ثلاثة أشهر تفصلنا عن موعد الانتخابات الأميركية لمعرفة اسم الرئيس الـ47. هل سيكون المُرشّح الجمهوري، الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الذي يحظى بدعم (وترحيب) القوى اليمينيّة المُتطرّفة في الغرب والشرق، كما تتخذه الأنظمة المُستبدّة نموذجاً لإهانة المؤسّسات الديمقراطية، والتشكيك في مصداقية الصحافيين، والتعالي عليهم، وحجب المعلومات عنهم، والحدّ من فُرَص اللقاء بهم، والتهرّب من مواجهة أسئلتهم التي تمثّل ركناً أساسياً من أركان النظام الديمقراطي، لا سيّما في ميدان الحقّ في الحصول على المعلومات، والحقّ في التعبير عن الرأي، من دون أيّ خشية من المساءلة والمحاسبة؟ أم ستدخل كامالا هاريس التاريخَ من بابه الواسع، بوصفها أولَ امرأةٍ تفوز بأرفع منصب في البلاد، والأكثر قوّةً وصلاحيةً وتأثيراً، بموجب الدستور الأميركي؟
ستكون هاريس، في الوقت ذاته، في حال فوزها الذي تتعاظم درجة احتمال حصوله يوماً بعد يوم، أول رئيس آسيوي ملوّن (أسمر، أسود، لا يهم)، وستغدو مُلهمةَ الأجيال الشابّة من المهاجرين الأفارقة والآسيويين، والأجيال المُتعلّمة منهم، وتمنحهم المزيد من الأمل والثقة في النفس وفي المستقبل، في المجتمع الأميركي، وذلك كلّه سيكون في مصلحة الولايات المتّحدة في المستويين الداخلي والخارجي، سواء من جهة تخفيف مستويات التوتّر بين المكوّنات المجتمعية الأميركية المُتعدّدة، أم من ناحية مدّ الجسور مع الدول والمجتمعات والأمم الصاعدة في المستوى العالمي، خصوصاً في آسيا وأميركا اللاتينية. هذا، ناهيك عن العلاقات الوثيقة القائمة أصلاً بين الولايات المتّحدة ودول أوروبا الغربية.
وبتوافق الديمقراطيين على اسم كامالا هاريس، وعلى دعمهم لها بعد انسحاب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من سباق الانتخابات الرئاسية، فوجئت حملة ترامب بوقائع كارثية، بلغت حدّ انقلاب السحر على الساحر؛ فتهمة الشيخوخة، التي كان ترامب يستخدمها ضدّ بايدن، باتت تلاحقه شخصياً، كما أنّ سلسلة الفضائح والإدانات الجنسية، والتحقيقات القضائية التي تنتظره، ستكون مكشوفةً معروفةً أمام المُدَّعية العامَّة السابقة هاريس، التي تمتلك الأدوات والخبرة الكافيتين، اللتين تمكّنانها من تسليط الضوء على سقطات ترامب لتكون مادّة ملموسة، يُحدِّد بموجبها المُتردّدون مواقفهم في الانتخابات الرئاسية المُنتظرة.
وتتأتّى أهمية الانتخابات الأميركية في المستوى العالمي من استمرارية أميركا في الريادة العالمية في جميع المستويات، وقدرتها على التأثير في مختلف الجوانب الاقتصادية والعسكرية والعلمية والتقنية والفنّية في المستوى الكوني، رغم المحاولات التي بذلها (ويبذلها) المنافسون. ومن هذه المحاولات تلك التي تمثّلت في تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي افتتح بها غزوه أوكرانيا، وبشّر من خلالها بظهور نظام دولي مُتعدّد الأقطاب. وفي سعي غير منتج لتحويل هذه الأمنيات واقعاً ملموساً قائماً، روّج بوتين تارّة النظرية/ الأيديولوجيا الأوراسية، وإمكانية بناء تكتّلات دولية سياسية اقتصادية في مقدورها الارتقاء إلى مستوى تكتّل السبعة الكبار، أو الاتحاد الأوروبي. ومن بين ما راهن عليه في هذا المجال تكتّل دول بريكس.
ولم يكتفِ بوتين بذلك، بل عمل بالأساليب كلّها من أجل استمالة تركيا، وحزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيّب أردوغان تحديداً، وحاول استغلال الصعوبات الداخلية الإقليمية، وحتّى الدولية، التي يعاني منها أردوغان، عبر إغداق الوعود عليه، والتلويح بالفوائد التي يمكن أن تجنيها تركيا إذا ما كانت في صفّ روسيا، أو في الأقل محايدةً، غير ملتزمة بالعقوبات الصارمة التي فرضها الغرب على بوتين ونظامه بعد الحرب التي أعلنها على أوكرانيا، تحت اسم “العملية العسكرية الخاصّة”، وذلك تهرّباً من تبعات قانونية، وتحويراً في المعطيات الفعلية.
وجدير بالذكر هنا أنّ هذا الغزو جاء بعد مرور نحو عشرة أعوام على الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم، وهو الغزو الذي عارضه الغرب، والولايات المتّحدة على وجه التخصيص، دبلوماسياً، من دون أن تصل الأمور إلى حدّ تقديم دعم عسكري مادّي صريح من الغرب للقوات الأوكرانية، التي اضطرّت لاحقاً إلى الإعلان عن انسحابها التامّ من شبه الجزيرة، ليضمّها بوتين إلى الاتحاد الروسي، بموجب إجراءات شكلية محسومة النتائج سلفاً.
