أظهر الاحتفاء التركي بخطاب الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس أمام البرلمان التركي المكانة الكبيرة للقضية الفلسطينية في السياستَين الداخلية والخارجية لتركيا. لكنّه يُظهر أيضاً الهوَّة الواسعة بين الواقع وطموحات أنقرة لتعزيز حضورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لقد صمّم الرئيس أردوغان دعوة عبّاس لإلقاء خطاب أمام البرلمان لاستعراض تضامن بلاده مع الفلسطينيين، خصوصاً في أثناء الحرب الإسرائيلية في غزّة، وخطوةً رمزيةً للردّ على الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأميركي الشهر الماضي. لكنّ الدور التركي في الحرب الراهنة، وفي الصراع عموماً، متواضعٌ للغاية مقارنةً بدور الولايات المتّحدة واحتضانها إسرائيل في المستويات كافّة. كما أنّ الاحتفاء بخطاب عبّاس أمام البرلمان لا يعكس في الواقع طبيعة العلاقة الفاترة بين أنقرة والسلطة الفلسطينية. ولم تكن مُجرَّد زلةَ لسان أن ينتقد أردوغان عبّاس قبل أيّام قليلة، ويُطالبه بالاعتذار عن عدم تلبية دعوة سابقة لزيارة تركيا، وإلقاء خطابٍ في برلمانها.
مع ذلك، لا تقلّل رمزيةَ الخطاب من أهمّية هذه الخطوة، لأنّ الفلسطينيين بحاجة إلى وقوف العالم إلى جانبهم في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ قضيتهم. وبالنسبة لأردوغان، فإنّ دعوة عبّاس لمخاطبة العالم عبر البرلمان التركي كانت حاجةً له أيضاً لتأكيد أهمّية فلسطين في السياستَين الداخلية والخارجية لبلاده، وللرّد على محاولة بعض أحزاب المعارضة التقليل من شأن الخطوات التي قامت بها تركيا في الحرب. كما أنّها فرصة لإظهار أنّ الدعمَ التركي للفلسطينيين يتجاوز اعتبارات العلاقة التركية الوثيقة مع حركة حماس. على مدار أكثر من عقدين من حكم أردوغان، غالباً ما نُظر إلى علاقة أنقرة الوثيقة بـ”حماس” أنّها تجاهلت حساسية المنافسة الداخلية الفلسطينية. وبمعزل عن مدى مصداقية هذا الطرح، إلا أنّ واقع السياسة التركية في القضية الفلسطينية في العقدَين الأخيرَين يُعطى بعض المشروعية لطرح من هذا القبيل. مع ذلك، فإنّ المنحى الذي سلكته القضية بعد فوز “حماس” في الانتخابات التشريعية عام 2006، ثمّ سياسة الحصار والحروب التي انتهجتها إسرائيل في قطاع غزّة منذ تلك الفترة، جعلا الموقف من “حماس” عنصراً رئيساً في تشكيل سياسة تركيا تجاه الصراع. لكنّ تفضيل “حماس بقي” رمزياً إلى حدّ كبير.
يُشكل خطاب عباس أمام البرلمان التركي فرصةً لإعادة الاعتبار إلى أهمّية العلاقة التركية مع مختلف القوى الفلسطينية، لأن تجاهل حساسية المنافسة بين “حماس” والسلطة، في السابق، جعل أنقرةَ أقلّ قدرةً على التأثير في القضية، ولأنّ المنعطف التاريخي الذي تواجهه القضية بعد حرب 7 أكتوبر (2023) يفرض على تركيا تقديمَ سياسةٍ تتجاوز اعتبارات المنافسة الداخلية إذا ما رغبت في تعظيم حضورها في تشكيل مستقبل القضية الفلسطينية بعد هذه الحرب. مع ذلك، العقبات التي حالت (ولا تزال) دون لعب تركيا دوراً أكثرَ فعّاليةً في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أكبر من القدرة على تجاوزها بمُجرَّد تجاهل عامل المنافسة الفلسطينية. وفي مقدمة هذه العقبات إشكالية الانقسام الفلسطيني المُزمِنة، التي أضحت معلماً رئيساً من معالم القضية الفلسطينية في العقدَين الأخيرَين.
لقد سعت تركيا في السابق إلى محاولة لعب دور في تحقيق المصالحة الفلسطينية، لكنّ حقيقة أنّ الانقسام أبعد من كونه منافسة بين “حماس” والسلطة، وتُغذّيه، إلى حدّ كبير، تأثيرات السياسات الإسرائيلية والإقليمية والدولية في السياسة الفلسطينية، تجعل من الصعب تصوّر تجاوز هذا الانقسام في المستقبل المنظور. وبناءً عليه، سيبقى حضور هذا العامل في تشكيل سياسة أنقرة مُؤثّراً حتّى لو سعت إلى الحدّ من آثاره عليها. علاوة على ذلك، لعبت سياسة المنافسة المُستقطَبة بين تركيا والقوى الفاعلة في المنطقة خلال العقد الماضي دوراً في تقييد قدرة السلطة الفلسطينية على بناء علاقة وثيقة مع أنقرة. كما أنّ تأثير القوى العربية الفاعلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتوتّرات المزمنة في العلاقات التركية الإسرائيلية في العقدَين الأخيرَين قوَّضت طموحات أنقرة بالانضمام إلى نادي الدول الإقليمية المُؤثّرة في ديناميكيات الصراع.
قد تساعد إعادة الاعتبار إلى أهمّية العلاقة مع السلطة الفلسطينية، في هذه المرحلة، أنقرة في الحصول على مشروعية فلسطينية أوسع لطموحاتها في لعب دور في تشكيل مستقبل غزّة بعد الحرب، وفي تحقيق رؤيتها بالتحوّل دولةً ضامنةً للفلسطينيين في أيّ عملية سلام مستقبلية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكنّ قدرتها على تحقيق هذه التطلّعات تتطلَّب توفّر مجموعةٍ من العوامل الأخرى الأكثر تعقيداً من إشكالية المنافسة الداخلية الفلسطينية. وتتمثّل هذه العوامل أولاً في قدرة أنقرة على الحدّ من آثار اندفاعتها القوية في إدانة إسرائيل في هذه الحرب في الهوامش الدبلوماسية، التي لا تزال قائمةً ومُصمَّمةً لمنع وصول التوتّرات مع تلّ أبيب إلى نقطة اللاعودة، وثانياً في انخراط تركي أكبر مع دول المنطقة لتعظيم فرص التوصّل إلى تسوية سياسية للحرب وخلق آفاق جدية لإطلاق عملية سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد انتهاء الحرب، وثالثاً، في إثبات أنقرة قدرتها على التأثير في حركة حماس.
المصدر: العربي الجديد