تعدّ تسمية وزيرالشؤون الاجتماعية، كمال المدوري، رئيسا للحكومة التونسية، وفق بلاغ (بيان) رئاسة الجمهورية التونسية المنشور في صفحتها على فيسبوك يوم السابع من أغسطس/ آب الجاري قبل منتصف الليل بقليل، الخامسة منذ تولى الرئيس قيس سعيّد مهامه في قصر قرطاج يوم 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. وبذلك حطّم سعيّد الرقم القياسي في تسمية رؤساء الحكومات في أثناء عهدته الرئاسية في خمس سنوات، بمعدّل رئيس حكومة لكلّ سنة، حتّى صارت التسميات في ثاني أهم وظيفة في الدولة التونسية والإعفاء منها لعبة يتسلّى بها الرئيس وأنصاره فيقيمون الحفلات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويطنبون في إبراز المناقب ويتبارون في تمجيد القادم الجديد، وينصبون محاكم التفتيش والإدانة والسحل الافتراضي للمُقال القديم، والحال أنّ كليهما جاء به سعيّد من دون مشورة من أحد. بينما تحتفظ سجلّات التاريخ التونسي المعاصر للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بتعيين خمسة وزراء أُول خلال مدّة حكمه الجمهوري التي دامت 30 سنة.
جاءت إقالة رئيس الحكومة السابق، أحمد الحشاني، من منصبه، ساعات قليلة بعد إشرافه على جلسة عمل وزارية “خصّصت للنظر في برنامج عمل شركة فسفاط قفصة للفترة الممتدّة 2025- 2030” بحضور عدّة وزراء، منهم وزير الشؤون الاجتماعية كمال المدوري، الذي اعتلى كرسي وزارته في شهر مايو/ أيار من السنة الجارية، خلفا لسلفه مالك الزاهي، وهو الذي أقاله يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2023 من خطّة الرئيس المدير العامة للصندوق الوطني للتأمين على المرض، ولم يكن المدوري يعلم أو يتوقّع أنه سيخلف رئيس حكومته. يُشار أيضاً إلى أن إعفاء الحشاني تلا مباشرة نشر صفحة رئاسة الحكومة التونسية على “فيسبوك” فيديو من أربع حلقات، يحتفل فيه رئيس الحكومة بمرور سنة على توليه مهامه بقصر القصبة التاريخي، يستعرض حصيلة سنته الأولى، عادّا غزواته وانتصاراته ومنجزات حكومته، متحدّثا بلغة عالية الأنا شديدة التضخّم، تجهل (أو تتجاهل) حدود وظيفة رئيس الحكومة ومهام أعضاء حكومته، واضعا نفسه على درجة المساواة مع رئيس الدولة، وهذا يعدّ من المحظورات في مقاربة الحكم السعيديّة.
نسب الحشاني إلى نفسه وإلى حكومته ما اعتبرها حصيلة إيجابية ومنجزات، مثل إقرار قانون الشيكات الجديد ومجلّة الصرف وسن قانون عطلة الأمومة والأبوّة، وتشريع الامتياز الجبائي للتونسيين المقيمين بالخارج الذي يُمكّن من توريد سيارة معفاة من الأداء الديواني مرّة كل عشر سنوات بدلاً من مرّة واحدة طيلة العمر، والزيادة في الأجر الأدنى المضمون في القطاعات الفلاحية وغير الفلاحية، والترفيع آليا في جرايات المتقاعدين والزيادة في المنحة المخصّصة للعائلات المعوزة.
لم يكن من عادات الرئيس سعيّد تقديم تفسيرات أو تبريرات لما يقوم به من تسميات في الخطط العليا في الدولة أو إعفاءات من تلك الخطط والوظائف، فهو يعتبر ذلك حقّه الذي منحه إياه دستور 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2022 لا شريك له فيه من أي كان، أفرادا كانوا أو مؤسسات. لكنه هذه المرّة، وعلى هامش لقاء رئيس حكومته كمال المدوري يوم الثامن من أغسطس/ آب الجاري، ذكّر، في رسالة واضحة المعالم لرئيس الحكومة المقال ولخلفه، بأن الفصل 87 من الدستور ينصّ على أن وظيفة الحكومة تتمثّل في مساعدة رئيس الجمهورية على ممارسة الوظيفة التنفيذية، فأنّى لرئيس حكومة أو لفريق حكمه أن يكون له حصيلة وإنجازات، إن الانجازات كلّها، بل وجود الحكومة ورئيسها، هي من مآثر “رائد” سلطة 25 جويلية ومهندسها وصاحب أفضالها الرئيس قيس سعيّد.
ما أتاه الحشاني من عدّ إنجازاته والإشادة بها وإشهاد الناس عليها إثم لا تمحوه الأيام والأشهر والسنوات، وذنب لا تغفره التوبة النصوح، فقد خالف أعراف سالفته نجلاء بودن بأن يكون ساكن القصبة بكيماً صموتاً لا ينطق إلا بإذن، وخان عهداً قطعه على نفسه قبل سنة بأن يلعب الدور كما هو مرسوم في السيناريو لا يحتمل الخروج عن النصّ، مجرّد موظّف صغير مطأطئ الرأس ومقطوع اللسان في حضرة رئيسه، ينفّذ تعليماته وأوامره ويلتزم هدْيه وإلهاماته ويردّد كالبّبغاء مقولاته وبياناته، فلم يشفع له تزلّفه وقوله، في أثناء زيارته الجزائر مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2023، خارج الأعراف الدبلوماسية، “عزيزي قيس سعيّد”، وكذلك ذكره الرئيس قيس سعيّد، في سبتمبر/ أيلول 2023 في أثناء لقاء جمعه بوزير التربية هامسا “ما ثماش واحد كيفو الرئيس”.
شيّع المجتمع الفيسبوكي التونسي (تسعة ملايين بروفايل وصفحة) الحشاني إلى بيته، بعد أن سلّم الأمانة لخلفه، غير مأسوف عليه، بحملات التندّر والاستهزاء والاستخفاف والشماتة والتجريح والوصم بفقدان الكفاءة واعتبار الأجر الذي تقضاه والمزايا التي حصل عليها هدرا للمال العام. فلم يظهر له في مواقع التواصل الاجتماعي أنصار أو بواك، بمن في ذلك من هلّل وطبّل لتسميته ودافع عن قرار تعيينه العبثي، فأوجد له كلّ التبريرات والمسوّغات الممكنة والمستحيلة. حتى لقي المصير الذي يستحقّه كل متطفّل على عالم السياسة دخلها متسلّلا من ثقوب حيطانها ونُقب بيبانها، تاركا أبوابها المفتوحة وثناياها المعلومة، ففي المرور من تلك الثنايا والأبواب ضرائب تدفع وأخطار تتهدّد ومحاكم تقضي وسجون تفتح وأرزاق تقطع وأسر تشرّد وطفولة تُيتّم أو تُجهّل وأعراض تهتك وظلم يُشرّع وأحزاب تُمنع وقيادات تؤسر وأخرى تُهجّر، كما هو مخطوط في سير المناضلين السياسيين على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية ومدوّن في سجلّات التاريخ وبين دفّات مجلّداته ومخزونات حفرياته. واستقبلت مواقع التواصل والمجتمع الفيسبوكي التونسي تسمية كمال المدوري في خطة رئيس الحكومة، بدلا من الحشاني، بدون ضجيج أو تشويه وسحل ومحاكمات افتراضية، كما كان يحدُث مع من يتولّى مهمّة في الدولة من السياسيين الحزبيين والمستقلين، واكتفى بتداول سيرته الذاتية العلمية والمهنية.
تخبر سيرة المدوري، سليل مدينة تبرسق بالشمال الغربي التونسي والمولود سنة 1974، على أن صاحب كرسي القصبة الجديد متخرّج من كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس وحاصل على شهادة الأستاذية في العلوم القانونية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، فهو من طلبة قيس سعيد المساعد الجامعي آنذاك بتلك الكلية. وهو متحصل أيضا على شهادة الدراسات المعمّقة (ما يعادل شهادة الماجستير حاليا) من المؤسسة الجامعية نفسها في قانون المجموعة الأوروبية والعلاقات المغاربية الأوروبية، وعلى شهادة ختم الدراسات بالمرحلة العليا بالمدرسة الوطنية للإدارة. ورغم مزاولة المدوري التدريس بالمدرسة الوطنية للإدارة والتكوين وبالمدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي، إلا أن محرّكات البحث الكبرى بشبكة الإنترنت وأرشيف تلك الشبكة لا يظهران دراسات أو أبحاث أو كتباً أو مقالات منشورة أو إحالات على ما هو منشور وغير منشور من أعمال الرجل.
الاعتراف بمآثر رئيس الحكومة الجديد في المجال الاجتماعي عامة، والضمان الاجتماعي على وجه الخصوص يجب ألّا يحجب ضعف معرفة الرجل بالسياسة ونواميسها وشروط إدارة الدولة بوصفها مؤسّسة سياسية بامتياز، وعدم تقديمه حلولا لحماية الدينار ولتفاقم المديونية، وفقدانه الدراية بمجالات الاقتصاد والاستثمار والمالية والتخطيط والفلاحة والصيد البحري والصناعة والطاقة والتجارة وقضايا التربية والتعليم العالي والبحث العلمي والثقافة والعلاقات الدولية والأمن والدفاع، وكلّ ما يدخل في نطاق القضايا الحيوية للمجتمع والدولة بوصفه الرجل الثاني في تسلسلها الهرمي.
وعلى شاكلة من سبقوه من رؤساء الحكومات المنحدرين من بروفايلات إدارية، دخل المدوري قصر الحكومة مسرعا وبدأ في الإشراف على جلسات العمل الوزارية وفق ما جاء في بلاغ (بيان) منشور في صفحة رئاسة الحكومة التونسية في “فيسبوك”، وكان موضوع الجلسة “ترشيد الموارد المائية وآليات تنميتها وتنويعها”، من دون الإعلان عن برنامجه والتعريف بخطته في الحكم القريبة والمتوسّطة والبعيدة، لإنقاذ بلد تتناسل فيه الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية، ويعرف غلاء مشطّا للأسعار وتختفي فيه السلع الأساسية وغير الأساسية دورياً، وتنتشر فيه الجريمة المنظّمة، وتندلع الفوضى وأحداث عنف تخرج عن السيطرة أحيانا بسبب تدفق المهاجرين الأفارقة غير النظاميين من جنوب الصحراء الكبرى بأعداد ملحوظة وسيطرتهم على أحياء عديدة في مدن تونسية وعلى غابات الزياتين في العامرة وجبنيانة من ولاية صفاقس، وتنامي ظاهرة “الحرقة” وهجرة الكوادر إلى أوروبا، ويسود فيه شعور لدى شرائح كثيرة من الرأي بالخوف من الآتي، في تزامن مع ضبابية المستقبل السياسي والخشية من ترسيخ نظام استبدادي تعكسه الانتقائية في الترشح للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها يوم السادس من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
يحتاج كمال المدوري، إلى التمرّد على ما نُشّئ عليه من خنوع وطاعة الإداري المهووس بضمان منافعه وامتيازاته المادية وترقياته الإدارية، ولعب دور السياسي الجريء والمحنّك، حتى لا يكون مجرّد منسّق للعمل الحكومي، في حكومةٍ يعدّ بعض وزرائها من صقور قيس سعيّد، مثل وزيرة المالية التي تمتلك الولاية الكاملة على الشأنين المالي والاقتصادي، جاعلة من تونس دولة مجبى وسلب قانوني لممتلكات الناس وثرواتهم وتفقير لطبقتها الوسطى. ووزيرة العدل ذات الإشراف المطلق على الشأن القضائي بما يكسر شوكة المعارضات السياسية وغير السياسية، وأصحاب المال والأعمال، وتدجينهم وإخماد أصواتهم. ووزير الشؤون الخارجية الذي يستمدّ شرعيته من دبلوماسية الأعماق صاحبة النفوذ البائن على توجّهات ومؤسسات تونس الدبلوماسية وسياساتها الخارجية.
لم يكن خلوّ سيرة المدوري من التجربة السياسية عنصر قوّة وحكمة، وإلا فكيف له أن يقبل بتولي رئاسة الحكومة في فترة نهاية ولاية الرئيس سعيّد والبلاد قادمة على انتخابات رئاسية بعد شهرين من تاريخ التسمية، إلا أن تكون تلك الانتخابات صورية ومعلومة النتائج سلفا؟ تسمية رئيس حكومة جديد في الزمن الانتخابي يعدّ فيه خروج عن أعراف السياسة، علاوة على أنه لا يستند إلى قاعدة قانونية صلبة، ففي التجارب المقارنة تتولى الحكومات تصريف الأعمال إلى أن تنطق الصناديق الديمقراطية بأسرارها.
لا بدّ أن يكون المدوري على بيّنة من أن القبول بمنصب رئيس الحكومة أو بأي منصب وزاري في ظلّ حكم الرئيس سعيّد محفوف بالمخاطر، فهامش الحرية والتصرّف السياسي المسموح به ضعيف جدّا، والأخطاء لا يتحمّلها الرئيس أبداً، وإنما يذهب ضحيتها أعوانُه ورجالاته، فهو لا يسمح بأن يكون المنصب الحكومي مدخلاً لبناء ذات سياسية مستقلّة، يمكن أن تلعب دورا يختلف مع الرئيس أو ينافسه، حتى على المدى البعيد، وكما كان الرئيس بورقيبة آكل الزعماء، فإن سعيّد هو آكل رؤساء الحكومات والوزراء، وكلّ من اشتغل معه في منصب وزاري أو حكومي أو كان مستشاراً له في قصر قرطاج وغادر منصبه استقالة أو إقالة أو بسبب نهاية مهامه استحال عدماً سياسياً لا أثر له في الحياة العامة وعاد مواطنا عاديا، هذا إذا لم تلاحقه التتبّعات العدلية وقضايا التآمر والفساد.
المصدر: العربي الجديد