حَظي السجناء الغزّيون بمعاملة خاصّة من الجيش الإسرائيلي. هو لا يعتبرهم مجرمي حرب يمكن له التصرّف بهم. يحقّ له نظرياً احتجازهم 75 يوماً قبل تقديمهم للمحاكمة. “نظرياً” نقول: فهو لا يحترم هذين البندَين اليتيمَين، ولا يُورد أيَّ بنودٍ أخرى تتعلّق بظروف “اعتقالهم”. أخذ هذا الجيش حرّيته الكاملة برمي كلّ غزّي تمكّن منه في شاحنات، كدّس الواحد فوق الآخر، والتقط صوراً لهم، عُراةً مكبّلين بالأصفاد ومعصوبي الأعين، مُحمَّلين إلى معسكرَين سرِّيَين. الأول سدي تيمان، والثاني بيت ليد. والاثنان يتنافسان في ابتداع أشكالٍ من التعذيب لا تعرفها أقسى سجون الاستبداد.
رائحة المعسكرَين السرِّيَين المُخصَّصَين لسجناء غزّة لم تلبث أن طلعت. لا يمكن إخفاء التوحّش الذي حكم قانونهما العملي الخاص، من دون أيّ حماية قانونية، هي في كلّ حال شديدة النسبية، من دون أيّ تدخّل للصليب الأحمر الدولي، أو ما يشبه تلك المنظّمة. أربعة آلاف سجين، مُكوَّمين مرصوصين، مُكبَّلي اليدين والرجلين، يأكلون القشّ، يقضون حاجاتهم في مكانهم، يتعرّضون للضرب المُبرّح، والتحرّش الجنسي، والحرمان المتواصل من النوم، ويستمعون لموسيقى متواصلة بأعلى ما يمكن من صوت.
في إبريل/ نيسان الماضي، زار طبيب السجون الإسرائيلية المُعسكرَين، وكتب رسالةً إلى وزيرَي الدفاع والصحّة، وإلى المُدَّعي العام، يصف فيها الظروف المُروِّعة للمحتجزين، متَّهماً الجيش بخرق قوانينه، معلناً بتر أعضاء سجناء نتيجة التكبيل المتواصل، مُفصِّلاً ما رَشَحَ من المعسكرين من تكدُّسٍ وضيقٍ ونقصِ هواء، وتثبيت بالأرض مثل البهائم… وقتها، أجابت قيادة الجيش بأنّها تعمل لتزويد المعسكرين بالطعام والدواء، وبأنّها تسهر على صحّة المُحتجزين، وأنّها تحترم “المعايير المهنية” للسجون الإسرائيلية… وكلام من هذا القبيل. كذلك فعل مندوب لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتّحدة فولكر تورك، فقدَّم رقماً دقيقاً لموت 53 سجيناً في المُعسكرَين منذ بداية الاعتقالات، ويُعرِّج على السرِّية التامة التي فُرضت على أوضاعهم، وعلى حظر أيّ استشارة قانونية بشأنهم.
وبالأمس، قرَّر الجيش عبر مُدَّعيه العام فتحَ تحقيقٍ بشأن “تجاوزات خطيرة” ارتكبها جنود احتياط، بينهم ضابط، في حقّ سجين فلسطيني في معسكر سيدي تيمان. فتقرَّر توقيف تسعة عناصر مُتَّهمين باغتصاب السجين بوحشية أدّت إلى تمزُّق أمعائه، ما أوجب إدخاله المستشفى. على الفور، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية بفيديوهات جنودٍ غاضبين لاعتقال زملائهم. وكانت هذه مُقدِّمةً لتحرّك خطير وصفه بعضهم بأنّه مُقدِّمةٌ عمليةٌ لانقلاب على الجيش نفسه؛ مئات الإسرائيليين تظاهروا أمام مدخل المعسكرين، يطالبون بتحرير الجنود الموقوفين، يتجاوزون الحرس عنوةً، يقتحمون المُعسكَر صارخين “الموت للخائن المُدَّعي العام”. مطالبهم؟… إطلاق سراح الجنود المُتَّهمين فوراً، واستقالة قائد الجيش، والتضامن مع “الأصدقاء الجنود ضدّ الإرهابيين الفلسطينيين”، فهؤلاء الجنود “ضحُّوا بحياتهم من أجلنا”، و”ممنوعٌ المسُّ بمقاتلينا الأبطال”… إلخ.