ومع تطوّر الأحداث في سورية، وبروز مخاطرَ جدّيةٍ تنذر بسقوط سلطة آل الأسد، رغم الدعم القتالي الكبير الذي قدّمته لها إيران والأذرع التابعة لها، خاصّةً حزب الله، وفصائل الحشد الشعبي العراقية، كان التفاهم بين إيران وروسيا من ناحية، وبين روسيا والولايات المتّحدة على دخول القوات الروسية إلى سورية لمنع سقوط السلطة المذكورة، من ناحية أخرى، مع إعطاء الضمانات الكافية لإسرائيل بأنّ الساحة السورية لن تكون ميداناً لأيّ أعمال عدائية مُهدِّدة لها. ومن الواضح أنّ هذا التوافق ما زال ساريَ المفعولِ، رغم التطوّرات التي حدثت لاحقاً في أوكرانيا نتيجة الغزو الروسي للبلد، والالتزام الغربي العلني بتقديم أنواع الدعم كلّها لأوكرانيا لمواجهة ذلك الغزو، والاستعداد لمقارعة التهديدات المستقبلية لأوروبا بصورة عامَّة.
رغم ذلك كلّه، استمر الالتزام الروسي غير المُعلَن تجاه اسرائيل على ما هو عليه، ولم تتدخّل روسيا يوماً لا دبلوماسياً ولا عسكرياً من أجل وضع حدّ للهجمات الإسرائيلية الجوّية التي استهدفت (وتستهدف) على مدى أعوام مواقع الإيرانيين وأذرعهم، وذلك في سياق جهود استباقية لمنع تشكّل أيّ خطر حقيقي في الأراضي السورية مستقبلاً يمثّل تهديداً لإسرائيل. ويمكن لأيّ متابعٍ للتحركات العسكرية التي تقوم بها الجيوش والمليشيات الأجنبية في الأرض السورية أن يكتشف بنفسه كيف أنّها تفاهمت في ما بينها، والتزمت حدود مناطق النفوذ التي توافقت عليها.
أمّا التحرّكات الوظيفية التي تحدُث من حين إلى آخر، هنا أو هناك، فهي لا تتجاوز عتبةَ محاولات استعراض القوّة، والتذكير بوجودها، وذلك استعداداً لدورٍ تتطلّع إليه قد توكّل به مستقبلاً في حال توافق اللاعبين الكبار المُتحكّمين باللعبة، وإن بدرجات متفاوتة. ولعلّه من نافل القول الإشارة إلى أنّ الجانب الأميركي يبقى صاحب الأرجحية الواضحة، فهو يمتلك أوراقَ الضغط التي تُلزم الفاعلين الدوليين والإقليميين والمحلّيين بـ”دوزنة” الخطوات وفق الهامش المتاح أميركياً، هذا بغضّ النظر عن الشعارات المرفوعة، والخطابات النارية المسموعة، هنا وهناك.
بناء على ما تقدّم، تحظى الانتخابات الأميركية باهتمام السوريين ومتابعتهم، لأنّه في ضوء نتائجها ستتبلور ملامح الآتي الذي ينتظرهم، ويُحدّد مصيرهم ومصير بلدهم، خصوصاً في ظلّ غياب المرجعية الوطنية المُوحّدة المتماسكة التي يتمحور همها الأساس حول أولويات شعبها، ففي حال فوز ترامب، من المرجّح أن يتراجع الاهتمام الأميركي بسورية إلى أدنى مستوياته، ويُترَك الموضوع السوري للتفاهمات الإسرائيلية الروسية، مع مراعاة الحسابات الأميركية الخاصّة بالعراق والمنطقة، والحدّ من النفوذ الإيراني بما يتناسب والمصالح الأميركية، والمصالح والحسابات الفرنسية والغربية في لبنان. أمّا إذا فاز الديمقراطيون بقيادة هاريس، التي تحظى حالياً بدعم قوي لافت من القيادات الرئيسة في الحزب الديمقراطي، فمن المُتوقّع أن يستمرّ التعامل الوظيفي مع الورقة السورية، واعتماد سياسة غضّ النظر عن خطوات التطبيع العربية، وحتّى الأوروبية، مع السلطة الأسدية، وذلك مقابل التزام الأخيرة بالتفاهمات الأميركية الروسية الإسرائيلية بشأن سورية، وبشأن دور السلطة المعنية في المنطقة. وذلك كلّه سيكون بطبيعة الحال متناغماً مع التفاهمات الأميركية الإيرانية الخاصّة بجملة من القضايا الأساسية في الإقليم، بصرف النظر عن تشابك التصريحات والشعارات المتباينة العالية النبرة في أحيان كثيرة.
وفي جميع الأحوال، تبقى هذه الأمور في إطار التخمينات العامَّة، أمّا الوقائع الفعلية التفصيلية فهي تظلّ مُتوقّفةً على طبيعة المُتغيرات والتحوّلات المتسارعة المتلاحقة، لا سيّما في مناخات الحرب الإسرائيلية على غزّة، وأبعادها، وتأثيراتها المُتشعّبة، في مواقف واصطفافات مختلف القوى في إقليمنا المُنهَك.
المصدر: العربي الجديد