منذ بدايات العقد الثاني في الألفية الجديدة، وأوضاع العلاقات الدولية في تغير مطرد. كانت الحرب الباردة قد انتهت في تسعينيات القرن العشرين بانتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق بعد أن تفككت الكتلة الشرقية وزال حلف وارسو. كانت التسعينيات هي عقد الهيمنة الأمريكية الانفرادية على العالم، عقد التدخلات العسكرية من قبل واشنطن وحلفائها الأوروبيين في عديد الصراعات الإقليمية (حرب تحرير الكويت وحروب يوغسلافيا السابقة كمثالين) عقد الاستتباع الروسي للإرادة الغربية الذي جسده الرئيس الأسبق بوريس يلتسين بخضوعه التام للأمريكيين والأوروبيين وكمون الصين التي فضلت مواصلة جهودها التنموية في الداخل والابتعاد التام عن التورط في الصراعات الدولية المستعرة. غير أن العقد الثاني من الألفية الجديدة حمل تحولات عديدة ومتتالية.
من جهة أولى، عادت روسيا تدريجيا إلى ساحات الفعل الدولي وتوجهت إلى مناوئة الولايات المتحدة في وسط وشرق أوروبا ومناطق مختلفة في الشرق الأوسط (عبر الحليف الإيراني والحليف السوري) وإفريقيا (شمالا وجنوبا) وفي آسيا والمحيط الهادي من خلال التنسيق مع الصين. من جهة ثانية، شهدت الفترة الممتدة من 2010 إلى 2020 صعودا اقتصاديا وماليا محموما للصين التي تحولت إلى صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ووسعت من شبكات علاقاتها الاقتصادية والتجارية والمالية ومن إقراضها التنموي لدول الجنوب ومن استثماراتها في كل مكان، وشرعت في إظهار قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية في الأقاليم الحيوية لأمنها بمضامينه المتكاملة من منطقة المحيط الهندي-الهادي إلى غرب إفريقيا مرورا بالشرق الأوسط. من جهة ثالثة، حدثت في ذات الفترة سلسلة من الانتفاضات الشعبية في بعض بلدان وسط أوروبا والبلقان وفي الشرق الأوسط وفي بعض البلدان الآسيوية والإفريقية ونتج عنها إما تغيير في نظم الحكم أو انهيار مؤسسات الدولة الوطنية وانفجار الصراعات الأهلية أو أزمات أمن إنساني متراكمة وطويلة المدى. وإزاء كل ذلك، خاصة حين انفجرت الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بما تحويه من موارد نفط وغاز هائلة ومصالح استراتيجية واقتصادية وتجارية للقوى الكبرى وليس فقط للولايات المتحدة، تحرك كبار العالم لحماية مصالحهم.
لم تترك روسيا ولا الصين المجال للمعسكر الغربي المقاد أمريكيا للفعل بمفرده. حضرت روسيا بقوة فيما خص أزمات وصراعات إيران وسوريا وليبيا وبعض البلدان الإفريقية، وحضرت الصين اقتصاديا وتجاريا وتنمويا أولا ثم دبلوماسيا وأمنيا ثانيا في منطقة المحيط الهندي- الهادي ثم في شرق وغرب إفريقيا وفي الشرق الأوسط. ولم يترك الأوروبيون المجال للولايات المتحدة الأمريكية بمفردها لتفرض إرادتها باسم الغرب في الشرق الأوسط وفي القارة الإفريقية، بل زاحموها إلى حد ما. وكذلك طور الأوروبيون علاقات تعاون مركبة مع روسيا (استيراد الطاقة مثالا) لم تتدهور إلا بعد اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية في 2022، ومع الصين اقتصاديا وتجاريا (الاستثمارات الصناعية والتكنولوجية الأوروبية الهائلة نموذجا) بينما ابتعدوا تماما عن منافسة واشنطن في منطقة المحيط الهندي-الهادي وفي أمريكا الوسطى والجنوبية.
تغيرت، إذا، التفاعلات العالمية ودخلت على خطوط الصراعات الإقليمية المختلفة وفي سياقات البحث عن المصالح الاستراتيجية عديد القوى الدولية التي غابت لفترات كروسيا أو خرجت من كمونها كالصين أو سعت على استحياء إلى شيء من الاستقلالية كالأوروبيين.
في المقابل، كانت الولايات المتحدة قد استنزفت أدواتها العسكرية والأمنية والكثير من رأسمالها الدبلوماسي والإيديولوجي في حروبها الكثيرة منذ نهاية الحرب الباردة في التسعينيات، وارتفعت أصوات نخبها السياسية والبحثية تطالب بتقليل الانكشاف الأمريكي عالميا وتحجيم الدور في أوروبا حيث يستطيع الحلفاء الحفاظ على مصالحهم ومصالح واشنطن إن قرروا الاستثمار الجاد في موازنات الدفاع والأمن وكذلك الانسحاب من الشرق الأوسط حيث الأزمات والصراعات والحروب الأهلية التي لا تنتهي. وفيما خص الشرق الأوسط، دفعت النخب السياسية والبحثية الأمريكية بحقيقة تراجع أهمية مصالح القوة العظمى هناك مع تحقيقها للاكتفاء الذاتي من الطاقة. أما بعيدا عن منطقتنا، فتحرك الأمريكيون آسيويا لمواجهة الصعود الصيني المهدد لمصالحهم ومصالح حلفائهم في منطقة المحيط الهندي ـ الهادي وإفريقيا للانفتاح على دول الجنوب العالمي الأفقر حيث التبعية للإقراض التنموي الصيني وحيث العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية مع العملاق الآسيوي في تطور مستمر.
ومع جائحة كوفيد وتداعياتها الصعبة على الاقتصاد العالمي وما نتج عنها من تكالب كبار العالم على تعويض خسائرهم الاقتصادية والتجارية والمالية بأنماط جديدة من استغلال دول الجنوب وبصنوف جديدة من التحالفات الدولية تارة لأغراض التنمية والاستثمار وتارة لأغراض الإقراض، صار واضحا أن الولايات المتحدة لم تعد القوة الكبرى الوحيدة المتحكمة عالميا في الاقتصاد والتجارة. فقد أضحت الصين منافسا شرسا، وتنامت العلاقات التجارية وصادرات السلاح الروسية، واتسعت مجالات التعاون التنموي بين الهند وعديد الدول في آسيا وإفريقيا، وباتت لدول الجنوب القدرة على الذهاب إلى الحكومات الصينية والروسية والهندية وطلب قروضها التنموية ومساعداتها في مجال البنى التحتية والتكنولوجية والصناعية عوضا عن القروض والمساعدات الأمريكية والأوروبية.
ولم يسبب اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية في 2022 ثم نشوب حرب غزة في 2023 سوى توضيح تراتبية القوى الكبرى إن في الغرب أو بعيدا عنه. فاتضح احتياج أوروبا وعلى الرغم من قدراتها الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية للتحالف مع الولايات المتحدة عسكريا وأمنيا وكذلك للحد من تبعيتها للطاقة المستوردة من روسيا. وظهر أيضا أن روسيا، وعلى الرغم من قدراتها العسكرية، تحتاج لدعم الصين. وباتت جلية رغبة الهند في قيادة الجنوب العالمي ومواصلة الاقتراب الحذر من المحور الصيني ـ الروسي مع الاحتفاظ بعلاقات تعاون جيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وحين سعت الولايات المتحدة إلى دفع الهند للمشاركة في احتواء النفوذ الصيني المتزايد في القارة الآسيوية وفي المحيطين الهادي والهندي وقدمت الكثير من عروض التعاون السخية، تحفظ الطرف الهندي على التورط في مواجهة مع عملاق آسيوي يجاوره ويتفوق عليه في القوة والقدرات وله معه مصالح مشتركة ورفض التورط في تحالفات عالمية وإقليمية غرضها الوحيد حصار الصين.