من هم المُنتفِضون هؤلاء؟ ممّن تتشكل هذه الجمهرة؟… الجنود أولاً، يلبسون السواد، مقنَّعين بالكامل، يحملون رشّاشاتٍ، وأسلحةً من نوع خاص، ويضعون فوق صدورهم علامة “مائة”، التي تعني أنّهم يخدمون في هذين المعسكرين الرهيبين (بين العسكر الموقوفين قائد قوّة “مائة” هذه). بعضهم تعرّض لطاقم تلفزيوني إخباري، رموا أدواتهم وحطّموها، ومنعوا بقيّة الصحافيين من تغطية ما يسمُّونه “انتفاضتهم”. لكنّ العسكر ليسوا وحدهم في هذه الانتفاضة، إلى جانبهم عددٌ من نواب الكنيست، والوزراء في الحكومة المنتمين الى اليمين الديني المُتطرِّف. مع أنّ الوزيرين الأكثر تطرّفاً، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، لم يشاركا فيها، إلا أنّهما أرسلا مندوبين عنهما، وأطلقا تصريحاتٍ حارّةً ومتحمَّسةً، قالا فيها ما اعتادا تكراره عن ضرورة القضاء على “الإرهاب الفلسطيني”. وبدا وكأنّ الحكومةَ نفسها منقسمةٌ حول الموضوع، وإن في شكل غير متعادل، إذ يغلب عليها وزراء اليمين الديني، بالإضافة الى الوزيرين الأبرَزين سموتريتش وبن غفير، أتى التأييد الحار من وزراء العدل والاقتصاد والمواصلات. ولم يخالفهم سوى وزير الداخلية، ووزير الدفاع يوآف غالانت، والأخير أعلن أنّ “القانون يُطبَّق على الجميع، حتّى في حالة الغضب”، وهو الشهير بـ”حيْوَنَة” الفلسطينيين بعد “الطوفان”. أمّا بنيامين نتنياهو، وكما هو مُتوقَّع، فراوغ. أدان الحادثة بعبارات مخفّفة، وفي اليوم التالي قارن بين هذه “الانتفاضة” والتظاهرات العارمة المناهضة لمشروعه عشية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، المعروف بـ”إصلاح القضاء”، كان غرضه ضرب استقلاليته. أي أنّه قارن بين حماة القضاء المستقل والاحتجاج على استجواب عسكر تمادوا في اغتصاب سجين فلسطيني.
بعد غالانت، كانت مواقف معارضَين للحكومة؛ يائير غولان وبني غانتس، احتجاجاً على جموح نتنياهو نحو الحرب الشاملة. الاثنان أكّدا ضرورة “احترام القيم الأساسية للجيش الإسرائيلي ودولة القانون”، ورفضا حالةَ الفوضى التي تسببت بها هذه الانتفاضة. الثاني، بني غانتس، شدّد على أنّ معتقلي “النُخْبَة”، أيّ معتقلي “حماس”، لا يستحقون أيّ معاملة خاصة. ولكنّ المثير للسخرية والاستغباء أنّ هذه الضوضاء كلّها، التي يحاول عبرها الجيش أن يبيّض صفحته، فينتفض ضدّه هذا الجمع كلّه، هو أنّ السجين الفلسطيني الذي تعرّض للاغتصاب ليس وحده ضحيّة حرّاس المُعسكرَين السرِّيَين. كما أصبح العالم كلّه يعرف الانتهاكات الجسيمة بداخلهما ضدّ مشتبه بهم لا يُحاكَمون، ولا يُحقَّق في مزاعم انتمائهم. الجانب الهزلي أنّ جريمة الجنود التسعة في حق السجين الفلسطيني هي نقطة في بحر الجرائم الإسرائيلية، فيما تبدو المُعارَضة لهذه الأكثرية تدافع عن “قيم” الجيش الإسرائيلي، وكأنّه لم يرتكب غيرها من انتهاكات. أمّا في العدسة الداخلية، فالأمر لا يقلّ خطورةً. قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تضجُّ بانقسام واضح بين يمين مُتطرّف في رأس السلطة، وليبراليين علمانيين، حول مشروع يُهدِّدُ استقلالية القضاء، وسمّي بـ”الانقلاب القضائي”. وصل الأمر إلى تمرُّدِ وحداتٍ عسكريةٍ. في هذه الأثناء كان بن غفير يُسلّح المستوطنين ويُشجّعهم على المزيد من القضم لأراضي الضفّة الغربية. وأتى “7 أكتوبر” ليضعف التحرّك الأول، ويُقوّي إجراءات الثاني، فيتوجّه المجتمع الإسرائيلي بأكثريته الساحقة نحو تدمير “حماس” أو بالأحرى غزّة.
واضح أنّ اليمين المُتطرّف يفقد صبره أمام “الانتصارات” التي حقّقها ضدّ الفلسطينيين. يريد أن يُلغي الدولة ويستولي على الجيش، ليفتح أبواب الحرب الخالدة، مُقدِّمةً لإعادة بناء المعبد الثالث. وهذا أقصى أماني جماهيره الحاشدة الكارهة لكلّ من يعمل لغير ذلك، حتّى لو كان حليفاً أو صديقاً. بناء المعبد الثالث أم تدميره؟… إنّه صراع داخلي مفتوح بين جناحَين إسرائيليين غير متكافئَين غارقَين في فوضى نعرفها جيداً، وسط تحلّلٍ للنسيج الاجتماعي، وانقسامٍ بين الجيش ومُتحمِّسين للمشروع الإلهي اليهودي، وداخل الجيش نفسه، بين جيل قديم “عقلاني”، وآخر من الشباب، مسياني ديني، أقرب إلى تفكير المليشيا.
والتتمة، مهما كانت نتيجة الحرب، هي صراع إسرائيلي داخلي مفتوح بنسيج اجتماعي مهلهل، وفوضى معايير تشبه ما يحصل في الجوار. وقد يكون هذا هو التطوّر “الطبيعي” لإسرائيل.
المصدر: العربي الجديد