يخطئ إذا افترض أن السعودية ستكافئ إسرائيل على ما فعلته بغزة ما لم تتراجع إسرائيل عن رفضها حلّ الدولتين، وما لم تبدأ عملية تفاوض جديدة غير تلك المعروفة بـ”عملية السلام للشرق الأوسط” المطاطية التي لم تؤدِّ إلى نتيجة.

الصفقة الكبرى، إذا تم التوصل إليها، فلن تنجح إذا اكتفت باعتماد مبدأ الاحتواء فحسب. إنها في حاجة إلى إستراتيجية شاملة لا تكتفي بالغموض الإستراتيجي أو بصفقات سرية وتفاهمات الخضوع للأمر الواقع، كما يبدو الأمر مع إيران. والكلام هو عن أي استعداد لدى فريق بايدن لإرضاء إيران عبر شرعنة أذرعها على حساب السيادة في كل من لبنان والعراق واليمن وسوريا.

واجب الدول العربية، وبالذات الخليجية التي تساعد في الحوار الأميركي – الإيراني غير المباشر، أن تستدرك خطورة الإقرار الأميركي وأبعاده بـ”حقّ” إيران بالاحتفاظ بأذرعها. إنها مسؤولية عربية. ففي عهد باراك أوباما، تم استبعاد الدول الخليجية عمداً بذريعة أن المفاوضات كانت نووية حصراً، فيما حقيقة الأمر هي أن إيران فرضت شروطاً سياسية من أبرزها عدم المس بدورها الإقليمي عبر الأذرع والميليشيات التابعة لها.

هذه المرة، لا عذر لدى الدول العربية الخليجية، ولا مصلحة لها بالموافقة على صفقات سريّة أميركية – إيرانية تستبيح سيادة لبنان والعراق واليمن وسوريا، وتكون بمثابة قنبلة موقوتة ضدها هي بالذات أيضاً.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى