يجهر الكثير من الساسة والمثقفين السوريين بالقول: إن الدولة السورية منذ تأسيسها وإلى اليوم لم تتشكّل بعد، أي إنها لمّا تزل مجرّد كيان سياسي لم يتحول إلى طور الدولة وفقاً لمعايير الدولة الحديثة، ويعزو أصحاب هذا الرأي أسباب ذلك بالدرجة الأولى إلى أنماط الحكم التي تعاقبت على إدارة البلاد وكذلك إلى طبيعة العلاقة الناظمة بين الفرد والسلطة، ولا شك أن هذه الأسباب المذكورة تستبطن بداهةً خضوع البلاد السورية طوال عقود للانقلابات العسكرية المتعاقبة التي ضمنت للعسكر حيازة السلطة، ولئن تميّز الانقلاب الذي قام به حافظ الأسد عام 1970 عما سبقه من انقلابات بديمومة هي الأطول عمراً، إلّا أن هذه الديمومة ربما أتاحت للحاكم نوعاً من الاستقرار الأمني بفضل آلة البطش، ولكنها لم تتح حالة من الاستقرار الدستوري، بمعنى أن مشروعية السلطة، وكذلك طبيعة ممارستها للحكم، لم تكونا قائمتين على ما يسنّه الدستور، بل على ما يقرره الحاكم وتجسّده فعلياً السلطة التنفيذية.
وبناءً على هذا التصوّر أسّست تطلعات معظم السوريين مع انطلاق الثورة في آذار 2011 على المطالبة بإحلال الدستور محلّ مشيئة الحاكم، وسلطة القانون بدلاً من سلطة الأمن، وإحلال مفهوم المواطنة بدلاً من مفهوم الولاء، وبهذا يكون تعزيز سلطة الدستور وما تنبثق عنه من قوانين مقدّمةً لتعزيز الحريات والحقوق بجميع أشكالها، ولعل هذا المسار – كما نادى به معظم السوريين – هو بوابة العبور المثلى نحو الدولة الحديثة.
غياب الدولة أم غياب مفهوم ( الشعب)
تكشف المآلات الراهنة للمشهد السوري – وفقاً لفئة من الساسة والمثقفين قد أخذت بالازدياد مؤخراً – أن إشكالية تكوّن الدولة ليست هي المعضلة الوحيدة التي تختزل المشكلة السورية، بل ثمة معضلة أخرى تتجسّد بغياب مفهوم ( الشعب) في الحالة السورية، ووفقاً للفئة المشار إليها آنفاً، فإن ما يُسمّى الشعب السوري، هو في جوهره ليس أكثر من أعراق وأديان وطوائف وعشائر، لم يسبق لها أن ارتقت إلى مفهوم ( الشعب) بسبب غياب العقد الاجتماعي الناظم لعلاقاتها بين بعضها البعض من جهة، وبينها وبين الدولة من جهة أخرى، وقد استطاعت أنظمة الحكم الاستبدادية التي تعاقبت على حكم البلاد، وبفعل نهجها القائم على القمع والإكراه الذي تمارسه على الجميع، أن تجعل من تلك الأنماط السكانية المختلفة عرقياً ودينياً وطائفياً، كتلة بشرية، ظاهرها التوحّد والانسجام، أمّا باطنها فينطوي على تناقضات هائلة، حالت سطوة السلطة دون ظهورها طوال العقود الماضية، ولكن ما إن حدث الانفجار السوري منذ عام 2011 وما بعد، حتى بدأت تلك الانفجارات تتوالى، متمثّلة بما يشهده المجتمع السوري في الوقت الراهن من حالات التشظي والانشطار (قومياً ودينياً وطائفياً).
تبرير الهزيمة بتعزيز الخراب
السوريون إذاً أمام مشكلة مركّبة، بل وتحدّيات عظيمة، ربما تصبح مسألة التغيير السياسي أمراً نافلاً أمامها، ولو شئنا تحديد معالم أصحاب هذا الرأي لوجدناها متمثلة بما يلي:
أولاً – أصحاب دعوة حق تقرير المصير للأقليات العرقية بشتى انتماءاتها، وذلك من خلال فهم مجرد للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بعيداً عن واقع الجغرافيا وعدد سكان تلك الأقليات وانعكاس ذلك – سلباً أم إيجاباً – على المصلحة العامة للبلاد.
ثانياً – المنادون بالفيدرالية كسبيل أمثل للتباين العرقي والديني والمناطقي في سوريا، علماً أن جذر القضية السورية لا ينبثق عن صراع مجتمعي ذي أبعاد قومية أو دينية أو جغرافية، بقدر ما يتمحور حول نظام حكم إبادي اغتصب السلطة وصادر الدولة ومارس الإذلال على عموم السوريين.
ثالثاً – فئة نخبوية ثقافوية أخفقت في التصدّي لاستحقاقاتها في عملية التغيير، فلم تشأ الاعتراف بخطل أدواتها المعرفية وبؤس وعيها المؤسس – إيديولوجياً – وقصور رؤيتها في مقاربة واقع وسيرورة القضية السورية، فوجدت في رمْي المجتمع السوري بشتى أصناف التخلّف (البنيوي) مخرجاً يحفظ لها هيبتها ووقارها الذي طالما استخدمته للاستعلاء والفوقية حيال عامة الناس.
رابعاً – ثمة أصوات وجدت في تعدد سلطات الأمر الواقع واختلاف أجنداتها دليلاً على تباين مجتمعي سوري، فأربعة ملايين مواطن في إدلب – على سبيل المثال – هم جميعهم جبهة نصرة وفقاً لهذا التصور، وسكان المناطق التي تخضع لسلطة النظام هم جميعاً موالون للأسد، وكذلك سكان المناطق الخاضعة لقسد جميعهم من مؤيدي حزب العمال الكردستاني، وسكان مناطق شمال غربي سوريا جميعهم عمشات وسلطانات، وقد فات أصحاب هذا المنطق أن جميع سكان المناطق الأربع لم يكن لهم أي خيار لا في مجيء السلطة التي تحكمهم ولا في اختيار القائمين عليها ولا على توجهاتهم وأجنداتهم.
خامساً – عدد من مراكز البحوث والدراسات التي حظيت بتمويل هائل ووظّفت جلّ نشاطها نحو تأصيل أي ظاهرة سلبية طارئة باعتبارها شرخاً مجتمعياً فظيعاً، في حين أنها تجاهلت العديد من المظاهر التي تستحق الجهد والبحث، ولعل السمة العامة لتلك المراكز البحثية طوال سنوات هي السعي الدائم للتنقيب في الهوامش البعيدة عن المأساة السورية وعدم مواجهة القضايا الحيوية للمواطن السوري.
وبناء عليه، هل أخطأ السوريون حقاً حين هتفوا في مظاهراتهم السلمية منذ الأيام الأولى للثورة (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد)؟، وهل جسّد هذا الشعار بالنسبة إلى المتظاهرين انتماءً حقيقياً لسوريا يتجاوز أو يتعالى على الانتماءات الفرعية أم كان مجرّد شعار لا يخفي بداخله سوى الوهم؟ ولعل السؤال الأهم: هل غياب العقد الاجتماعي يعود لأسباب سياسية ذات صلة بطبيعة السلطة الحاكمة، أم لأسباب ذات صلة ببنية المجتمع السوري الذي جُبل على التشظي ورفض جميع أشكال التعايش الاجتماعي وفقاً للقائلين بذلك؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
لقد ركزت الثورة السورية آذار 2011 على المطالبة بإحلال الدستور محلّ مشيئة الحاكم، وسلطة القانون عن سلطة الأمن، و المواطنة بدلاً من الولاء، لتعزيز سلطة الدستور وما تنبثق عنه من قوانين مقدّمةً لتعزيز الحريات والحقوق بجميع أشكالها، قراءة موضوعية للدولة والشعب ووحدة الشعب السوري ضمن الولاء لسورية ضمن مابعد الوطنية وبعيداً عن الإنتماءات الفرعية.