حملت التصفيات التي نفذتها القوات الإسرائيلية على خط بيروت – طهران معها أكثر من سؤال ينتظر إجابات، أمام تقاطع “الدوار الإيراني” وعمق الضاحية الجنوبية لبيروت، الذي كان من المفترض أن يكون بين الخطوط الحمراء على إسرائيل. فكيف ستتصرف القيادة الإيرانية للخروج من محنة استهداف الضيف إسماعيل هنية فوق أراضيها؟ وما الذي ستفعله قيادات “حزب الله” في بقعة جغرافية متداخلة ومتشابكة دائمة الجهوزية للانفجار مثل لبنان؟ يقول المرشد الإيراني إن إسرائيل أعدت لنفسها عقابًا شديدًا بعد ما فعلته في طهران، وحسن نصر الله يقول إن الرد ليس ببعيد. الواضح أن لا أحد يريد التريث في المنطقة لما بعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل.
وجدت إيران نفسها فجر 31 تموز المنصرم في وضع صعب ومحرج أمام الداخل والخارج:
– رئيس جديد، مسعود بزشكيان، يؤدي اليمين الدستورية بحضور عشرات الضيوف من الشخصيات السياسية والدبلوماسية، معولاً على لغة إصلاحية منفتحة على الخارج، بينهم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. وبعدها بساعات يتم استهداف مقر إقامة الأخير بطهران على مرأى ومسمع من قيادات الحرس الثوري، التي من المفترض أن توفر له الحماية وهو فوق الأراضي الإيرانية.
– هناك عرض عضلات إسرائيلية في مواجهة القيادة الإيرانية، التي تعلن منذ سنوات عن جاهزيتها القتالية في مواجهة القوى الإقليمية، لكنها تجد نفسها أمام ورطة اختراق إسرائيلي أمني عسكري جغرافي لإيران، والوصول إلى قلب العاصمة دون أن تتضح تفاصيل عملية الاستهداف بعد.
– وهناك أيضًا صدمة لملمة ما بعثره التفجير الإسرائيلي في عمق طهران، بعدما كان الهدف هو الخروج السريع من ارتدادات صواريخ استهداف القيادي في حزب الله فؤاد شكر (“السيد محسن”) في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، التي كانت خطًا أحمر في المواجهة بين الطرفين. فبدل نتنياهو رأيه معلنًا أن المسألة لم تعد توسيع رقعة الحرب في المنطقة ونقلها إلى جبهات جديدة، بل هي مسألة “القضاء على كل من يحاول المساس بإسرائيل”.
تراجع عدد من كان يتساءل لماذا يصعد نتنياهو على هذا النحو وعلى كل الجبهات؟ ولماذا اختار طهران كمكان لاغتيال إسماعيل هنية؟ وكيف فاتنا التنبه لتشكيل كتيبة الاغتيالات الإسرائيلية “نيلي” الهادفة لتصفية قيادات فلسطينية ولبنانية وإيرانية تتواجد على خط جبهة واحدة ضد إسرائيل؟ ولماذا لم نستفد من دروس “غضب الرب” قبل أكثر من نصف قرن لإعداد الخطط الكفيلة بردع إسرائيل وإيقافها عند حدها في التخطيط لعمليات الاغتيال والتصفيات في صفوف من يهدد أمنها؟
هناك سؤال أكبر وأهم يطرح اليوم: هل هناك من جيّشته المخابرات الإسرائيلية في الداخل الإيراني على مستوى رفيع يزودها بالمعلومات الضرورية والعاجلة كما حدث قبل أيام عند استهداف الشهيد هنية؟ أم هي عملية تبادل خدمات قدمها البعض لحماية مصالحه الإقليمية وتسهيل مهمة واشنطن في الدخول على خط الوساطات والتهدئة بين إيران وعدوها الإسرائيلي؟ هدية إيرانية للديمقراطيين، مثلاً، كون بايدن هو الذي سيجعل ما جرى لصالحه عند توجه اللوبيات الإسرائيلية في أميركا إلى صناديق الانتخاب في تشرين الثاني المقبل؟
منذ أشهر ونحن نتحدث عن سيناريو التقارب الإيراني الإسرائيلي بقرار أميركي في المنطقة، والذي يهدد مصالح بقية الدول الفاعلة في الإقليم. سيناريوهات التصعيد على جبهات لبنان وطهران والبحر الأحمر والجولان تعزز أكثر فأكثر فرص تقدم هذه الاحتمالية.
من سيردع نتنياهو بعد الآن وهو المنتشي بمشاهد صواريخه التي حولت أماكن وجود الحاج محسن في بيروت وإسماعيل هنية في طهران إلى أنقاض صعب انتشال الجثث منها؟
– دول المنطقة عندما تتوحد سياسيًا وعسكريًا في وجهه ويشعر أن الرهان على قوته العسكرية لم يعد يكفيه.
– الإدارة الأميركية عندما تبدل مواقفها وسياساتها حياله.
– الداخل الإسرائيلي عندما يتنبه إلى خطورة المصيدة التي يجره نتنياهو إليها.
