اعتادت إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية، والتي باتت تُعرّف، أيضاً، كدولة إبادة جماعية، على انتهاج سياسة الاغتيال لتصفية خصومها، باعتبارها جزءاً من استراتيجيتها الأمنية أو العسكرية، لذا فإن عملية اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” (31 تموز (يوليو) 2024) التي تمّت بعد ساعات قليلة من عملية اغتيال استهدفت فؤاد شكر، القيادي البارز في “حزب الله” في لبنان، تأتي في هذا السياق، بمعنى إنها ليست عملية طارئة، أو خاصة.
وكانت إسرائيل اغتالت العديد من القادة الفلسطينيين، من كل الفصائل، منهم ياسر عرفات (أبو عمار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار (أبو يوسف) وكمال ناصر وماجد أبو شرار وغسان كنفاني ومصطفى الزبري (أبو علي مصطفى) وفتحي الشقاقي وخالد نزال وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأحمد الجعبري وصلاح شحادة وصالح العاروري، وكثر غيرهم.
معلوم أن عمليات الاغتيال تلك تمّت في فلسطين وبيروت وتونس وحتى في روما (ماجد أبو شرار، 1981) ومالطا (فتحي الشقاقي، 1995)، لكن عملية اغتيال هنيّة تختلف عن غيرها، إذ تمّت في طهران، عاصمة ما يسمّى محور “المقاومة والممانعة”، ما يحمّل النظام الإيراني بعضاً من مسؤولية، سواء بعدم تأمينه الحماية له، أو إخفاقه في ذلك، كما بعدم صدقية ادعاءاته في شأن مواجهة إسرائيل.
وكما شهدنا حتى الآن (على الأقل)، فإن النظام الايراني ظلّ يحرص على النأي بنفسه عن أي مواجهة حقيقية مع اسرائيل، رغم أن قادته يتبجّحون دوماً بالقدرة على تقويض وجودها في بضعة أيام، إذ هم فقط يدفعون الميليشيات، التي تشتغل كأذرع إقليمية لإيران، والتي تدخل في منظومة “فيلق القدس”، التي تتبع “الحرس الثوري الإيراني”، في العراق واليمن وسوريا ولبنان لتوجيه ضربات محدودة، ومحسوبة لإسرائيل، رغم أن إسرائيل نفّذت عمليات عديدة في إيران ذاتها.
مثلاً، فإن إيران لم تردّ، بشكل متناسب، على قيام إسرائيل باغتيال محسن فخري زادة، المعروف كمهندس المشروع النووي الإيراني، في إيران ذاتها (أواخر عام 2020)، ولا على اغتيال العميد رضا موسوي، مسؤول الإمداد للحرس الثوري الإيراني، جراء ضربة صاروخية على منطقة السيدة زينب (أواخر عام 2023)، وبعده اغتيال حجة الله أميدوار، مسؤول استخبارات الحرس الثوري و”فيلق القدس” في سوريا، بغارة جوية على مبنى في حي المزة غرب دمشق (أوائل عام 2024)، ثم اغتيال العميد محمد رضا زاهدي، قائد “فيلق القدس” ومنسق أنشطة الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان، الذي قضى بغارة على قنصلية إيران في دمشق في 1 نيسان (أبريل) 2024.
أيضاً، فإن إيران لم تردّ، أصلاً، على اغتيال القوات الأميركية قاسم سليماني، رئيس الحرس الثوري الإيراني في بغداد (أوائل عام 2020)، ولا على اعتداءات، أو غارات، إسرائيل المتكرّرة على المفاعل النووي الإيراني في نتانز، مثلاً، ولا على العديد من عمليات الاغتيال الغامضة التي أودت بحياة شخصيات إيرانية عاملة في المشروع النووي. على ذلك، فإن الرسالة من عمليتي اغتيال هنية وشكر، أيضاً، موجّهة إلى قادة إيران، ومفادها أن إسرائيل لا تبالي بـ “خطوط حمر”، ولا تعترف بما يسمّى “قواعد اشتباك”، أو “توازن رعب أو ردع”؛ وهي المصطلحات التي تُستخدم في خطابات أطراف محور “المقاومة والممانعة”.
الرسالة الثانية هنا تفيد بأن إسرائيل تتصرّف باعتبارها تخوض حرباً متعددة الساحات، أي تقوم بعكس، أو بفرض، مفهوم “وحدة الساحات” وفقاً لطريقتها، باعتبارها أنها تخوض حرباً للدفاع عن وجودها، لشدّ عصب مواطنيها اليهود، وأيضاً، تخوض حرباً في مواجهة إيران ذاتها، وليس في مواجهة أذرعها فقط، إي إنها في ذلك الادعاء تحاول إضفاء نوع من الشرعية على حربها الوحشية. وضمن تلك الرسائل، فإن إسرائيل في توجيه الأنظار إلى إيران تحاول إظهار أن الصراع في المنطقة لا يتعلق بقضية فلسطين، ولا بالاحتلال والاستيطان والسياسة العنصرية ضدّ الفلسطينيين، وإنما ضدّ السياسات التي تنتهجها إيران، والتي تهدّد أمن واستقرار المنطقة، موظفة في ذلك “هجمات الحوثيين” عليها وعلى السفن التجارية في البحر الأحمر، ومستغلة الدعم الأميركي اللامحدود لها، سياسياً وعسكرياً ومالياً.
المشكلة هي أن النظام الإيراني لا يضع الأجوبة المناسبة للردّ على تلك الرسائل، ولمواجهة هذا التحدّي الإسرائيلي، تبعاً لضعف صدقيته في مواجهة إسرائيل، وأيضاً، تبعاً للسياسات التي تنتهجها الأذرع الإقليمية المرتبطة به في سوريا والعراق ولبنان واليمن، التي تمثل مصالح النظام الإيراني، أكثر مما تمثل مصالح مجتمعاتها.
على الأرجح، فإن النظام الإيراني لن يُقحم نفسه في مواجهة مع إسرائيل، لا سيما أنه يعرف أنها ستكون، أيضاً، مع الولايات المتحدة (والدول الغربية)، التي أعلنت أنها ستدافع عن إسرائيل بكل الوسائل. المعنى أن النظام الإيراني سيواصل من جهته انتهاج ما يسمّيه سياسة “الصبر الاستراتيجي”، أو النأي بالنفس، مع إمكان الردّ على إسرائيل بطريقة محدودة، يمكن استيعابها من إسرائيل (على نحو ما جرى بعد حادث الاغتيال في قنصلية ايران في دمشق)، بالتوازي مع الإيعاز لميليشياته في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان بتوجيه ضربات محدودة لإسرائيل، مع ملاحظة أن تكون تلك الضربات في مستوى لا يؤدي إلى إشعال حرب شاملة، لا سيما ضدّ “حزب الله” في لبنان، جوهرة التاج في الميليشيات الإيرانية، والمحسوب كرصيد للأمن القومي الإيراني فقط.
طبعاً، رسالة إسرائيل الفلسطينية، من وراء عملية الاغتيال تلك، هي أنه ليس لديها سوى استمرار الحرب ضدّ الفلسطينيين، لإخضاعهم، وتعزيز هيمنتها عليهم، من النهر إلى البحر، وضمن ذلك فإن حربها ضدّ “حماس” ستتواصل لإخراجها من المشهد السياسي الفلسطيني، لا سيما مكانتها كسلطة في قطاع غزة. ويبقى أن ثمة تحدّياً للفصائل الفلسطينية، ولا سيما “حماس”، بضرورة تمييز نفسها عمّا يسمّى “محور المقاومة والممانعة” الذي يضرّ بقضية فلسطين وشعبها وحركته الوطنية، لأنه يشتغل، فقط، لصالح تعزيز نفوذ إيران على الصعيد الإقليمي، ولأنه يتعاطى مع قضية فلسطين بطريقة استخدامية فقط، بدليل ما فعله النظام الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، في تخريب بني الدولة والمجتمع وتصديع وحدتها.
وكالعادة، فقد توعدت إيران بالردّ، وعلى لسان المرشد، فلننتظر ذلك الردّ وطبيعته وكيفيته.
المصدر: النهار العربي