وفي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ليست الأهداف الاستراتيجية للصين باستثناء على مجمل توجهاتها في السياسة الخارجية حيث توظف بكين سياستها الخارجية لخدمة أهدافها الداخلية المتمثلة في النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي والتقدم العلمي والتكنولوجي وحماية الأمن القومي. تأسيسا على ذلك، تعطي السياسة الخارجية الصينية أهمية كبرى لتوظيف مواردها ومصادر قوتها الصلبة والناعمة في جوارها المباشر حيث تايوان والدول الآسيوية القريبة منها وحيث العلاقات التاريخية المعقدة مع اليابان وكوريا وفيتنام وحيث التنافس مع الولايات المتحدة. كذلك، تهتم الصين بمنطقة الخليج بشقيه العربي والإيراني وتحتاج إلى الاطمئنان لحضور ترتيبات أمنية تحول دون تهديد شبكات النفط والغاز الطبيعي ودون تهديد خطوط التجارة والملاحة الدولية.
أما روسيا، فقد نجحت في استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأمريكية منذ 2001، من تدخلات عسكرية ورغبة في الهيمنة المنفردة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى التردد الاستراتيجي والتراجع عن التعهدات الأمنية المقدمة للحلفاء الإقليميين والانسحاب العسكري، لكي تعيد صياغة أدوارها في المنطقة. عملت روسيا على مد شبكات تصدير السلاح والتعاون الأمني والاقتصادي والتجاري إلى مجمل الإقليم بحيث لم يمنع دورها في سوريا من صياغة علاقة استراتيجية مع إسرائيل. ولم يمنعها القرب من إسرائيل من الحفاظ على روابطها القوية مع إيران على الرغم من العداء المستمر والمتصاعد بين تل أبيب وطهران. ولم تمنع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل وإيران موسكو من أن تصدر السلاح إلى السعودية والإمارات ومصر وتركيا وأن ترفع معدلات التعاون معها ومع الجزائر في شمال إفريقيا. بل ونجح صناع القرار الروس في تطوير تحالفات مصلحة مع حكومات المنطقة فيما خص أسعار الطاقة العالمية التي تريد موسكو والعواصم الخليجية الحفاظ على ارتفاعها الراهن دعما لموازناتها العامة، ومزجوا بين ذلك وبين الاتفاق مع مصر والجزائر على بناء مفاعلات نووية بتمويل وتكنولوجيا من روسيا. الهدف الاستراتيجي الواضح للأدوار الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو عدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع المنطقة كالقوة المهيمنة الوحيدة. الهدف الثاني هو الضغط في اتجاه تبلور نظام أمني جديد يرث الانفرادية الأمريكية وتشارك في صياغته القوى العظمى كلها، أي الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، ومعها الأطراف الإقليمية المؤثرة. لذلك تقدم روسيا نفسها كقوة عالمية بديلة لا تتقلب سياساتها بتغير الإدارات وتستطيع التعاون العسكري والأمني والتنسيق فيما خص أسعار الطاقة بعيدا عن خطوط الصراع التقليدية بين إسرائيل وإيران وبين الأخيرة ودول الخليج وبين تركيا والعديد من الأطراف العربية.
العالم اليوم يعيش على وقع المنافسة بين القوى العظمى، وعلى وقعها تتحدد ملامح التفاعلات الدولية الجديدة ومواقف القوى الكبرى الأخرى من روسيا والهند إلى أوروبا، وعلى وقعها تتشكل استراتيجيات وسياسات دول الجنوب العالمي التي صارت قادرة على الاختيار بين المعروض أمريكيا وأوروبيا وبين المعروض صينيا وروسيا وربما هنديا.
كاتب من مصر
المصدر: القدس العربي