محكمة العدل الدولية: حدودها ومدى نفوذها؟

فيديل سبيتي

تقرر في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي انعقد في حزيران (يونيو) 1945 وشاركت فيه 50 دولة إنشاء محكمة دولية تكون جزءاً من الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، واستند النظام الأساس لمحكمة العدل الدولية إلى النظام الأساس لسابقتها “المحكمة الدائمة للعدل الدولي”. وتملك القرارات غير الملزمة التي تصدر عن المحكمة الجديدة قوة رمزية كبيرة بسبب صدورها عن أعلى هيئة قضائية عالمية تتصل مباشرة بالهيئة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن.

***

في 19 تموز (يوليو) الماضي، أعلنت “محكمة العدل الدولية” أن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، وقرأ رئيس محكمة العدل الدولية، القاضي نواف سلام، نتائج تصويت قضاة المحكمة بأغلبية 11 صوتاً في مقابل 4 أصوات. وبالأغلبية نفسها، رأت المحكمة أن دولة إسرائيل ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة بأسرع ما يمكن، وبأغلبية 14 صوتاً في مقابل صوت واحد رأت المحكمة أن دولة إسرائيل ملزمة بالوقف الفوري لجميع أنشطة الاستيطان الجديدة وإخلاء جميع المستوطنين، وأنه على المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، عدم الاعتراف بشرعية هذا الوضع الناشئ.

وكان تعليق المتحدث باسم الأمم المتحدة هو أن الأمين العام سيحيل بشكل عاجل الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي طلبت مشورة المحكمة، وأضاف أن الأمر بات متروكاً للجمعية العامة لتقرر كيفية المضي قدماً في هذا الشأن.

قرارات غير ملزمة إلا في حالة واحدة

لا تملك محكمة العدل الدولية صلاحيات تنفيذية ولا يمكنها فرض عقوبات ولا تنفيذ الأحكام التي تصدر عنها، وتفتقر إلى وسائل تنفيذ مقرراتها، ويقتصر دورها على تقديم الأحكام القضائية والآراء الاستشارية. ولذلك لا بد من الإضاءة على دور محكمة العدل الدولية، خصوصاً بعدما اعتقد عدد كبير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي بأن إسرائيل ستنفذ قرارات المحكمة التاريخية التي انتصرت لحقوق الشعب الفلسطيني. لكنّ أماني الداعمين لحقوق الشعب الفلسطيني حول العالم بتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية تساوي أماني قضاة المحكمة الذين أصدروا القرارات القانونية، وتتقاطع مع الأمنيات المعلنة للأمين العام للأمم المتحدة ومسؤولين كبار في منظماتها الإنسانية، وكذلك مع ما تفضله فئات كبيرة من الشعوب العربية وشعوب أخرى حول العالم تتعاطف مع حقوق الفلسطينيين وسعيهم إلى إقامة دولة مستقلة. ويرغب مسؤولون حكوميون في دول عدة، وتحديداً في الاتحاد الأوروبي، ومسؤولون في الولايات المتحدة، بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، لأنه يخالف القرارات الدولية المتعلقة بحل الدولتين. إلا أن القرارات الصادرة عن المحكمة لا تلزم الحكومة الإسرائيلية ولا تحقق أماني أصحاب الحقوق وداعميهم. ومع ذلك، فإن هذه القرارات تؤثر تأثيراً مباشراً في الرأي العام العالمي، وكذلك في المواقف القانونية والقضائية داخل الدول. وتملك القرارات غير الملزمة التي تصدر عن محكمة العدل الدولية قوة رمزية كبيرة، لصدورها عن أعلى هيئة قضائية عالمية تتصل مباشرة بالهيئة العامة للأمم المتحدة وبمجلس الأمن.

أمثلة من قرارات المحكمة وآرائها الاستشارية

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارات وأحكاماً وقدمت قرارات استشارية في قضايا كثيرة عُرضت أمامها، منها على سبيل المثال، إصدارها في التاسع من تموز (يوليو) 2004 رأياً استشارياً غير ملزم بشأن الجدار العازل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية. ورأت المحكمة أن بناء الجدار مخالف للقانون الدولي، وطلبت من إسرائيل أن توقف البناء وتعوض عن الأضرار. وعلى الرغم من تأثير هذا القرار الكبير في اتجاهات النقاش الدولي في الموضوع، إلا أنه لم يكن إلزامياً.

ومن أوائل القضايا التي نظرت فيها المحكمة كانت قضية “قناة كورفو” التي تقدمت بها المملكة المتحدة بدعوى ضد ألبانيا في العام 1949 حول حقوق الملاحة والمسؤولية عن حادثة بحرية في قناة كورفو. وحكمت المحكمة في تلك القضية لصالح المملكة المتحدة، واعتبرت ألبانيا مسؤولة عن الحادثة وأمرت بالتعويض. ولم تلتزم ألبانيا بقرار المحكمة ورفضت دفع التعويضات التي فرضتها، واستمرت القضايا القانونية بين المملكة المتحدة وألبانيا بشأن تنفيذ الحكم مدة طويلة.

وفي العام 1969، نظرت محكمة العدل الدولية في النزاع حول الجرف القاري في بحر الشمال بين ألمانيا والدنمارك وهولندا حول ترسيم الجرف، وقررت المحكمة تحديد الحدود البحرية استناداً إلى مبادئ الإنصاف بدلاً من المساواة في المسافات.

وقدمت المحكمة رأيها الاستشاري في العام 1996 بشأن قانونية التهديد باستخدام -أو استخدام- الأسلحة النووية، وخلصت إلى أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية يخالف القانون الدولي.

في العام 1992، نظرت المحكمة في قضية “بان آم” المتعلقة بالطلب الذي قدمته ليبيا للأمر بتدابير حماية موقتة لحماية حقوقها التي تنتهكها المملكة المتحدة والولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية. وكانت المشكلة أن هذه العقوبات أذن بها مجلس الأمن، مما أدى إلى تضارب محتمل بين بنود الفصل السابع لمجلس الأمن والوظيفة القضائية للمحكمة. وقررت المحكمة بـ11 صوتاً في مقابل 5 أصوات أنه لا يمكنها الأمر بالتدابير الموقتة المطلوبة، لأن الحقوق التي تطالب بها ليبيا -حتى لو كانت مشروعة بموجب اتفاق مونتريال- صدرت بأمر من مجلس الأمن.

في القرن الحادي والعشرين، نظرت المحكمة في قضايا بارزة، منها، على سبيل المثال، تقديمها رأياً استشارياً بشأن قانونية إعلان استقلال كوسوفو، وحكمت في العام 2010 بأن إعلان استقلال كوسوفو لم يكن مخالفاً للقانون الدولي، ولو أنه لا يضمن هذا الاعتراف من جميع الدول.

ورفضت محكمة العدل الدولية في العام 2012 طلب اليابان إنشاء محكمة مستقلة لمراجعة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها كوريا الشمالية خلال الحرب العالمية الثانية. وقدمت المحكمة في العام 2016 رأياً استشارياً حول الوضع القانوني للبحرية الصينية في بحر الصين الجنوبي في قضية رفعتها الفلبين، واعتبرت المحكمة أن الصين لا تمتلك حقوقاً تاريخية تتجاوز الحقوق التي تضمنها اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار.

وفي قضية قطر ضد الإمارات العربية المتحدة في العام 2018، حكمت المحكمة بأن دولة الإمارات لم تنتهك اتفاق مناهضة التمييز العنصري بفرضها قيوداً على مواطني قطر بالسفر إلى الإمارات. وأصدرت المحكمة رأياً استشارياً بشأن الحدود بين السودان وجنوب السودان بناء على معاهدة السلام، وساعدت في التوسط وتسوية بعض النزاعات الحدودية بين البلدين. وفي قضية مقدونيا ضد اليونان في العام 2018 حكمت المحكمة بأنه يجب على اليونان قبول استخدام اسم “جمهورية شمال مقدونيا” وفقاً للاتفاق الذي تم التوصل إليه في العام 2018. وتم تنفيذ الاتفاق، وأصبح اسم “جمهورية شمال مقدونيا” الاسم الرسمي للدولة.

التسلسل الإداري في هيكلية المحكمة

السكرتير العام هو المسؤول الإداري الرئيس في المحكمة، وهو يتولى إدارة سجلات المحكمة والإشراف على الجوانب الإدارية لعملها، بما في ذلك التواصل مع الأطراف المتخاصمين. ويساعد السكرتير العام نوابه الذين يعينون من المحكمة، ولديهم صلاحيات رئيسهم نفسها. أما تعيين الموظفين الآخرين فيسير وفق إجراءات التوظيف التي تعتمدها الأمم المتحدة.

وينتخب قضاة محكمة العدل الدولية، وعددهم 15 قاضياً من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لمدة تسع سنوات، ويمكن إعادة انتخابهم، وانتخب القاضي اللبناني نواف سلام ليكون الرئيس الـ26 لمحكمة العدل الدولية من قضاة المحكمة لمدة ثلاث سنوات خلفاً للقاضية الأميركية جوان دونوغو. في حال توفي أحد القضاة يعاد انتخاب قاض بديل يحمل جنسية المتوفى نفسها، ولا ينتخب قاضيان من الجنسية نفسها.

ويحق لقضاة محكمة العدل الدولية أن يتمتعوا بلقب “صاحب السعادة”، ويمثل قضاة المحكمة “الأشكال المختلفة للحضارات الإنسانية والنظم القانونية الرئيسة في العالم”. وتتخذ قرارات المحكمة وتقدم استشارات وفق نظام الغالبية، وفي حال تساوي أصوات الأعضاء يصبح صوت رئيس المحكمة مرجحاً، وتعد محكمة العدل الدولية أعلى وكالة قضائية في هيئة الأمم المتحدة.

بعد الحرب العالمية الثانية، عقد اجتماع في واشنطن في نيسان (أبريل) 1945 شارك فيه 44 من فقهاء القانون من جميع أنحاء العالم لصياغة قانون لمحكمة دولية، وفي مؤتمر سان فرانسيسكو الذي انعقد في حزيران (يونيو) 1945 وشاركت فيه 50 دولة، تقرر إنشاء محكمة دولية تكون جزءاً من الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة الجديدة. واستند النظام الأساس لمحكمة العدل الدولية إلى النظام الأساسي لسابقتها المحكمة الدائمة للعدل الدولي، وفي اجتماعها الأول، انتخب القضاة رئيساً لهم هو القاضي السلفادوري خوسيه غوستافو غيريرو الذي كان الرئيس الأخير للمحكمة الدائمة للعدل الدولي.

ويكون حكم محكمة العدل الدولية ملزماً في حالة واحدة، وهي إقرار الدول المتقدمة بنزاعها أمام المحكمة، بخضوعها لحكمها النهائي في القضية المنظورة، لكن تستمد الفتوى القانونية التي تصدرها المحكمة قوتها من كونها صادرة عن الجهاز القضائي الرئيس والأعلى للأمم المتحدة، لذا فإن الرأي القانوني الذي تصدره المحكمة في أي قضية يترك أثراً قضائياً وقانونياً دولياً ولو لم يكن تنفيذه ملزماً.

ودفعت الحاجة المتزايدة إلى التحكيم الدولي في النزاعات المستجدة بأنواعها الحديثة المختلفة بين الدول والمنظمات الدولية إلى تعظيم دور المحكمة ورأيها واستشاراتها، وكذلك باتت معظم المعاهدات الحديثة تحتوي على بند ينص على تسوية المنازعات من محكمة العدل الدولية.

*فيديل سبيتي: كاتب وصحفي لبناني.

https://alghad.com/Section-171/%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%AA/%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF%D9%87%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%AF%D9%89-%D9%86%D9%81%D9%88%D8%B0%D9%87%D8%A7-1778253#:~:text=%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9,%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8%20%D9%88%D8%B5%D8%AD%D9%81%D9%8A%20%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A.

المصدر: – (إندبندنت عربية) /الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. إعلان “محكمة العدل الدولية” بجلستها 09-07-2024 بأن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، ولكن هذا القرار يظل حبر على ورق لأن المحكمة لاتملك صلاحيات تنفيذية ولا يمكنها فرض عقوبات ولا تنفيذ الأحكام التي تصدر عنها، وتفتقر إلى وسائل تنفيذ مقرراتها، ويقتصر دورها على تقديم الأحكام القضائية والآراء الاستشارية، فأين القوة التي ستنفذه؟.

  2. إعلان “محكمة العدل الدولية” بجلستها 09-07-2024 بأن استمرار وجود دولة إSرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، ولكن هذا القرار يظل حبر على ورق لأن المحكمة لاتملك صلاحيات تنفيذية ولا يمكنها فرض عقوبات ولا تنفيذ الأحكام التي تصدرها، وتفتقر لوسائل تنفيذ مقرراتها، ويقتصر دورها على تقديم الأحكام القضائية والآراء الاستشارية، بإنتظار القوة التي ستنفذها؟.

زر الذهاب إلى الأعلى