– المجتمع الدولي عندما يتوحد تحت سقف مجلس الأمن لإصدار قرارات ملزمة تدين نتنياهو وتحمله مسؤولية ما يقوم به للبقاء على رأس الحكم في إسرائيل.
بانتظار ذلك، علينا قبول حقيقة أن التصفيق وقوفًا على الأقدام لنتنياهو في الكونغرس الأميركي قبل أيام أسهم في تشجيعه على نقل الجبهات إلى خارج قطاع غزة وتوسيع رقعة الحرب في المنطقة. وأن لغة التهدئة الإقليمية التي كنا نعوّل عليها في العام المنصرم باتجاه تفعيل ملفات السلم والصلح في المنطقة، تراجعت لصالح نبرة التوتير والخصومة والحرب. وثبت أيضًا أن الحراك السياسي والدبلوماسي باتجاه وقف القتال في غزة لم يكن أكثر من مناورة تسهل لإسرائيل الانتقال إلى جبهات حرب جديدة يحاول البعض تجنبها وتجنيبها.
أوقفت أجهزة الأمن التركية في الأشهر الأخيرة عشرات الأتراك والأجانب المتهمين بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي في التجسس على المقيمين العرب في تركيا. لا أحد يعرف تمامًا عدد الموقوفين رسميًا بهذه التهم حتى اليوم، وعدد المفرج عنهم، وهل اقتنع القضاء بالأدلة التي قدمت لإدانة هؤلاء. لكن المؤكد هو أن الموساد لا يضحي بعملائه بشكل مباشر ويورطهم، بل يفضل شركاء ووكلاء يستخدمهم للقيام بهذه المهام. الموساد يتحرك بالتنسيق مع الأجهزة العسكرية لتنفيذ أوامر التصفية الجسدية عندما يتأكد أن المعلومات التي زودها بها العملاء المحليون صحيحة تمامًا. ويبدو أن هذا ما حصل في الضاحية الجنوبية لبيروت خلال عملية اغتيال “السيد محسن” وفي طهران عند مهاجمة إسماعيل هنية.
رسائل نتنياهو على خط بيروت – طهران هي بأكثر من اتجاه ولأكثر من طرف:
– استهداف جهود الوساطات السياسية العربية والإقليمية على خط التهدئة في قطاع غزة، والتي لا تعطيه ما يريد بعد أشهر من القتال دون أن يحقق أي انتصار عسكري حقيقي، وضعه في موقع “الجالس فوق الركام” بنظر المجتمع الدولي.
– الاستفادة من الضوء الأخضر الأميركي الذي أشعله بايدن والكونغرس أمامه قبل أيام لمواصلة المهمة التي بدأها قبل أشهر.
– الاستقواء بالدعم الأميركي له بعد إقناع بايدن باستعداده لدعم المرشحة الديمقراطية وتجيير أصوات اللوبيات اليهودية في أميركا لمن يقف إلى جانب تل أبيب في هذه المرحلة.
– سحب ورقة “اليوم التالي” الإسرائيلية من يد المعارضة والرافضين لسياسات نتنياهو في صفوف القيادات العسكرية بعد تصاعد أصوات المعارضين لمواصلة الحرب والداعين لتفاهمات سياسية وأمنية جديدة مع الجانب الفلسطيني.
– تسهيل مهمة القيادة الإيرانية في حسم موقفها بين خيار التصعيد مع إسرائيل أو الذهاب إلى التهدئة، مضحية بكثير من الأوراق السياسية والأمنية التي تملكها لصالح أخذ ما تريده في ملفات إقليمية على حساب العديد من دول المنطقة في حالة مشابهة لما جرى في العراق عام 2009 وأمام طاولة الملف النووي عام 2015.
– دفع قيادات حماس بعد اغتيال هنية لتبني سياسة فلسطينية جديدة أكثر اعتدالًا وانفتاحًا على ما يقوله ويريده محمود عباس بالتنسيق مع بعض العواصم الإقليمية على طريق التهدئة.
عندما كان البعض داخل تركيا وخارجها يدعو أنقرة لترشيد خطابها وعقلنته لاستعادة الدور بعيدًا عن لغة التهديد والتصعيد، كان الناطق الرسمي باسم “حزب العدالة والتنمية” عمر شيليك يعلن أن تركيا ماضية في خدمة السلم العالمي، وهو يكشف النقاب عن إنجاز جهاز الاستخبارات التركية أكبر عملية تبادل أسرى بين أميركا وروسيا، شملت الإفراج عن 26 شخصًا كانوا محتجزين في سجون 7 دول من بينها الولايات المتحدة وروسيا، جرى مبادلتهم في العاصمة التركية. رسالة الرئيس التركي أردوغان لتل أبيب قبل ساعات من هذا الإنجاز لم تكن عبثية، إذ كانت موجهة أصلاً لواشنطن وموسكو، وهو يقود هذه الوساطة، أن نتنياهو سيدفع ثمن محاولته إشعال الحرب الإقليمية، وأن القوات التركية قد تقوم باللازم كما فعلت في قره باغ وليبيا إذا لم يتحرك البعض لردعه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا